2 - الحسن البصري مجلة الرسالة/العدد 977/الحسن البصري رئيس المدرسة الفلسفية الأولى في الإسلام للأستاذ حسين علي الداقوقي تصوفه عرك الحسن البصري أزمات فكرية متعددة، فيقول عنه الأستاذ حلمي ضياء (إنه وافق القدريين، فغدا مثلهم قدرياً ورأى حرية الإرادة والاختيار، ثم عدل عن هؤلاء بعد نقاش وجدل طويلين، وشرع يتبع عبد الله بن عمر ويقفو أثره معارضاً الجبرية والقدرية معاً، فتكونت له شخصية متميزة خاصة به فأوجد مذهباً وسطاً بين المذهبين وسطاً ذلك هو مذهب الحرية الصوفية) إلا أن هذا الرأي ينبغي إلا يجرنا إلى القول بأنه لما عدل عن زمن القدريين معناه ترك مذهب الاختيار، لنه في الواقع ظل ينزع إلى المذهب نفسه ويفصح عنه بمناسبات عديدة، وذلك مما دعا المعتزلة أن يعتبروه منهم. لم يبق من آثار الحسن البصري غير نصوص متفرقة في طيات الكتب، ورسائل تحملها كتب الاخرين، مع العلم إن مواعظه العامة كانت قد جمعها طلابه أيام حياته، ونشرت بعد وفاته من قبل حميد الطويل، وهو الأثر الذي تطرق إلى ذكره الجاحظ في عهده. كما نشرت من آثاره تعليقاته حول القرآن، ورتبت من قبل عمرو بن عبيد المعتزلي بشكل تفسير وان محاضراته المتعلقة بالأسس الأخلاقية في القرآن جمعت باسم (مسائل) جمعها صاحبه الأشعث الحمراني. أما محاضراته غير المدونة فقد رواها تلاميذه على شكل (روايات) تروى عنه. كان الحسن ورعاً تقياً يعده الصوفية من أقطابهم ويتمثلون بحكمه وجمله، وإذا حللنا التصوف الإسلامي إلى عناصره التي تكون منها وجدنا الحسن خير مثال لعنصر الزهد والتقوى بصفتهما الإسلامية، كذلك إن جاز لنا أن نقول إن الصوفية الإسلامية اتخذت لها مدارس مختلفة في البلاد الإسلامية المختلفة كالبصرة وبغداد وخراسان وتركستان، فأصبح الحسن البصري دعامة مدرسة البصرة وداعية الزهد والتقوى فيها. يقول ابن تيمية بصدد البحث عن نسبة الصوفية: (وقيل وهو المعروف، انه نسبة إلى لبس الصوف. فانه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنا دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن. وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار، ولهذا كان يقال فقه كوفي وعبادة بصرية) (وإذا عرف إن منشأ التصوف كان من البصرة وإنه كان فيها من يسلك من طريق العبادة والزهد ما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد، فهؤلاء نسبوا إلى اللبس الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيداً بلباس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال). وللمستشرق المشهور دوزي رأي آخر حول نشأت الصوفية وعلاقة الحسن البصري بها. فيقول (كانت في البصرة امرأة زاهدة ورعة تقية تسمى (رابعة)، وهي التي اعتاد حجاج العصور الوسطى زيارة قبرها الكائن على رابية تشارف القدس، فكانت على رأي الصوفية الأوائل، تعتريها حالات الوجد والشعور الإشراقي، وكانت أعلى مقاماً من الحسن البصري. ولو جاز لنا الشك في اعتبار الحسن البصري من اهل السنة، لا ينكر إنه كان يجوز نقطة بدء التي عند المتصوفة. ففي الوقت الذي يعتبر الحسن البصري الشعور بالخوف جوهر التقوى، يرى الصوفية عكس