مجلة الرسالة/العدد 978/في تاريخ الأدب التركي
→ لا تخافوا (الإخوان) | مجلة الرسالة - العدد 978 في تاريخ الأدب التركي [[مؤلف:|]] |
التعليم في مصر ← |
بتاريخ: 31 - 03 - 1952 |
للأستاذ عطا الله ترزي باشا المحامي
في وسعنا أن نقسم تاريخ الأدب التركي إلى عصريين أساسيين: جاهلي وإسلامي، وأن نقسم كذلك كلا من هذين العصريين إلى أدوار مختلفة. .
ورأينا أن نتحدث في هذا المقال عن تاريخ الأدب التركي منذ نشأته حتى تأسيس الدولة العثمانية بإيجاز
يتكون العصر الجاهلي من دورين هامين:
(أولا) دور الأدب المظلم، ولا نعرف عنه أكثر مما يرويه لنا المؤرخون من (مناقب الترك) المعرفة ب (الدساتين) وهي تتضمن بعض القصص والروايات التاريخية عن نشأة الأتراك وقيامهم بتأسيس الدويلات. وتحتوى كذلك على تراجم بعض الملوك والأمراء والقواد. وأشهر هذه الدساستين دستان (أوغوز خان) ودستان (بوزقورت) ودستان (شو) وغيرها. . . ولم يعرف الترك في هذا الدور الكتابة وإنما انتقلت إلينا هذه الدساتين من بعض الآثار التاريخية القديمة
(ثانيا) دور الأدب المكتوب: وشاع في هذا الدور استعمال الكتابة بين الترك. والكتابة الأولى التي عثرت عليها في التاريخ هي التي اكتشفها العلماء بالقرب من مدينه (طورفان) في الشمال الشرقي من (منغوليا) على ضفة نهر (اورخون). فقد وجدت في هذه النواحي ألواح من الرخام مثبتة في الأرض نقشت عليها بعض الكتابات. وكان أهمها ثلاث كتابات تعرف ب (تونيو قوق) و (كول تكين) و (بيلكه قاغا). ويرجع تاريخ الكتابة الأولىإلى سنة 720م والثانيةإلى سنة 732م والثالثة إلى سنة 735م. وقد ثبتت هذه الألواح التي تبحث عن حروب الترك مع الصينيين في جانب زعماء تولوا عرش الدولة التركية المسماة ب (كوك تورك)
ويعتبر (بيلكه تو نيوقوق) أول أديب عرف في تاريخ الأدب التركي على الإطلاق
ولقد أشار إلى وجود هذه الكتابات في أول الأمر المؤرخ الإيلخاني المعروف (جوبني) وذلك في القرن الميلادي الثالث عشر. وذكرها أيضا الدكتور الألماني دانيل مسرشميد حين رآها (سنة 1721م) أثناء قيامه برحلات في هذه الأنحاء وسماها بالكتابات الطلسمية ويعود الفضل في أمر اكتشافهاإلى العالم الدانيماركي طومسن
فقد وفق لأول مرة في 25111893 إلى قراءة كلمات (ترك،
ننكري، كول تكين). وتمكن هذا المستشرق بعد ذلك من حل
رموز الكتابة وقراءتها بكاملها. وكذلك استطاع من بعده العالم
الألماني الشهير رودلف أن يترجمها ترجمة صحيحة
وفي القرن التاسع من الميلاد أراد الأتراك، وقد هجروا استعمال هذه الكتابة، أن يتعلموا لونا جديدا من الكتابة تسمى بالكتابة الأويغورية. وقد انتقل إلينا كثير من الكتب التركية القديمة المدونة بهذه الكتابة، كانت موضع دراسة العلماء والباحثين، منها كتاب , وقد حققه العالمان بنج وفون جربيان ومنها كتاب (المتون ألمانية التركية) نشره فون لكك كتاب جمع بين دفتيه كثيرا من العقائد والأدعية في المذهب وهو ألماني الذي انتشر بين الترك في ذلك العصر. ومنها كتب نشرت من قبل أكاديمية العلوم النمساوية بعنوان وأخرى ذات قيمة أدبية عثرت عليها في مدينة (طورفان)
