الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 980/القصص

مجلة الرسالة/العدد 980/القصص

بتاريخ: 14 - 04 - 1952


جندي قبل الإعدام

عن الإنكليزية

جلس مستر أوين في غرفته الخاصة بداره الكبيرة في جرين مونتن بالولايات المتحدة، وكان كاسف البال، شديد الكآبة؛ والى جانبه قسيس القرية يواسيه ويخفف عنه.

بينما مكثت لوسي الصغيرة في ركن الغرفة تنصت إلى حديث الرجلين دون أن تلفظ ببنت شفة.

وتكلم مستر أوين قال: كنت أحسب حين وهبت أبني لهذا الوطن أني فعلت من أجل بلادي ما لم يفعله أي رجل آخر في أمريكا على سعتها، إذ ليس لي ولد غيره؛ ولكن هبتي لم تعش طويلاً، لأن ولدي المحبوب غلبه النعاس فنام دقيقة واحدة في نوبة حراسته بالمعسكر، وهو الذي لم يغفل لحظة عن أداء واجبه وكان مثالاً للنشاط الموفور والهمة العالية. . .

صحيح أنه أستسلم للكرى دقيقة، وأستحق حكم الإعدام الذي صدر عليه. ولكن ليتهم رحموا شبابه، وراعوا حداثة سنه، فأنه لم يجاوز الثامنة عشر. . . من يصدق هذا.

إنهم يتهيئون لرميه بالرصاص؛ لأن هذا التعس نام بضع ثوان، ولم يظل ساهراً الليل بطوله يراقب قدوم جيوش الأعداء المهاجمين. إنه الآن في السجن ينتظر تنفيذ العقوبة. فيما ترى كيف يقضي الوقت إلى أن تحين ساعته؟

وأثرت لهجة الرجل في نفس القس. فقال يروح عنه: دعنا نأمل رحمة الله. . . لماذا تيئس!

قال: نعم. نعم. فلنبتهل إلى الله ولنضرع إليه إنه غفور رحيم.

كان (بني) قبل التحاقه بالجندية يقول لي: سأعيش يا أبي خجولاً أمام نفسي وأمام الناس إذا لم أستعمل ذراعي القويتين المفتولتين من أجل بلادي عندما تقع الحرب ويدعوني الوطن. وكنت أقول له: أذهب يا ولدي، اذهب في حراسة ربك، وها قد حرسه الله!

ونطق مستر أوين بالعبارة الأخيرة في بطء، كما لو كان على رغم إيمانه قد ساوره الشك في رحمة الله! فقال القس: تشجع يا صديقي تشجع، ولا تقنط من رحمة الله!

وأصغت لوسي لهذا الحوار، وهي في موضعها منكسة الرأس، بالغة الأسى، ممتعقة اللون، لما أصاب أخاها (بني)؛ لكن لم ترسل عيناها دمعاً ولم تسمح لهمها وكدرها أن يشيعا على محياها، وكانت على حداثة سنها تقوم بنصيب وافر في إدارة شؤون البيت؛ ولذلك هبت واقفة حين سمعت طرقاً خفيفاً على باب (المطبخ)؛ وأسرعت وفتحت الباب ووجدت رجلاً يقدم إليها خطاباً.

وحملت الخطاب إلى أبيها وهي تقول:

- إنه منه. . . من أخي. . .

وكأن الخطاب وصية ميت أو رسالة من القبر! فقد تطلع فيه مستر أوين دون أن يجسر على فض غلافه. وارتجفت أصابعه وهو يدفعه إلى القس كما لو كان طفلاً لا حول له ولا قوة.

وفض القس الغلاف وقرأ ما يلي:

أبي العزيز:

- عندما تصلك هذه الرسالة أكون في عالم الأبدية! فالموت ينتظرني عند باب السجن. ما أشد ما أخافني هذا الخاطر وروعني! على أني فكرت كثيراً وقلبت الأمر على كل الوجوه حتى لم يعد لي الإعدام مخيفاً في نظري. . . لقد احترموا آخر رغباتي في الحياة وسوف لا يضعون الأغلال في يدي ولا العصابة على عيني، وعلى ذلك سألقى الموت كما يلقاه الرجل الشجاع الباسل، وفي هذا تعزية كبرى.