ذلك، فيبدءون من نقطة المحبة ويخاصمون الذين يتخذون الخوف مسنداً لهم. وقد حدث أن سئل أحد الصوفية (من الذي يجب أن يعتبر لئيماً؟) فأجاب (الشخص الذي يتعبد خوفاً من العقاب ورجاء للثواب) فسئل (لماذا تعبد أنت؟) فقال (للمحبة فحسب). بيد أن الظاهر - ولعله الحقيقة - يدل على إن التصوف الإسلامي أيام الحسن كان متمثلاً في الزهد والتقوى فقط، وهما العنصران الأساسيان في التصوف، أو بالأحرى هما الأساس له، إذا لم تكن العناصر الأخرى كالأفلاطونية الحديثة وغيرها قد دخلت فيه بعد. فالتصوف في هذا العهد كان في بداية نشأته وأوائل تأسيسه بشكل بسيط غير مشوب بالشوائب الأخرى التي اختلطت به فيما بعد. أما فيما يتعلق برابعة العدوية فلا يزال الشك يحوم حول صحة نسبة جميع الأقوال والأبيات الشعرية المنسوبة اليها فإن هذه الأقوال بحد ذاتها من حيث مبناها ومعناها تثير ريبة كل باحث ملم بثقافة ذلك العصر. إن هذا الرأي هو الآخر ليتضح للقارئ الكريم بكل جلاء في استعرضنا وتحليلنا مبادئ الحسن البصري الصوفية، في الفقرات التالية: إن نقطة البداية عند الحسن في هذا الباب هي استصغار هذه الدنيا الفانية الزائلة التي استصغرها الله ورسوله. وتجد في رسالته التي بعثها إلى عمرو بن عبد العزيز يقول: (أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل) وكذلك يرى أن الله كلف المنزوين (أهل الانقطاع) أن تنتهجوا ثلاثة مسالك: الامل، والاجل، والسحر. ومعنى ذلك أن يكونوا في حالة الأمل، وأن يدور في خلدهم الأجل في كل آن، وان يقضوا السحر أو الليل بالفكر، يلك الخصال الحميدة التي تميزهم عن سواهم من الناس الذين يضيعون آمالهم، ويعتقدون بالأجل عند موافاة المنية لهم، والليالي التي يقتضي قضاءها بالتفكير فهم يقضونها من غير تفكير. إن قاعدة الحياة عند الحسن البصري ليست بمجرد الحمية والتجنب، ولا بمجرد الورع والتقوى والابتعاد عن المنكرات الحقوقية وما شاكلها، إنما هي قبل كل شيء عبارة عن الزهد والخشوع لله، والتفرد التام عن كل العالم، وعن كل ما هو فان، وهذا معناه أن يكون الإنسان تجاه نفسه في حالة حزن دائم. ويروى إنه لم يضحك، وكان في حزنه كما قال يونس بن عبيد الله الحسن: كان إذا اقبل كأنما أقبل من دفن حميمة، وإذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه. كان إذا ذكرت النار عنده فكأنها لم تخلق إلا له. ومن أقواله التي يستشف منها اتجاهه في تصوفه: قال: إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون. ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون. قال عيسى بن عمر: سمعنا الحسن يقول: اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة، واعصوها فأنكم إن أطعتموها تنزح بكم إلى شر غاية، وحادثوها بالذكر فإنها سريعة الدثور. وكان يقول: ذهبت المعارف فبقيت المناكر ومن بقى من المسلمين فهو مغموم ويقول: ما من وسواس نبذ فهو إبليس، وما كان فيه إلحاح فهو من النفس. فيستعان عليه بالصوم والصلاة والرياضة، وإذا أراد الله بعبد خيراً في الدنيا لم يشغله بعيد ولا ولد. . . ومن لبس الصوف تواضعاً لله عز وجل زاده نوراً في بصره وقلبه. إن أساس الدين