مجلة الرسالة/العدد 979/الكونيات والعلوم الحديثة في شعر الرصافي
→ كلمة تقال. . .!! | مجلة الرسالة - العدد 979 الكونيات والعلوم الحديثة في شعر الرصافي [[مؤلف:|]] |
الباكستان ← |
بتاريخ: 07 - 04 - 1952 |
بمناسبة الذكرى السابعة على وفاته
للأستاذ خالص عزمي
الرصافي - الذي نحيي ذكراه - ثورة من ثورات الفكر المجدد، وداعية من دعاة النهضة العلمية الحديثة، فضلا عن كونه أميرا من أمراء الشعر، أطلق لفكره العنان في مواضع التفكير الصائب، ذلك التفكير الذي تنطلق منه حينا تأملات الذهن الباحثة عن شتى العلوم والفنون
كان الرصافي - رحمه الله - يبعث بصره (في كثير من الأحيان) جوالا في السماء في ذلك الكون الشاسع، في ضياء الشمس نهارا، وإلى كواكب السماء، إلى البدر المنير ليلا، فيصور بريشة الإحساس المرهف، ريشة الفنان الملهم، صورا رفيعة المغزى، تقترب من الحقائق شيئا كثيرا، معتمدة على فكر ثاقب، وتطلع متزن، ثم على إجهاد في البحث، والتتبع المستمر لأراء كبار الكتاب والمفكرين، فيصل بكل ذلك إلى كبد الحقيقة، ولا ينتهي منها شيئا حتى يبدأ بسلسلة من الأفكار الجديدة، شأن كل شاعر حر ومفكر مبدع
يجلس الرصافي ليلته بأفكار مجنحة، ونفس هادئة، وفكر مستقر، يرسل بصره في تلك الصفحة التي تضيئها أنوار النجوم الزواهر، والمجموعات النورية، فتحولها قطعة كبيرة لا تدركها الأبصار، شاعرية التكوين والتشكي، لا يمكن وصفها على حقيقتها إلا من شاعر ملهم، كالرصافي. . . قلنا يجلس ليلته، فلا يكاد يستقر بصره حينا حتى تثور شاعريته فيقول ويستمر في القول حتى ينتهي به المطاف إلى تكوين قصيدة مسبوكة الحواشي يحار لتكوينها الفكر، كما حدث في قصيدته الرائعة (تجاه اللانهاية) حيث يقول: -
في فضاء لو سافر البرق فيه ... ألف قرن لما أتى مستقره
ولو الشمس ضوعفت ألف ضعف ... لم تكن في أثيره غير ذره
ولو الفكر غاص فيه مسغذا ... لم يكن بالغا يد الدهر قعره
سعة تحسب المجرة فيها ... حلقة ألقيت بصحراء قفره
إن تكن هذه المجرة نهرا ... مستفيضا فشمسنا منه قطره
إن تسائل عنا فنحن هباء ... ذر من صنعة القوى بمذره ثم أنك (يا قارئي الكريم) - لو ألقيت نظرة على قصيدته المشهورة - من أين والى أين - لرأيته ينفذ في مواضع كثيرة قول العلماء المشهور ونظريتهم المعروفة التي تتلخص في (إن الضياء حاصل من اهتزاز الأثير فيقول: -
من أين من أين يا ابتدائي ... ثم إلى أين يا انتهائي
أمن فناء إلى وجود ... ومن وجود إلى فناء
أمن وجود له اختفاء ... إلى وجود بلا اختفاء
لأي أمر ذه الليالي ... تأتي وتمضي على الولاء
أرى ضياء يروق عيني ... ولست أدري كنهه الضياء
وما اهتزاز الأثير إلا ... علالة نزرة الجلاء
وهنا يرى (القارئ) أن الشاعر الكبير قال في البيت الأخير ما معناه (أن العلماء فسروا ذلك التفسير المبهم لأنهم لا يدركون الحقيقة بل وجدوا ذلك الحل تخلصا في حلقة مفرغة لا يتصلون إلى نهايتها بتاتا)
ثم يصف تزاحم الذرات في الجسم وهو ما يسمى (عرك الإلكترونات) فيقول: -
