مجلة الرسالة/العدد 975/دفاع عن العباسة
→ رد على رد: | مجلة الرسالة - العدد 975 دفاع عن العباسة [[مؤلف:|]] |
دعوة محمد ← |
بتاريخ: 10 - 03 - 1952 |
للأستاذ ثروت أباظة
كتب الأستاذ باش أعيان مقالاً قيماً في الدفاع عن العباسة بنت المهدي، ولقد أثار مقاله هذا في نفسي فكرة كانت ما تزال تردد بها، وكنت ما أزال أفكر في الكتابة عنها حتى قرأت هذا المقال، فوجدت الفرصة قد دعتني إلى الكتابة. فالأستاذ باش أعيان نقل إلينا مجملاً من أقوال المؤرخين عن سبب نكبة البرامكة، ونقل إلينا أيضاً مجملاً من آرائهم في مسألة زواج جعفر من العباسة، وهناك أمران في هذا الشأن لابد من تقريرهما.
فإن المؤرخين قد أجمعوا على اختلاف في أسباب نكبة البرامكة والاختلاف بينهم دليل قاطع على الجهل بحقيقة نكبة البرامكة، والذي نستطيع أن نخلص به من هذا الاختلاف هو أن نكبة البرامكة التي حدثت إنما هي الحركة الظاهرة مما كان يعتمل في نفس الرشيد. . . فكل حركة تحدث من الإنسان كبيرة كانت أو صغيرة تشتمل في الواقع على عاملين: العامل الظاهر وهو الذي يظهر إلى النور، ويكون الواقعة، والعامل النفسي وهو المختفي في أغوار النفس لا يظهر. ولقد أراح الأستاذ باش أعيان نفسه وأراحنا حينما ذكر لنا ذلك الحديث بين الرشيد وأخته علية وهو يقول لها إن قميصه الذي يرتديه لم علم السبب في قتل جعفر لمزقه.
فليكن جعفر إذاً أخا الرشيد في الرضاعة، وليكن رفيقه في الملعب، وليكن صديقه في الشباب، وليكن وزيره في الملك. ليكن أيا من هذه الصفات، أو ليكن جميعها؛ إنما الواقع من الأمر أنه قتله. . . لماذا قتله. .؟! لا يستطيع أحد أن يعرف، بل إنني لأشك كثيراً فيما إذا كان الرشيد نفسه يعرف. . فلكم تخادع نفسها نفسه، ولعل الرشيد أوجد سبباً في نفسه يطمئنها به إليَّ عدله إن هو قتل جعفر. . لعله أوجد هذا السبب في ظاهر نفسه، بينما أوغل السبب الحقيقي في الاستخفاء بين أطواء النفس بعيداً عن كل مظنة. . بعيداً عن تفكير الرشيد ذاته، فلو أن الله جل وعلا بعث الحياة اليوم في الرشيد، ونفض عنه غبار القبر والسنين، واستطعنا نحن أن نسأله السبب فقاله. . لو حدث هذا فإننا نستطيع على رغم كل ما حدث أن نتشكك فيما يقول. وإن هذا الاختلاف بين المؤرخين أمر عجيب في ذاته، فإن أسبابهم جميعاً لا تعارض بينها، فإذا وجد واحد منهم، فهو لا يمنع وجود الأ الأخرى. . فما ضر لو كانت هذه الأسباب مجتمعة هي الأصل في نكبة البرامكة بجانب السبب الحقيقي في نفس الرشيد. . وما ضر أيضاً لو كانت هي مجتمعة سبب النكبة، وليس هناك سبب آخر إلى جانبها.
من هذه الأسباب في قول بعض المؤرخين أن الرشيد أبى على جعفر أن يتزوج العباسة زواجاً كاملاً، وأحل له بعقد الزواج النظر وحده، دون ما يستتبع العقد من صلات. . ويقول هؤلاء المؤرخون إن العباسة لم تعبأ بما نص عليه عقد الرشيد وأكملت مقتضيات العقد مع زوجها، فكان ثمرة هذا الإكمال هو بضع بنين لهم.
