مجلة الرسالة/العدد 980/كلمات
→ الكتلة الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 980 كلمات [[مؤلف:|]] |
قرية الأدباء ← |
بتاريخ: 14 - 04 - 1952 |
للأستاذ علي الطنطاوي
1 - طفلان
حدثني صديق لي أديب قال:
رأيت البارحة موهناً وراء ديوان المحاسبات وقهوة الشارع وهاتيك القصور الشم والمنازل العوالي - رأيت مشهداً أقر بأني عاجز على وصفه لكم، فإن كان باقياً لا يزال، وكانت رحمة الإنسان باقية - لا تزال - فيكم، فأذهبوا لتروه بعيونكم. أذهبوا، وخذوا معكم قلوبكم فإنكم ستحتاجون إليها، واحملوا دموعكم لتريقوها أمام هذا المشهد الذي يرقق قلب الصخر، ويفجر بالدمع عيون الجلمود، ويملأ بالشفقة والحنان أقسى القلوب: قلوب الشياطين والجلادين والمحتكرين.
مشهد طفلين أحدهما في نحو التاسعة والآخر في الرابعة، ما عليهما إلا خرق ومزق وأسمال، نائمين على الأرض عند باب القهوة، متداخلين متعانقين، قد التصق الصغير بأخيه، وألقى برأسه على صدره العاري من اللحم، يحتمي به من البرد والخوف، وقسوة الحياة، وظلم الناس، ولفه الآخر بذراعه يريد أن يدفع عنه بهذه الذراع الهزيلة، شر هذا البشر، ويكون له أماً، ويكون له أباً. . وكان وجه الصغير واضحاً في شعاع القمر الشاحب، فيه الطهر، وفيه الألم، وعلى شفتيه المزمومتين بقايا كلام حسبتها من بعيد بقايا لعنة حامية رمى بها هذا المجتمع، فلما دنوت لم أجد إلا آثار شكاة خافتة مبهمة، رفعها هذا الفم الصغير الذي ما تعلم البيان، إلى الله المنتقم الجبار!
طفلان ينامان على الطريق، ما تحتهما إلا الأرض العارية، وما فوقهما إلا السماء العالية، والناس الخارجون من القهوة بعد السهرة الممتعة، والعائدون من الوليمة بعد الأكلة المتخمة، والرائحون إلى بيوتهم من التجار، بعد خلوة طويلة أعدوا فيها العدة لجناية جديدة قذرة على هذا الشعب المسكين، والغادرون إلى النوادي والملاهي ليبدءوا سهرة أخرى، يصبون فيها ما لهم على الموائد الحضر، ويذوبون صحتهم في كؤوس الخمر، ويضيعون دينهم في تلك الليالي الحمر، في الفسق والعهر، كل أولئك كانوا يمرون بالطفلين ولكن لا يلتفتون إليهما، ولا يحفلون بهما، وهل يحف أحد بالكلاب النائمة في الطريق؟ من أين جاء هذان الطفلان؟ أين أبوهما؟ أين أمهما؟ كيف يعيشان؟ هل أبتسم لهما الحظ فوجدا (تنكة زبالة) لأحد الأكابر لينبشاها، فيستخرجا منها عشاءهما أم باتا على الطوى؟
لم يسأل أحد ولم يعلم أحد؟
ولا أنا. . . وهل أنا إلا واحد من (هؤلاء) الناس؟!
قال الراوي:
وأسرعت إلى أولادي، أحمل إليهم الحلويات الغالية، أعدها لهم بجنب السرير، حتى إذا أصبحوا وجدوها، وأغطيهم كي لا تصيبهم لفحة هواء في هذه الليلة العاصفة، حتى إذا أمنت عليهم وأرحت ضميري. . قعدت أكتب مقالة في محاربة الشيوعية، ومكافحة الإجرام، وتمجيد النظام الديمقراطي الذي يملأ الأرض حرية ومساواة وعدلاً وأمناً.