عند الحسن هو التقوى والحزن، ويليهما في ذلك الخوف. وقد لعبت فكرة الخوف دوراً هاماً في تصوف الحسن، فهي التي تيسر الفناء إزاء المطلق، والذوبان فيه، ولا شيء يطهر الإيمان كما يطهره الخوف. وقد ذكر في سياق رسالته إلى عمر عبد العزيز: أدمن الجوع، وشعاري الخوف. ولباسي الصوف، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلابتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما انبت الأرض للسباع والأنعام. وكان يردد ما مفهومه: إن الخوف والرجاء دعامتان يستند إليهما المؤمن على ان يكون الخوف عنده أقوى من الرجاء، لان الرجاء عندما يغلب الخوف يفضي إلى إفساد القلب، وبواسطة الخوف ذاته يستطيع أن نتبين عجز المتناهي، والفناء في داخل اللامتناهي. ذلك أن الشعور بالعجز يكشف بتضاد جدلي (ديالكتيكي) عن ماهية القدرة، وبهذه الطريقة نفسها يمكن الإصغاء إلى كلام الله، وهذا هو ما يدعى بـ (الاستماع) وبعد ما يمر الإنسان بهذه الحالات الروحية يفهم القرآن. ومن هذه الناحية يكون الحسن البصري واضع أساس علم النفس الصوفي أي (علم القلوب). ومن ثم يدخل في تحليل الحالات الداخلية للإنسان، وان التعاريف التي أوردها بصدد محاسبة الطوية والضمير كأنها قد أعدت مفاهيم الحارث المحاسبي في هذا المجال. وقد دعا الإنسان إلى ان يوجه نظراته إلى داخل نفسه، ويتأمل، لأن التأمل هو مرآة تتجلى فيها للمرء ما في الإنسان من محاسن ومساوئ، وهو يسيطر على نفسه بالتأمل، وإن سعة روحه هي سعة تأمله - وهي عبارات يتذكرها الإنسان عندما يلاحظ علم النفس عند. إن آثار هذه المواعظ لم تبق مقصورة على النطاق الأخلاقي والأدبي فحسب، إنما عملت على توسيع المفهوم الإسلامي والفلسفة في وقت واحد. فأصبحت شخصية الإنسان لا تفهم كمجرد شيء قائم على الأعضاء والملكات الروحية فقط - أي إن شخصية الإنسان تبعاً لهذا المفهوم ليست من اثر التركيب وحده، بل إنها تظهر قلباً كلياً نامياً متطوراً، وهذه هي بداية المذهب الروحي الإسلامي الذي توسع فيما بعد على أيدي المتصوفة الروحيين. تطرق الحسن البصري إلى مسألة خلق الأفعال البشرية، ورأى إن الله فوض للإنسان أفعاله الحرة، وهذا يعني إن اللهو هب الإنسان الفيض والاستعداد لاستطاعته القيام بهذه الأفعال، وهذا هو منشأ مذهب الاتفاقية بينما يرى المعتزلة مقابل ذلك نظرية التولد، أي انهم يأخذون بالنظرية القائلة: ان الله يوجد الأفعال في الإنسان، ولكنه يوجد كل فعل على حده. لذلك كانت نظرية الحسن مغايرة لمفهوم الإرادة الجزئية عند المعتزلة، وهي في الوقت نفسه مغايرة للمذهب الجبري عند الجبريين، فنظرية الحسن والحالة هذه تقول بالحرية على أن تكون مرتبطة بيقين إلهي. وختاماً لتصوف الحسن البصري ينبغي إلا يغرب عن البال إن أول اتصال بين الصوفية ونظام الفتوة تم في دائرة الحسن البصري؛ حيث كان الحسن نفسه يعرف بـ (الفتى) أحياناً وب (سيد الفتيان) أحياناً أخرى. ثقافته العامة ومكانته الاجتماعية كان الحسن أستاذ أهل البصرة، وبدرهم الطالع، يقول عنه ابن سعد: كان الحسن (جامعاً عالياً رفيعاً فقيهاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم، فصيحاً