فإن أجزاء كل الجسم ... مبتعدات بلا اتقاء
وفي دقاق الجماد عرك ... يتهم الحس بالخطاء
وينتقل بعد ذلك فيخاطب تلك القوة الخارقة المعروفة قوة الجذب فيقول: -
يا قوة الجذب أطلقيني ... من ثقلة أوجبت عنائي
ثم يتابع القول فيتجه نحو الكهرباء السماوي الذي ينبعث من النجوم والكواكب والأقمار فيقول
وأنت يا كهرباء سر ... بدا وما زال في غشاء
عجائب الكون وهي شتى ... فيك انطوت أيما انطواء
أضأت إن شئت كل داج ... لنا وأدنيت كل ناء
ففي هذه القصيدة لاحظ - القارئ الكريم - أن المرحوم الرصافي قال في أهم النظريات العلمية الحديثة، فقد قال في (تزاحم الإلكترونات) وجزيئات الجسم ثم في قانون الجذب العام ونظرية دارون في النشوء والارتقاء وفي الإشعاع الضوئي، هذه المواضيع كلها تصور لنا مدى تتبع الشاعر الكبير للنظريات العلمية، تفنيدها في مواضع ومجاراتها في مواضع أخرى
وتتبلور الفكرة التي نتحدث عنها في وضوح شامل في قصيدته ال (كن يا ضياء) ومعناها (كن إلى ذلك الشيء يا ضياء. . . أو توجه إليه) وبها ينتقد أكبر العلماء وأرقاهم مدارك في علوم الفلك والطبيعة: حيث يقول
أبيني ما وراءك يا دراري ... فنحن نخاله بعدا شطونا
قد أتسع الفضاء لك اتساعا ... فهل أبعاده بك ينتهينا
وترصدك الأنام وما أتانا ... بعلم كيانك المترصدونا
(فهدشل) ما شفا منا غليلا ... ولا (غاليل) أنبأنا اليقينا
و (كبلر) قد هدى أو كاد لما ... أبانك يا نجوم تجاذبينا
ومن كل ما تقدم يتبين للقارئ الكريم أن للرصافي عقلية استوعبت كثيرا من العلوم، وأدركت من الحقائق والمحسوسات ما جعلها ترتفع شيئا كبيرا عن المستوى الفكري السطحي لأكثر الشعراء
ونحن بهذه الكلمة البسيطة لا يمكننا تبيان ما نريده في مجال هذا الموضوع المتشعب، إذ لو أردنا تحقيق ذلك وإدراكه لاحتجنا إلى كثير من الصفحات، وكثير من الساعات بل الأيام لكي نسجل بها أو نشرح ما قاله شاعرنا الكبير في هذا الصدد
ولكن لا بأس من أن ننهى حديثنا هذا بما قاله العلامة الكبير (المغربي) في مقدمته للطبعة الثانية من ديوان (الرصافي) حيث كتب يقول في هذا الباب - باب الكونيات - ما يلي (. . . وقصائده (تجاه اللانهاية) و (من أين إلى أين) و (نحن على منطاد) و (الأرض) و (الكن يا ضياء) و (ومعترك الحياة) وغيرها لو حولت إلى نثر كانت من خير المقالات التي وصفت بها الكائنات وصفا منطقيا على أخر نظريات العلم الحديث. . ففيها بيان أو شرح لوحدة المادة، والجاذبية، والأثير الكهربائية، وأشعة (رنجتن) وأراء دارون في النشوء والارتقاء، ومذهب ديكارت في التوصل إلى اليقين عن طريق الشك، ومبادئ الاشتراكيين في أن تكون للعامل حصة من إنتاجه)
تركوا السعي والتكسب في الدنيا وعاشوا على الرعية عاله يأكلون اللباب من كد قوم ... أعوزتهم سخينة من نخالد
يتجلى النعيم فيهم فتبكي ... أعين السعي من نعيم البطالة
ليس هذا في مذهب الاشتراكية إلا من الأمور المحالة
بغداد
خالص عزمي