مجلة الرسالة/العدد 98/هو ذا الربيع!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 98 هو ذا الربيع! [[مؤلف:|]] |
الانتحار ← |
بتاريخ: 20 - 05 - 1935 |
للآنسة النابغة (مي)
الربيع الربيع، هو ذا الربيع!
في قمر الأسحار، في انبلاج الأسحار
في مرح الأطيار، في عبير الأزهار
في النهار الدوار، في الأصيل البديع!
الربيع الجديد، هو ذا الربيع!
أنا القلب السعيد، وهو ذا الربيع!
في سويدائي يحتجب الوجه المحبوب دواماً
وراقه أن يستهل مشرفاً على البرية، فانقلبت قبة الفلك محراباً تلألأ فيه طيف من بهائه، وفي مدى الأبعاد شاعت بهجة تعكس شيئاً من حلاوة ابتسامته وفيض سنائه. وانبرى الربيع يزجي آيات التسبيح والتهليل بأشكاله وألوانه، لأنه اقتنص لمحة من ذلك الوجه، فتنضحت مجاليه برونقه واتزرت بروائه
وتجمدت الأزمان في لحظة، فهي أبدية آبدة تخلد حبوري والوجود كله هالة تحيط بالوجه الفريد المعافى وخوالجي حيال الوجه وهالته نبض للوجود وترتيل:
(أنت مرتع هيامي، أيها الربيع!
(يا ربيع النشوان، أيهذا الربيع!)
أنا الحدائق والرياض، وهو ذا الربيع!
أرواح الأحباب والخلان متجمهرة في رحابي
معارض الوشى والزركشة نضيدة، ومتاحف اللمعان والإشراق عديدة؛
الأشجار تكللها تيجان الظلال والأنوار، وفيالق الغصون خاشعة كأنها في حضرة ربانية؛
والمرئيات كلها على ارتقاب وانتظار، تتوقع نبأ خطيراً قد يكون إفصاحاً عن بعض ضمير الأكوان.
أقضي الأمر ففزت، يا أخواتي الكائنات، بما كنت تتوقعين؟
سيال من ذوب النصر والابتهاج يدفق علينا، وكان كل ما ترى في الأمكنة من مراج الألحان يتلخص في حضني نشيداً:
(شتيت الأجزاء وحدة واحدة، أيها الربيع!
على طور حسنك نتجلى معك، أيهذا الربيع!)
أنا الينبوع الصافي، وهو ذا الربيع!
ظليلة تحنو الشجرة علي، وأنا في فيئها الحنون جاثم.
بلورية الجلباب بلورية الرنين تتلاحق مياهي، وقد أودعها الربيع لاعج الشوق ووصب الحياة؛
وفي مترنح أسجوعتها نداء وإغراء، ونعومة واستعطاف، ووعد ووفاء، وثقة ونوال.
مياهي تفضض الحصى وترطب الأعشاب والادغال، في جريها الحثيث إلى حيث لا تدري. هي تتوق إلى رشيد السخاء كيلا تحسب ولا تدخر.
وتتوالى الساعات فلا يتفيأ شجرتي شريد الهجير، ومرآتي المتثنية لا ترسم وجه المرتوي الشكور!
ليس من عابر، غير ذلك الذي مني أخذ ما أخذ ليقذفني بالأحجار، ويترك منه تذكاراً، اللعنة والأقذار!
اليأس خالط صفائي، والكآبة حلت في مياهي!
وبت أحلم بالذين طوحت بهم السبل فهاموا في القفر عطاشا، بينا مدرار أجاجي يناديهم وينطق باسمهم جزافاً!
ولامستني مؤاسية في الظلام الأفنان، فاستحالت مياهي عبرات وغدا نشيدي شهيقاً وانتحاباً:
(الربيع الحزين الحزين، هو ذا الربيع!
(ربيع الجحود والهجران، كيف احتمل الربيع؟)
أنا الصحراء القحطاء، وهو ذا الربيع!
الصحراء الواجمة الكتوم، كذلك كنت وكذلك أكون!
الحياة صور وأشكال وسنن؟
أفي الحياة ولادة وموت؟ أفي الحياة تبديل وتحويل؟
أفي الحياة نمو ونشوء وازدهار؟
مه عن الصحراء، أيهذا اللغو السقيم!
أنا مملكة العي والبكم والصمم والعمي!
أنا منطقة السأمة الآيسة والغليل القتال!
مائي سراب، وظلي تراب، وسبلي أتاويه، وملامسي لوافح وسموم، ومعالجي مجاهل المفاوز، وأفجاج الأهوال.
إني في ربدتي ومحلي حجة رهيبة على إجحاف الأقدار، الأقدار التي تعاقب بلا ذنب وتغرم بلا سبب، وتبتاع خصب المروج بعقمي المقيم
أنا في قحطي المفروض وسكوتي المستمر، أسيرة الوحدة والانزواء.
أنا في رحاب الأرض حبيسة.
أنا تزدردني الرمال على الدوام، فأنى لي أن أعول:
(ليس لي الربيع، ليس لي الربيع!
(ربيع الرمال والسعير، ما حاجتي إلى الربيع؟)
هو ذا الربيع، هو ذا الربيع:
مغرياً في الفضاء، فتاناً في الحدائق،
بهيجاً في الالوان، رشيقاً في الشقائق،
طروباً في قلب الجذلان!
هو ذا الربيع، هو ذا الربيع!
كئيباً في قلب المظلوم، جريحاً في قلب المحروم؛
شاملاً بعطف نصفه قسوة،
حاضناً برفق نصفه عنف،
موحياً أملاً نصفه يأس،
مذكياً خصباً نصفه قحل،
حافزاً شباباً نصفه هرم، مجدداً حياة نصفها ردى!
الربيع الربيع، لمن يكون الربيع؟
الربيع الجديد هو ذا الربيع!
الربيع العابر، هو ذا الربيع!
(مي)