وهنا ينتهي العصر الجاهلي من الأدب التركي وبانتهائه تضمحل الكتابات القديمة شيئا فشيئاً حتى تنقرض وتحل محلها الكتابة الإسلامية بالتدريج
العصر الإسلامي:
إن هذا العصر في الأدب التركي يتكون من أدوار مختلفة تتبع في تقسيمها ما يلي:
صدر الإسلام: وجد الأتراك، حين احتكوا بالمسلمين في القرن الميلادي الثامن، أن هذا الدين يقوم على نظام اجتماعي متين، ويستند على أسس أخلاقية تتشابه مع قواعد العرب والعادات السائدة بينهم. فاعتنقوه على عجل. وقد انتشر الدين الإسلامي بين الأتراك انتشارا عظيما حتى أسلمت الأقوام التركية الساكنة في البلاد المتاخمة لحدود الصين جماعات ووحدانا. ولم يبق منهم غير أفراد قلائل لم يسعدهم الحظ في الاتصال بالمسلمين
ولقد أفاد الترك من الإسلام إفادة جلى. فنظموا حياتهم الاجتماعية وفقا لاعتبارات هذا الدين الجديد. فانتقلوا من طور البداوةإلى طور الحضارة، فبدءوا يسكنون المدن وقد اعتزلوا الحياة القبلية إذ رحلوا بعد الإسلامإلى الديار القريبة من مراكز الخلافة الإسلامية
ولم يؤثر في الحياة الأدبية عند الأتراك دين من الأديان التي اعتنقوها قبلا بقدر ما أثر فيها الدين الإسلامي الحنيف. ويتطلب دراسة هذا التأثير بنوعيه الإيجابي والسلبي تفصيلا وتمحيصا، وقد أجزناها الآن في سطور عسى أن نجد فرصة أخرى نعالج فيها هذا الموضوع بالشرح والتمحيص
لقد كان أثر الإسلام في الأدب التركي أعظم من أثره في الأدب العربي كما تبين ذلك من الآتي:
غير الإسلام من غير شك مجرى الحياة الأدبية عند الأتراك تغييرا عظيما. فأخرج الأدب التركي من عزلته الجاهلية وأدخله في قائمة الآداب الشرقية الحية. فنرى منذ ذلك اليوم ازدهاراً كبيرا ونمواً متزايداً في النتاج الأدبي عند الترك. ويندر أن نجد آثارا خلفها الترك من عصر جاهليتهم، إذ أن غالب الآثار التي أنتجها رجال الفكر التركي منشؤها هذا الدين القيم الذي مهد السبيل أمام المفكرين وأنار لهم الطريق، طريق الرقي في مدرج العلم والثقافة
وقد كان من آثار هذا الدين اقتباس الترك الأفكار الأدبية من خزائن الآداب الإسلامية الأخرى أضافتهاإلى ثروتهم
وكان الأدب التركي في الجاهلية أدبا فرديا غير متسم بطابع الأدب الجماعي، ونعني بالأول ذلك اللون من الأدب المشتت شمله والمجهول عوالمه، الصادر عن عقلية ضعيفة غير متكاملة. فما كان من الإسلام إلا أن وجد اتجاه الأدباء في أساسه توحيدا كاملاً
ولا ينكر ما لهذا الدين من تأثير سلبي في الأدب التركي من بعض الوجوه، كاللغة. وقد كانت اللغة التركية خالصة في أصلها، خالية من الألفاظ الأجنبية. وبعد نشوء العلاقة الدينية بين الأتراك وبين غيرهم من الأقوام بدأت الألفاظ الغريبة من فارسية وعربية تتسربإلى هذه اللغة بالتدريج حتى شاع بين الأتراك استعمال بعض القواعد الأجنبية في الكتابة استعمالا أذهب عن اللغة التركية روعتها
وقد تأثر الكتاب الأتراك بلغة القرآن تأثراً بليغاً حتى حدا بعضهمإلى استعمال اللغة العربية في الكتابة عوضا عن لغته الأصلية. وقد أنتجوا كثيرا من المؤلفات القيمة في هذه اللغة من بينهم فلاسفة عظام ومفكرون مشهورون. أمثال الفارابي وأبن سينا والزمخشري - صاحب الكشاف ومؤلف كتاب مقدمة الأدب - كما وأن آخرين منهم انساقوا بسبب الملابسات والظروفإلى استعمال الكتابة الفارسية بدلا من التركية أمثال جلال الدين الرومي صاحب المثنوي المعروف وغيره من المفكرين
