مجلة الرسالة/العدد 978/من وعي المقالة الصامتة
→ بين الحقيقة والخيال: | مجلة الرسالة - العدد 978 من وعي المقالة الصامتة [[مؤلف:|]] |
مصير الإنسانية في أيدي الشيوخ ← |
بتاريخ: 31 - 03 - 1952 |
الصمتالبليغ
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
روي أن لقمان الحكيم جلس ذات يوم إلى نبي الله داود عليه السلام، وهو يعمل درعاً من حديد، فعجب من ذلك لقمان، واعتملت في نفسه عواطف مختلفة، وأحاسيس متباينة، لأنه لم ير درعاً قبل الآن يصنعها صانع ملهم، في براعة وإتقان، وحذق وافتتان. بيد إنه أثر الصمت، لأنه وجده أنسب من الكلام للمقام، إذ لم تبد على داود عليه الإسلام علائم إجابته عن الحقيقة ما يصنع إذا سأله، وكنه ما يعمل إذا طلب منه بيان شيء من أمره، وظل لقمان على هذه الحال سنة كاملة، تمت فيها الدرع، وقاسها داود على نفسه، وقال: درع حصينة ليوم قتال!
فقال لقمان: الصمت حكم، وقليل فاعله. .!
وهكذا يأخذ حديث الصمت بمجامع القلوب، كما يأخذ حديث القول بمجامع القلوب، حتى يكاد يراجع الإنسان نفسه فيما علم من بلاغة الكلام، وأنها مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، وأن ذلك إن جاز حيث يستباح القول، فلا يجوز الاقتصار على ذلك حيث يمتنع على الإنسان الكلام، أو بمعنى أدق حيث يمنع من الإبانة والإفصاح. .
والصمت في بعض الأحايين أبلغ من الكلام. ولا يضير القارئ أن يجد مقالا نالت منه يد بالاختصار أو الحذف والبتر، وحكمت عليه دون روية بالوأد والقتل، وقضت على جمهرة القارئين بالحرمان من أصفى مورد، في عصر التاثت فيه الضمائر، واشتركت الألباب. . أجل لا يضر القارئ المخلص الذي تعود أن ينال غذاءه الفكري الكامل من كاتب بعينه، وأديب بذاته - ليكفيه أنيقرأ العنوان فحسب، ليستخلص منه الفكرة، وأن ينظر إلى الصحيفة البيضاء، فتتحول إلى نور يضيء معالم النفس، ويملأ شغاف القلب، ثم ينطبع في ذهنه كل ما كان يجب أن يسطر عليها، ويسجل فيها، ويراد بها. .!!
ولقد يسهب الخطيب ويشقشق، ويطنب الكاتب ويتدفق، ويتلاعب القاص أو الباحث بالألفاظ ويشقق، ثم لا يعرف السامع أو القارئ ما يريد أن يرمي إليه أحد هؤلاء من غرض، أو يهدف إليه من غاية، ويظل حائرا بين آفاق من الفكر الشتيت، ورك القضايا وللآراء لا تنعقد بينها صلة، ولا تجمع بين أطرافها آصرة. .
وقد يشير الأديب أو يصمت، فيفهم الناس عنه ما يريد أن يقول، ويتجلى لهم رأيه على أحسن ما تكون الآراء عرضاً وتحليا، ويكون هم من صمته أبلغ بيان، وأوضح مقال، وأفصح كلام. .!
إلا أنه إذا جاز أن بكم فم خطيب ناشئ، أو يعقل لسان كاتب أو شاعر شاد ممن يتصدون للإصلاح وقد سلمت نياتهم - لأن ما يقوله أحدهم ربما يخطئه التوفيق فيبعد به عن معناه، ويجانب الغرض مبناه، فيثير الفوضى والشغب، ويورث العناء والنصب - إذا جاز ذلك مع واحد من هؤلاء، فلا ينبغي أن يتبع مع من يترقب الشعب بأسره، بل العالم العربي والإسلامي جميعاً نتاج قرائحهم، وثمار أفكارهم، ليحظى الناس هنا وهناك بالفكرة الواضحة، والقولة الناصحة، والرأي السديد، يشرق على الناس إشراق الشمس الضاحية، فيبدد غياهب الجهالة، ويزيل غاشية العماية، ويخرج بالقلوب الضالة إلى وضح النهج، وبالأفئدة الحيرى إلى لاحب الطريق وسواه السبيل، ويقع من التهم الباطلة موقع الماء يغسل الأوساخ، ويزيل الأدران، والعدل يمحق الزور والبهتان، والحزم يقضي على الظلم والطغيان
يجب على الألسنة أن تنطلق لتفصح عما يكنه الجنان، ولا يفصح عنه غير البيان. . وعلى الأقلام أن تتحرر للتعبر عن خلجات العواطف. وومضات الأذهان فإن قلم الكاتب الكبير قبس من نور الإيمان. وسلاح من أسلحة الديان، وجدول رقراق من فيض النبوة لا يغيض. .
لا تكمموا الأفواه الطاهرة، فذلك يورث الكبتة الدامية، ويؤدي إلى النكسة القاضية، فتتهامس الشفاه، وينبعث دعاة الشر بالفساد في كل مكان، وتتسابق شائعات السوء على كل لسان، فيتكهرب الجو ويخنق الأنفاس. ثم لا يجد صواب الرأي بين كل أولئك طريقه إلى الوجود، وسبيله إلى النور، ويجد أعوان الباطل سانح الفرصة إلى الظهور، وايسر المناسبات إلى إذاعة الفجور، فيضيع الحق الواضح، ويقبر الخير بأيدي أعدائه وأحبائه على السواء. .
لا تعقلوا الألسنة المبينة، ولا تقيدوا الأقلام المفصحة، فذلك تحطيم لمصابيح الهدى، ومحو لصوى الرشاد، وتشجيع للخيال الشريد أن يذهب في تعليل ذلك مذاهب شتى، فقد لا تثير مقالة تنشر اهتمام جميع القارئين، فلا يقرأ الجميع لأديب، ولكنهم يقرءون بلا استثناء - بل ويقرأ معهم كذلك غير القارئ - المقالة المحذوفة، والرسالة المبتورة، وقد يفهمون منها اكثر مما تفهم، ويحملونها من المعاني والأعراض، والآراء والأهداف، أكثر مما تحمل، وهذا حق لا ريب فيه. . .
إن هذا الإجراء الجديد، يثير في النفوس عوامل شتى، ويراد منا - والحوادث جارية، ونحن وسط الخضم بين مختلف الأمواج العاتية - أن نصمت صابرين، ولكن من لنا بصمت الصابرين؟!
من لنا بصمت لقمان الحكيم؟!
عبد الحفيظ أبو السعود