مجلة الرسالة/العدد 974/فقاقيع
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 974 فقاقيع [[مؤلف:|]] |
المرأة المسلمة ← |
بتاريخ: 03 - 03 - 1952 |
للأستاذ سيد قطب
الذين يدعوننا إلى الخلاص والحرية والعدالة الاجتماعية باسم القومية الضيقة التي تحد بالبحر الأبيض شمالا، وبالبحر الأحمر شرقا، وبصحراء ليبيا غربا، وبخط الاستواء جنوبا. . أو دون ذلك.
والذين يدعوننا إلى الخلاص والحرية والعدالة الاجتماعية باسم الشيوعية أو غير الشيوعية من المذاهب المادية التي نشأت وعاشت في بيئات غريبة عنا، لا تربطنا بها صلة روحية ولا تاريخية. . .
هؤلاء وهؤلاء يخطئون فهم طبيعة هذا الشعب، وقوة العوامل الكامنة في ضميره، والرواسب الشعورية التي تحركه، وطريقة تفكيره ونظرته إلى الحياة.
لهذا يفشل هؤلاء وهؤلاء فشلا ذريعا، وتبدو حركاتهم كالفقاقيع التي تعلو وجه الماء فترة، ثم تفتأ وتتوارى!
هذا الفشل منشؤه كما قلت: جهل هؤلاء وهؤلاء بطبيعة هذا الشعب، وطرقة تفكيره ونظرته إلى الحياة. يضاف إليه عدم فهمهم لحقيقة هذا الشعب في العالم، وللعوامل الدولية التي تجعل الشعوب تختار طريقا دون طريق.
إن دعوة القومية الضيقة، التي تنزوي داخل حدود صناعية أو تخوم جغرافية. . دعوة تنافي الاتجاه العالمي إلى الاندماج في وحدات ضخمة، تمهيدا للحلم البشري الكبير. . حلم الوحدة العالمية الكبرى. . وهي تخالف فكرة الإسلام الذي تدين به غالبية هذا الشعب. . فالوطن الإسلامي هو كل أرض يظللها لواء الإسلام. ومن ثم فهو يزيح الحواجز الصناعية والتخوم الجغرافية، ويحل محلها فكرة، تندمج في ظلها كتلة بشرية ضخمة، تحاول دائما أن تضم إليها بقية البشر، تحقيقا للهدف الإسلامي الأكبر، هدف الوحدة العالمية الكبرى.
ومن هذا الاستعراض السريع للاتجاه العالمي اليوم؛ والاتجاه الإسلامي منذ مولد الإسلام، يتبين مدى نظرة الإسلام التقدمية في الماضي وفي الحاضر على السواء. ويتكشف أن الفكرة الإسلامية كانت سابقة لتطورات الفكر البشري قرونا وقرونا. وما تزال فكرة قائدة هادية، ذات مجال فسيح في بناء مستقبل البشرية. . كما يتكشف مدى الضيق والانعزال والتأخر في دعوات القومية الضيقة التي عمت أوربا في القرون الماضية، وسرت إلينا عدواها في غيبة الروح الإسلامية الراقية السمحة التقدمية، وفتنت بما فيها من تعصب ضيق، بعض صغار العقول والنفوس، ملبية دسيسة الاستعمار في تمزيق أوصال المجتمع الإسلامي الضخم، والوطن الإسلامي الكبير، ليسهل على الاستعمار ازدراد أشلائه الممزقة باسم القوميات الضيقة الهزيلة، وتحت العنوانات الشتى المتفرقة!
ومن هنا كانت تلك الفقاقيع التي تحمل شتى العنوانات في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وكانت تلك الزعامات الصغيرة التي تهتف باسم القومية، وتدعو إلى العزلة عن مشكلات العالم الإسلامي، وتسخر ممن يدعون إلى وطنية الإسلام الضخمة، وإلى التكتل الإسلامي الكبير.
ولقد كانت تلك الزعامة البائسة التي قادة ثورة سنة 1919 في مصر مثلا من أمثلة ضيق الأفق، والانعزال عن الفكرة الإسلامية والهدى الإسلامي، والانعزال تبعا لذلك عن الاتجاه العالمي في التكتل، والنظرة التقدمية لمستقبل البشرية.
ومن هذا الضيق والانعزال عن الهدى الإسلامي، جاءت الكوارث كلها، وطال أمد الصراع مع الاستعمار، ووقع ذلك الانحلال الخلقي، والانهيار الاجتماعي، وذلك الفساد الذي تعانيه البلاد، ويفتت كيانها تفتيتا. .