غير أني كنت ارجوا أن تقضي الأقدار بغير ما قضت، وأن تكون ميتتي أشرف من هذه الميتة. كنت أود لو أموت شهيداً في ساحة الوغى وحومة النضال مدافعاً عن بلادي وفي سبيل المجد، أما أن أعدم رميا بالرصاص كالكلب وبتهمة إهمال الواجب العسكري وهو شيء يقارب الخيانة، فذلك ما يؤلمني أشد الألم. ولا أدري كيف لم تقتلني هذه الفكرة قبل أن تقتلني بنادقهم؟

أبي: سوف لا يكون في حادثتي ما يخدش اسمك أو يصم شرف أسرتك. سأعترف ها هنا بكل شيء، وعندما أفارق الحياة آمل أن تشرح للداتي وأصدقائي ما وقع. أما أنا فرجل ميت والموتى لا يتكلمون.

تذكر أني كنت قد وعدت أم صاحبي (جمي كار) أن أعني بولدها الذي هو زميلي في الفرقة، فلما سقط (جمي كار) مريضاً بذلت كل جهودي من أجل راحته والأخذ بيده حتى تماثل للشفاء. على أنه قبل أن تجتمع له قواه وترد إليه صحته صدرت الأوامر لفرقتنا بالتقدم إلى خطوط النار. وناء (جمي) بحمله فحملته عنه فضلاً عن حقائبي وقطعنا شوطاً بعيداً، وانقضى النهار وأخذ الرجال يشعرون بالتعب وخارت قوانا جميعاً. أما (جمي) فقد عجز عن مواصلة السير ولم يمش إلا بعد أن مددت إليه يد المساعدة.

وحين شارفنا المعسكر كنت في أشد حالات التعب وأحوج الرجال إلى الراحة. لكن شاءت الصدف أن تكون نوبة الحراسة تلك الليلة لزميلي (جمي كار)، ورأيته محطماً يكاد يقتله الضعف والتعب، فتقدمت للحراسة عنه ونسيت أني في تلك اللحظة كنت أشد منه ضعفاً وإعياء، وصدقني يا أبي أني كنت عندما غالبني النوم على حال من التعب والإعياء بحيث أو أطلقت على رأسي رصاصة لما فتحت عيني ولا حركت ساكناً.

على أني مخطئ وخطئي أني لم أفطن لحالتي إلا متأخراً جداً. . . وعندما وصل القس إلى هذا الحد من القراءة قاطعه مستر أوين بهذه العبارة:

شكراً لله. إن أبني يموت شهيداً وليس خائناً، وعاد القس يقرأ هكذا:

قيل لي اليوم إن إعدامي تأجل يوماً واحداً بسبب ظروف طارئة، وهذه فرصة لكي أكتب إليك كما يقول رئيسي الطيب القلب. أصفح عنه يا أبي فإنه لم يفعل سوى أن قام بواجبه، وقد كان يود بإخلاص أن ينقذني لكن القوانين العسكرية صارمة ولا حيلة فيها. كذلك أرجو أن لا تضع مسؤولية إعدامي على رأس (جيمي كار) فإن المسكين منكسر القلب شديد الأسف لما حل بي. وقد ألح عليهم أن يأخذوه فدية عني ولكن أحداً لم يعر طلبه التفاتاً بطبيعة الحال.

أبي، لا أجسر أن أفكر في أمي ولا في أختي لوسي فيا ليتك تواسيهما وتجفف دمعهما. وليتك تقول لهما أني أموت شجاعاً باسلاً وإنه عندما تنتهي الحرب سينسيان العار الذي سيلحق بي الآن.

في هذا المساء عندما تغرب الشمس سوف تمر بخاطري صورة من صور السعادة الضائعة فأرى قطعان الماشية تمشي الهوينا من المرعي إلى الحظيرة، وأرى بعين الخيال شقيقتي لوسي في الشرفة واقفة تنتظرني وتلوح لي حين تراني؛ على أنها لن تراني ولن أعود!

(بني)

وفي ساعة متأخرة من تلك الليلة فتح باب الشرفة الخلفية بمنزل مستر أوين وانسابت من بين مصراعيه صبية صغيرة وهبطت الدرج الذي يؤدي إلى الطريق.