وقد رأى الأستاذ باش أعيان أن في هذه الرواية تعدياً على مقام العباسة بنت المهدي، المتصلة بأسباب غاية في القوة إلى العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأنا لا أدري علام يدافع؟ وما الذي فعلته حتى تتهم؟ إن العقد الذي أراد أخوها أن يكون عقد نظر فحسب غير موجود بين عقود الشريعة الغراء، وإنما هو عقد زواج، ومعروف شرعاً أن الشرط الفاسد في عقد الزواج لا يفسد العقد، بمعنى أن الشرط يبطل ويصح العقد، فإذا تزوجت إحداهن واشترطت في عقد الزواج ألا تقيم مع زوجها إلا إذا أقام ببغداد مثلاً أو البصرة، فإن عقد الزواج صحيح والشرط باطل، فإذا انتقل الزوج إلى القاهرة تعين على الزوجة أن ترافقه إليها، وتعيش معه فيها. وتعاشر زوجة بعقد صحيح، ولا قيمة للشرط الذي اشترطته بل هو باطل غير موجود، فإذا اشترط الرشيد على جعفر في عقد النكاح ألا يدخل بزوجة العباسة بطل الشرط وصح العقد. والعباسة لابد تعلم هذه الحقيقة، وهي على الأقل لن تعدم من يخبرها بها. فإن هي أبطلت الشرط فإنما تسير على خطى الدين الحنيف، غير مجانبة الخلق القويم الذي يجب أن تكون عليه بنت قريش، ولا ضير عليها إن هي أغضبت الرشيد لترضى الله.
وبعد فالعباسة غير متهمة لتحتاج إلى دفاع، بل لقد كانت في موقف لا بأس بها فيه، وهي تأبى على أخيها الرشيد أن يحرم ما أحل الله أو يحل ما حرمه.
تلك هي العباسة على رواية المؤرخين الذين يقولون بوجود العقد، أما هؤلاء القلة الذين يقولون بعدم وجود العقد فقولهم مردود هزيل، فما كان أيسر انعقاد العقد في هاته الأيام بحيث يصبح عدم العقد ضرباً من الجنون الذي لم يعرفه أحد عن جعفر أو العباسة، ما كان أيسر على العباسة أن تشهد اثنين من المخلصين لها أو لجعفر على أنها زوجته نفسها، فترتفع بذلك عما يريد هؤلاء المؤرخون أن يرموها به.
فإذا كانت المسألة كلها مختلفة، ولا صلة للعباسة بنكبة البرامكة فهي - من باب أولى - في غنى عن كل هذا الكلام.
بقى أمر أحب أن أتحدث عنه قليلاً في هذه المناسبة. فقد ذكر الأستاذ باش أعيان أن بعض المؤلفين المعاصرين قد أنشئوا الفصول الرائعة عن حب جعفر للعباسة، واتخذوه موضوعاً لرواياتهم، وإنني لست أرى بأساً من ذلك أبداً، فإن المؤلف الفنان غير مقيد مطلقاً بالتاريخ، وإنما شأنه وشأن التاريخ بشأن المهندس والمولد الكهربائي، فالمهندس يستنبط القوة الكهربائية ثم هو بعد ذلك على أتم الحرية. . يضيء بها أو يحرك الآلات، أو يفعل ما شاء له هواه دون أن يقطعها.
والفنان إزاء التاريخ مستلهم منه الوحي، كأنه الشرارة من المولد الكهربائي، ثم هو يحور قصته أو روايته، ويوجهها إلى حيث يرضي فنه، دون أن يخل بالحوادث الجوهرية، التي تقوي على الإهمال أو التحريف.
فلتكن رواية العقد بين جعفر والعباسة مختلفة، أو لتكن منحرفة، أو لتكن كما تشاء، فالفنان قد رأى فيها موضوعاً يصلح لأن ينشئ منه فناً فأنشأ ولا جناح عليه.
وإذا أراد المتزمتون من المؤرخين ألا يعترفوا بهذا فعليهم أن ينظروا إلى العمل الفني على أنه عمل فني فحسب، اختير لأسماء أبطاله أسماء كان لهم في التاريخ شأن.
وبعد فإلى الأستاذ باش أعيان خالص الشكر أن أتاح لي هذه الفرصة، وإليه في حاضرة الإسلام المزدهر خالص التحية.
ثروت أباظة