جميلاً وسيماً) قال ثابت ين قرة الصابئي (ما أحسد هذا الأمة العربية إلا على ثلاث أنفس: عمر بن الخطاب في سياسته، والحسن البصري في علمه، والجاحظ في فصاحته وبيانه. ويروى عن الربيع ابن أنس بأنه اختلف إلى الحسن عشر سنين أو ما شاء الله ما من يوم إلا يسمع منه ما لم يسمعه قبله. لم يكن الحسن مختصاً بعلم من العلوم أو بفن من الفنون؛ إنما كان متضلعاً بثقافة عصره، تطرق إلى المعارف المختلفة التي أذنت بالازدهار في محيط الإسلام. فقد وجه تعاليمه إلى عقول سامية لا إلى خيالهم، وبذلك أسس في الإسلام طريقة للتفكير تتعلق مباشرة بأوليات الفلسفة بحيث يمكننا أن نقول إن أول مدرسة فلسفية نشأت في الإسلام كانت في البصرة برئاسة الحسن البصري. كذلك كانت مواعظه رائعة تعمل في تكوين العقيدة وعلم أصول الدين واللاهوت. ويذكر له ابن النديم مصنفاً في التفسير، وله أيضاً كتابات في الشروح القرآنية، وقراءاته القرآنية مشهورة. وله مكانته في تطور النحو وعلم الكلام وخاصة في الفقه. فقد دعا إلى التفقه بالدين، بقي له مصنف، لعله كان في الفقه باسم (الإخلاص) ورد ذكره في أخبار الحلاج المفكر الصوفي المشهور، ولا نكون مغالين إذا قلنا ان له فضلاً عظيماً في تقدم الفقه الإسلامي وتوسيع طاقته، فقد سئل انس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، وذكر عنه قتادة وقال: ما جالست فقيهاً إلا ورأيت فضل الحسن عليه، وقال أيضاً ما رأيت عيناي افقه من الحسن، وقال بكر بن عبد الله: الحسن افقه من رأينا ومناقبه كثيرة ومشهورة. ودرج أبو اسحق الشيرازي في طبقات الفقهاء عدداً يسيراً من تراجم أصحاب الحسن وطلابه الفقهاء. فلا عجب والحالة هذه إذا ما وصفه المستشرق المعروف براون في بحثه عن نشأت الاعتزال بالفقيه المشهور. أما في مجال البيان فكان يشبه برؤبة بن الحجاج، فقد كان الحسن حقاً أحد فضلاء الإسلام وبلغائه، وكان طلقاً لبقاً، يحذق الحديث وفن الخطاب، حسن البديهية والارتجال. وقيل للحجاج من اخطب الناس قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة يعني الحسن وقال الغزالي: كان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء وأقربهم هدياً من الصحابة. وكان قصاصاً يعد من افضل القصاص واصدقهم، يستخرج العظة مما يقع حوله من حوادث، يجلس في آخر المسجد وحوله حلقته، حيث كان نظام التدريس العالي آنذاك يجري على شكل حلقات المحاضرة والمناظرة. لم يسلم الحسن البصري - كما مر بنا - من انتقادات وجهت إليه في أيام حياته، فقد تهجم عليه الشيعة الإماميون والخوارج لأنه وقف على الحياد من موقعة صفين، إلا إنه مع ذلك ظل يعتبر بين الناس رئيس الصوفية الكلاسيكية، ومربياً لعدد من المعتزلة الميالين إلى التصوف، كما تبعه بعض المحدثين من اهل السنة، وانتهت كل الحملات عليه بموته، وأثنى عليه الشيعة في بعض الأحيان وذكروا وآثره ومن ثم لا نستغرب من رواية ابن خلكان بان اهل البصرة كلهم تبعوا جنازته بحيث لم يبق في المسجد من يصلي صلاة العصر. وكانت وفاته 110هـ ودفن في البصرة القديمة، وقبره الآن بجانب قبر ابن سيرين مزار لمختلف الفرق الإسلامية. حسين علي الداقوقي