التصوف في الأدب التركي:
ليس من شأننا الآن أن نتحدث عن تاريخ التصوف الإسلامي في عصوره المختلفة، وإنما وددنا أن نتطرق بإيجازإلى النواحي الأدبية منه بقدر ما يتعلق بالموضوع
إن آثار التصوف بدأت تظهر شيئا فشيئا في الأدب التركي منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وذلك حينما استخدم العالم المعروف الشيخ محيي الدين بن العربي نظريته المعروفة (وحدة الوجود) التي كان لها الأثر البالغ في الأدب التركي طوال العصور
وقد تأثر شعراء الترك كذلك بفلسفة الجاذبية الإلهية التي كان أصحابها يوقنون بتمثيل القدرة الإلهية في النفس البشرية عن طريق الإيمان بذاته إيمانا يطرد الشرور الكامنة في النفس، فيتجسم النور الإلهي في القلوب تجسما يحيه المؤمن في كل حين. . وكان هؤلاء الرجال يعشقون جمال الله عشقا خالصا لا يخامرهم فيه شك ولا يأخذهم منه ريب، ولم يكن هذا العشقالإلهي في نظرهم كالحب المجازي الذي يشعر به الإنسان تجاه الآخرين، بل كانوا يعتبرونه مودة صافية ناشئة من فرط ميلهم للوجود المطلق
ومن استطاع في رأيهم أن يتغلب على النفس الأمارة بالسوء بدافع غلاب لا يحمله إلا القليلون، واندمج في الوجود المطلق، فقد بلغ الغاية القصوى ونال الدرجة العليا في سلك التصوف فحاز رتبة (الفناء في الله)
ولقد تظاهر كثير من شعراء الفلسفة زمنا غير قليل، نذكر منهم الشاعر المعروف (نسيمي) من شعراء القرن الرابع عشر ميلادي الذي ألف ديوانا ضخما في الشعر التصوفي، وقد اشتمل هذا الديوان على قصائد جياد في تحبيذ ما ذهب إليه الصوفي الإسلامي الكبير (الحلاج المنصور) وكان نسيمي قد سلك مسلك الحلاج في قوله (أنا الحق) مما أثار ضجيج العلماء في عصره، فاغتاظ منه رجال الدين وأمروا بقتله فكشطوا جلده حيا فهلك
ومنهم الشاعر الإنساني العظيم (يونس أمره) وهو أحق أن نفرد له مقالا خاصاً في الرسالة ليتبين القارئ مدى قيمته الأدبية ومنزلته الممتازة بين الشعراء الصوفيين. ونكتفي اليوم بإيراد منظومة مترجمة من قصيدة مطلعها:
برساقيدن ايجدم شراب عرشدن بوجه ميخانه سي
يقول:
تناولنا الخمر من ساق كانت خمارته فوق العرش فأصبنا بالخمارة السكر، ففدينا الأرواح
حبذا هذا المجلس الذي تشوى فبه الأكباد على نار شمع وهاج تدور حوله الشمس كما تطير الفراشة حول النار
وفي هذا المجلس تنطلق صيحات (أنا الحق) من أفواه المخمورين الذين يعد أفقرهم في التصوف، في مستوى الحلاج المنصور ثم ينهي الشاعر منظومته بخطاب يوجه إلى نفسه قائلا:
حذار من مخاطبة الجاهلين بهذا الكلام الفياض
فإنك تعلم كيف يقضي هؤلاء الوقت. . .
ويلاحظ في هذه القصيدة أن الشاعر كنى عن الإله بالساقي. وعبر بالخمر عن العشق الإلهي. كما أنه روى حرقة كبده في حب الإله بشي الكباب في مجلس الشراب
وقد انتشرت هذه الألوان من المصطلحات الصوفية بين الشعراء حتى شاع استعمال كثير من تعابير اللهو والطرب في موضوع التغني بذكر الله. . .
البقية في العدد القادم
عطا الله ترزي باشى المحامي
ببغداد