وخلا شارع بغداد إلا من الرياح العاتية، والكلاب الشاردة، وهذين الطفلين الذين ينامان على الأرض بلا وطاء ولا غطاء؛ ليس معهما إلا أشباح الظلام، وتهاويل الرعب، وآلام الجوع والبرد والحرمان!
2 - عواقب اللذات:
كنت أطالع إضبارة في محكمة الجنيات فوجدت صفحات في الفسوق تثير الشيخ، وتصبي الحليم، وتشعل النار في أعصاب الشاب القوي، حتى ما أظن أن في الدنيا قصة من قصص الأدب المكشوف، تفعل في إثارة الشهوة فعلها فتركت الإضبارة، وفكرت. . .
وقلت. . .
- هل تريد يا علي طنطاوي أن تكون مكان هذا الرجل تعيش هذا العيش اللذ بين الغيد والأنس، والعذارى الفاتنات؟ قل، وخل عنك هذا (الكذب الاجتماعي) الذي تعارفه الناس.
فسكت علي الطنطاوي، وتكلمت نفسه، فقالت: نعم
- قلت: وهل تريد أن تكون مكانه في السجن؟
- قلت: لا قلت: ولِم؟
- قالت: لأن اللذات قد ذهبت، وبقي عذاب السجن. . .
- قلت: فلماذا لا تذكر ذلك كلما دعاك الشيطان إلى لذة محرمة فملت إليها، وتقول لنفسك إنها ستذهب كما ذهبت اللذائذ الماضيات، ويبقى العذاب؟ ولماذا لا تذكره كلما دعاك العقل إلى خير فتكاسلت عنه لصعوبة البذل، ومشقة العمل، وتقول لنفسك إنها ستذهب هذه المشقة ويبقى الثواب؟
فكر فيما عملت من حسنات وخير؛ بذلت فيها من جهدك ومالك، وخالفن فيها هواك، ماذا بقي من الصعوبة التي وجدتها عند الحسنات؟ وماذا بقي من اللذة التي أصبتها عند المعاصي؟ لقد ذهبت آلام الطاعة وبقي ثوابها، وذهبت لذات المعصية وبقي عقابها، كالتلميذ يوم الامتحان إن كان قد جد وجد النجاح ونسي تعب المطالعة ونصب السهر، وإن كان قد لها ولعب فقد متعة اللهو وأنس اللعب؛ ولقي (السقوط).
فقس الآتي على الماضي، ولا تبع آجلاً خالداً بعاجل فان، ولا تغتر بحلاوة العسل إن كان فيه السم، ولا تخش مرارة الدواء إن كان فيه الشفاء. . .
وتصور أنك على فراش الموت، وقد باد الأمل وجاء الأجل. . ما الذي تحسه في تلك الساعة من حلاوة المعصية؟ ما الذي بقي لك من متع الجسد والقلب؟ هل بقي لك شيئاً منها؟ هيهات! لقد نسي الجسد لذات الجسد، وشغلت النفس عن مسرات النفس؛ وضاع المال فصار للورثة ما جمعت من مال، وتصرم الجاه فلا ينفع جاه، ولا شهرة ولا وظيفة ولا أدب ولا فن. . .
وتصور بعد ذلك القيامة وقد قامت، والصحف وقد نشرت، والحساب وقد أعلن؛ وكل ذرة من خير قد قيدت لك، وكل ذرة من شر قد سجلت عليك؛ أحصاه الله ونسيته، وعده وأغفلته، أين من نفسك يومئذ موقع هذه اللذاذات؟ وأين مكان هذه المتع؟ ما الذي استفدته منها؟ ما أفدت إلا الندم! وماذا استبقيت منها؟ ما استبقيت إلا الألم!
فأذكر هذا كل صباح وأنت غاد إلى عملك، وكل مساء وأنت مضطجع لمنامك. وكلما أغرتك بشر لذته، وكلما صدتك عن خير مشقته. . .
جرب هذه التجربة السهلة، وأنظر كيف تكون بعدها.