لقد كانت تلك الزعامة فقاعة صغيرة، في زبد الوثبة المصرية الكبرى. ولكنها مع الأسف حولت تلك الوثبة كلها إلى زبد ذهب كله جفاء. .
وما تزال مصر، وما تزال الشعوب الإسلامية تصارع ذلك الخبث الذي دسه الاستعمار في تفكيرها. خبث القومية الضيقة الهزيلة، التي تخدم الاستعمار ولا تخدم الشعوب. . ما تزال تصارع ذلك التمزق في جسم الوطن الإسلامي الكبير، في ضوء الفكرة الإسلامية التي انبثقت هنا وهناك، وتتجمع تحت الراية الإسلامية الخالة، أو تتنادى إلى هذه الراية الكلية الواحدة. التي تحول الوطن الإسلامي كله وحدة تتفق مع الاتجاه العالمي السائر إلى التكتل والاندماج، وحدات كبرى تجمع بينها نظم وأفكار، لا حدود جغرافية، ولا قوميات جنسية أو لغوية.
إنهم يفيئون شيئا فشيئا إلى النور الذي انبثق منذ أربعة عشر قرنا، سابقا لتفكير البشرية كله، فلم تدركه إلا في القرن العشرين. وما يزال هذا النور سابقا لما وصلت إليه البشرية في التفكير.
فأما دعوة الشعوب الإسلامية إلى الشيوعية أو غيرها من المذاهب المادية الأخرى، فهي دعوة مضحكة تثير الهزء والاستخفاف بتلك الفقاقيع الآدمية التي تدعونا إليها؟
إذن ما الذي يدعو شعوبا بأسرها، يتجاوز تعدادها ثلاثمائة مليون مسلم، في شعاب هذه الأرض إلى التخلي عن فكرة أو عقيدة عاشت في ظلها أربعة عشر قرنا؟. .
فكرة سبقت الشيوعية سبقا بعيدا في التفكير الإنشائي المنظم لقيام وحدة عالمية، مقوماتها فكرة ونظام، لا حدود جغرافية، ولا أجناس بشرية، ولا ألوان ولا لغات. وبذلك كانت وما تزال فكرة تقدمية سابقة لقيادة البشرية كلها في طريق المستقبل؛ حافلة بالإمكانيات العملية المنظمة لتحقيق هذه القيادة الرشيدة؟
فكرة سبقت الشيوعية سبقا بعيدا - لا من ناحية الزمن وحده ولكن من ناحية طبيعة الفكرة وإمكانياتها - في تحقيق أساس صالح للوحدة العالمية، بريء من التعصب والقهر والكبت لأنها تسمح لكل عقيدة دينية أخرى أن تعيش في ظل هذه الوحدة، متمتعة بالحماية والرعاية والمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية، فلا تفرض نفسها على الناس، ولا تحرم مخالفيها حق الحياة والنشاط، كما تحرمهم الشيوعية؛ ولا تفرض عليهم دكتاتورية رجل ولا دكتاتورية نظام كما تفرض الشيوعية في القرن العشرين!
وأخيرا فهي سابقة في تحقيق عدالة اجتماعية كاملة، لا تصدم بالفطرة البشرية. . ولا تقيد النشاط الفردي. في ذات الوقت الذي تقف كل نشاط فردي دون المساس بالمصلحة العامة. وتجعل نتاجه كله ملكا للجماعة التي تعيش فيها.
إن دعوة شعوب تملك مثل هذه الفكرة إلى نبذها لاعتناق الشيوعية أو سواها تبدو دعوة مضحكة، لا يحاولها إنسان يحترم نفسه، إنما تصلح فقاعة هزيلة، ينادي بها بعض الشواذ، الذين يعانون عقدا نفسية مرضية، يجدون في الدعوة إلى الشيوعية تنفيسا عنها وراحة!
إن الدعوة الإسلامية تكتسح وتجرف كل هذه الفقاقيع في هذه الأيام. تكتسح فقاقيع القومية الضيقة الهزيلة في العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه. وتكتسح فقاقيع المباديء المادية على اختلاف مسمياتها. . وهذا الاكتساح هو الذي يتفق مع طبائع الأشياء. ويتفق مع طبيعة هذا الشعب وتفكيره. ويتفق في ذات الوقت مع الاتجاه العالمي المقبل: الاتجاه إلى تأليف كتل ضخمة تخضع لنظام وفكرة. في الطريق إلى تحقيق الحلم البشري الكبير. . حلم الوحدة الإنسانية الكبرى. . .
(فأما الزبد فيذهب جفاء. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
سيد قطب