وكان المشاهد يحسبها لسرعتها طائرة لا ماشية، وكانت تهرول إلى جهة معينة لا تلتفت إلى يمين أو شمال، لكنها ترفع رأسها بين حين وحين شطر السماء يداها منقبضتان كأنها تضرع إلى ربها وتبتهل.

وبعد ساعتين طويلتين قضتهما هذه الصغيرة تسير وحدها في ظلمة الليل ووحشة وصلت إلى محطة ميل. وقبل أن تشرق الشمس كانت لوسي في العاصمة تسرع الخطى إلى البيت الأبيض الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية.

وكان مستر لنكولن (رئيس الجمهورية العظيم) قد دخل غرفته تواً وبدا يلقي نظرة على الأوراق المكدسة على مكتبه وأقبل يفحصها وينظر في شؤون دولته. . وبدون جلبة فتح الباب بهدوء وانسابت لوسي إلى الداخل وخطت نحوه ثم وقفت قبالته بخشوع ورهبة: عيناها إلى الأرض ويداها منقبضتان.

ووقع نظر الرئيس عليها ولم يبد عليه أنه غضب أو تململ حين فوجئ بدخولها، بل أبتسم لها مترفقاً وخاطبها بصوت مشجع، قال:

- نعم يا صغيرتي؛ ماذا تريدين في هذا الوقت المتأخر؟

- أريد حياة (بني) يا سدي

- بني؟ من هو بني؟

- أخي. إنهم يرمونه بالرصاص بسبب نومه في نوبة حراسته فعاد مستر لنكولن إلى الأوراق التي أمامه ينظر فيها وهو يقول:

- آه، لقد تذكرت الآن. إنه نام في أحرج الأوقات وأخطرها، وأعلمي يا صديقتي الصغيرة أنه أختار لنومه ساعة تتوقف عليها مصائر بلاده وحياة ألوف من الجنود. وهذا استهتار شنيع.

قالت:

- وهكذا يقول أبي لكن (بني) المسكين كان متعباً جداً يا سيدي، وكذلك كان (جمي) وقد قام أخي بعمل رجلين ولم تكن تلك الحراسة حراسته. كانت النوبة على (جمي) ولكن (جمي) كان مريضاً وعندما حل أخي محله لم يكن يفكر في نفسه ولا في تعبه ونسي أنه خائر القوى.

ورفع الرجل العظيم رأسه من بين الأوراق وعاد ينظر إلى ائرته الصغيرة وقال:

ما هذا الكلام يا طفلتي؟ أنا أكاد لا أفهم شيئاً. تعالي إلى جانبي وقصي قصتك.

وبمثل العناية التي يبذلها دائما في مختلف شؤون الدولة أقبل الرئيس لنكولن يفحص هذه الدعوى، ومشت لوسي إليه فربت على منكبها وحول بيده وجهها إليه، وأحست بعطفه عليها فرددت قصتها وقدمت إليه خطاب أخيها لأبيها فأخذه منها وألقى عليه نظرة ثم قرأه بعناية، وحالما انتهى منه أمسك قلمه وخط بسرعة بضعة أسطر على ورقة ودق جرساً أمامه فأقبل أحد الحجاب، وسمعت لوسي الرئيس وهو يقول للحاجب: أبعث بهذه الرسالة في الحال!

وبعد يومين من هذه المقابلة وفد إلى دار الرياسة جندي شاب ومعه صبية صغيرة. كان الشاب (بني) وكانت الصبية أخته (لوسي) واستقبلهما الرئيس في غرفته الخاصة واحتفى بهما؛ وكان يلبس حلة عسكرية جديدة تزين كتفيها شارات الترقية التي رفعته إلى درجة ملازم وخاطبه الرئيس قال:

لقد عفوت عنك ورفعت درجتك يا بني لأن الجندي الذي يحمل حقائب زميله المريض ويموت من أجل غيره دون أن يشكو أو يتبرم، يستحق تقدير الوطن.

وعاد بني ولوسي إلى جرين مونتن، حيث استقبلتهما الجماهير الهاتفة في المحطة، وبسط مستر أوين يده لولده والدموع تنهمر من مآقيه على خديه وسمعه الناس وهو يهتف بحرارة: (لله الحمد!)

م. ص