3 - المعلم الأديب
فتحت اليوم درجاً لي فيه أوراق لم أفتحه من نحو عشرين سنة، فوجدت صفحات رائعة من قصة كنت شرعت فيها ونفسي مترعة عاطفة، وقلبي متفتح للإلهام، ثم قطعتني عنها شواغل التعليم (وقد كنت يومئذ معلماً) وصرفتها من ذهني، حتى أني لأجدها الآن غريبة عني، كأنها لم تكن لي، ولم أكن كاتبها. . فجعلت أتلوها وجعلت صور أيامي الماضية تمر أمام عيني. . فأرى تلك الأيام التي أضعتها في التعليم، وتلك الأفكار والصور التي خسرتها ونكبت بها. . وليس المنكوب من ذهب ماله، أو احترقت داره، فإن الصحة ترد المال، والمال بعيد الدار، ولكن المنكوب من ثكل أفكاره؛ وأضاع ذكاءه؛ وعاش بائساً يائساً، ومات مغموراً منكراً؛ وقد كان أهلاً لأنيسعد حياً بذكائه؛ ويخلد ميتاً بآثاره.
إن المنكوب هو المعلم الأديب؛ الذي وهب له الأدب؛ وكتب عليه التعليم: إنه يكسب ثمرة حياته، وعصارة قلبه؛ الليالي الطوال التي أحياها ساهراً، عاكفاً على كتبه، مطفئاً نور عينيه، مذبلاً زهرة شبابه، يصبها كلها بين أيدي طلاب لا يكاد أكثرهم يحفظ لمعلم عهداً، ولا يذكر له رداً، يصبح المعلم الأديب وفي نفسه موضوع المقالة، وفيها صورها وأفكارها، ولكنه لا يستطيع أن يكتبها، إنه مشغول عنها بتصحيح وظائف التلاميذ، هذه الوظائف التي تحرمه لذة المنام، وأنس السمر، ومتعة المطالعة، وتأكل صحته ووقته، ثم إذا انتهى منها وحملها إلى التلاميذ مصححة لم يتنازل أحدهم إلى النظر فيها، وإنما يلقونها في أدراجهم لينظر فيها الشيطان، ثم يأتي الآذن فيجمعها ليوقد بها النار. . .
ويعد الدرس وينفق في إعداده من الجهد ما لا يعلمه إلا الله، والمخلصون من المعلمين، ويلقيه مندفعاً متحمساً. فلا يروعه (إن كان في الابتدائي) إلا تلميذ يخز رفيقه بمرفقه ليريه كيف اصطاد ذبابة. . . أو ليحدثه (إن كان في الثانوي) حديث رواية في سينما، أو مباراة على ملعب، أو تلميذ يقرأ قصة سخيفة من قصص الجيب، أو يصور على الورقة ثوراً له قرنان، أو يرسم الأستاذ المحترم. . . وإن كان (في الجامعة) رأى أمامه فلماً من أفلام الحب ناطقاً بلغة العيون. .
ثم يكبر الطلاب، فينكرون المعلم وينسونه، وربما أحتاج إلى أحدهم فأراه صنوف الحرمان، وربما صار أحدهم رئيسه فأذاقه ألوان الردى. . . مسكين والله المعلم!
4 - أجير الخباز
هذه صورة وصفية صادقة لحادث حدث من يومين، وكان النهار مصحياً دافئاً، وآلاف الشباب يتبخترون على طرفي شارع فؤاد، مرجلة شعورهم، مصقولة وجوههم، محبوكة ثيابهم، يختالون زهواً وإعجاباً، كسرب من الطواويس، أو كجماعة من ديكة الحبشة، منفوشاً ريشها، ومئات البنات، من كل جميلة صنعتها يد الله، وذات جمال من عمل الحلاق والخياط، وبائع الأصباغ وصانع العطور، يخطرن، ينثرن حولهن الفتنة، وينشرن الإغراء.
وشمس الأصيل تطل من خلال منافذ شارع الغربية، كما يطل الأمل من فرج اليأس؛ فتنقل هؤلاء الناس من أرض الحقيقة إلى سماء الأحلام، فيذهبون جميعاً إلى أعماق حلم ذهبي، تضيع فيه هذه الرؤوس المتعانقة، التي غرقت في نشوة الحب، وغابت في هذا الهمس الناعم، الذي تنسى معه الدنيا وما فيها، وهذه الرؤوس المفردة التي تتعلل بذكريات لذة ماضية، وخيالات لذة لم تأت، وتغوص في رؤى شيطانية فاجرة من عمل الحرمان.
ورأيت في وسط هذا العالم البهيج، السابح في غمرة النعيم، صورة من صور البؤس، ومظهراً من مظاهر هذا الظلم الاجتماعي. . رأيت صباً لا أظنه قد أكمل العاشرة، ضامر الوجنات من الهزال، بادي العظام، يمشي حافياً، بخطى واهنة متقاربة على ساقين كأنهما قصبتان من القنب، يلبس معطفاً واسعاً ممزق الظهر يتعثر فيه تعثراً، فوق قميص رقيق مخرق، يحمل على عنق دقيق مثل عنق الدجاجة (فرشاً) كبيراً عليه ركام من الخبز، يكاد الغلام ينسحق تحته.
وكان هؤلاء المنعمون الذين أثقلتهم التخمة. وأبطرهم الترف، يتحامونه ويبتعدون عنه، ويضمون أثيابهم أن تلامس ثيابه، كأنما هو مجذوم أو مجرم، أو كأنه وحش كاسر. . ولم يلتفت إليه واحد منهم. ولم يرحم هذه الطفولة المعذبة، ولم يقع عليه نظر، وإنما كانت الأنظار كلها منصبة على تلك العيون، التي يتدفق منها الفتون، وتلك القدود، التي تميس برقة، وتخطر بدلال. . .
وكانت السيارات تتسابق تحمل المدللين من أبناء الأمة: الموظفين الكبار الذين تهبط عليهم الخيرات بلا حساب، والمجدودين من الوارثين وأغنياء الحرب واللصوص المختبئين في ثياب الأشراف.
. . . ومرت سيارة أنيقة فخمة من سيارات الدولة فيها سيدة ملفوفة بالفرو، تكاد تنفزر مما نفخها البطر، وولد واقف على شباك السيارة، قد مد رأسه ينظر ويلتهي، وكأنه يسخر من هذا الشعب الذي دفع ثمن السيارة من عرق عامله، ودم فقيره، ليركب فيها هو وأمه، إلى الاستقبالات، والمخازن والسينمات.
ووقفت السيارة فجأة إلى جنب الغلام الذي يحمل (الفرش) ودفعه أحد السادة حتى لا يدنسه فمال على السيارة، فمس طرف رغيف مما في الفرش وجه الولد مساً رفيقاً، وقامت القيامة ووقف القسم الظالم من هذا الشعب، أمام القسم المظلوم، يمثل الأول ولد السيارة بقسوته وكبريائه، وأخذه ما ليس له واستطالته على من دونه، ويمثل الثاني غلام الخباز، بضعفه وبؤسه وكدحه وذلته، صرخ الولد وأعول، وهاجت الأم، ونزل السائق بقوته وبطشه على هذا الغلام، فضربه حتى كاد يحطمه، ورمى خبزه ودعسه بقدميه، وتم ذلك في لحظات، فما وصلت حتى كان كل شيء قد انتهى، والسيارة قد مرت كالعاصفة، لم تخلف وراءها إلا الغلام يبكي صامتاً، لا يرفع صوته ولا يستنصر أحداً، لأنه يئس من أن يجد في هؤلاء المفترقين إنساناً يصغي إليه.
وأسدل الستار على المأساة، وعاد الموكب الحالم يتابع طريقه يستمرئ حلمه الذهبي المترع بالنشوة والشهوة والفتون. . .
وكأن شيئا لم يقع، لم نقتل العدل، ولم نظلم الطفل، ولم نملأ هذا القلب الصغير حقداً على الحياة، حتى إذا كبر استحال هذا الحقد إجراماً فاتكاً مدمراً.
دمشق
علي الطنطاوي