مجلة الرسالة/العدد 974/امرأتان عظيمتان من دولة المغول
→ الفوضوية الفردية أو الوجودية! | مجلة الرسالة - العدد 974 امرأتان عظيمتان من دولة المغول [[مؤلف:|]] |
دعوة محمد ← |
بتاريخ: 03 - 03 - 1952 |
للدكتور محمد بهجت
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وأما (ممتاز الزمان) أو (ممتاز محل)، وأسمها الأصلي أرجومان بانو بيجم ففارسية الأصل أيضا. ولدت عام 1594م أبوها عبد الحسن بن اعتماد الدولة الذي عرف فيما بعد باسم (آصف خان). التحق في صباه بخدمة (أكبر) وبلغ مركزا في عهد أبنه (جاهان جير) ثم أرفع مركز وهو رئيس وزراء الإمبراطورية، ومستشار الإمبراطور، ومندوبه في مفاوضاته الدبلوماتية، وحامل لقب يمين الدولة - في عهد (شاه جاهان) وقد رأينا فيما سبق كيف ساعد هذا الرجل (شاه جاهان) على اعتلاء العرش، وكيف أصبحت أبنته (ممتاز محل) إمبراطورة من بعد عمتها (نور جاهان)
تزوجت ممتاز الأمير (كرام) عام 1612م وعمرها إذ ذاك ثمانية عشر عاما. أما هو فكان يكبرها بأربع سنوات. فأحب كل منهما الآخر حبا عميقا، صادقا قويا لم ير التاريخ مثله رافقته في جميع غزواته، وقاسمته التشريد والحرمان، وذاقت معه حلاوة النصر ومرارة الهزيمة ولا سيما في أواخر عهد أبيه، فكانت بحق الزوجة المثالية، وكانت نعم الصديق والمرشد.
كانت ملكة جمال عصرها حتى لقد سماها بعض المؤرخين فينوس الشرق. ويظهر أن جمالها كانة ينطوي على رقة متناهية وأنوثة جارفة، وروح عذبة وادعة، وسريرة صافية نقية، وطبع هادئ وخلق رزين، وبذلك بزت عمتها التي اتسمت بالمكر والدهاء، وبالفروسية وغيرها مما يغلب في طبائع الرجال. ومع هذا الجمال الهادئ الوادع حباها الله عقلا راجحا، ورأيا صائبا، وقريحة وقادة، وذكاء نادرا في غير خبث أو دهاء. وما كان زوجها الإمبراطور يبت في شأن من شؤون الدولة الهامة إلا بعد أن يستشيرها، ولا يقدم على أمر جسيم إلا بعد الاستئناس برأيها وظلت حاملة لخاتم الملك مدة طويلة إلى أن نزلت عن تلك الوظيفة لأبيها، ومع ذلك فإن الدور الذي لعبته في سياسة ومصاير الإمبراطور لم يكن بارزا قويا ضخما مثل دور (نور جهان).
وكانت مثل عمتها سخية كريمة إلى أبعد حدود السخاء والكرم، لم تبغ من وراء ذلك شه أو كسب أنصار وأعوان، بل فاقتها في الحدب على الفقير، ولأخذ بناصر المسكين والضعيف، حتى لكان قلبها الرقيق يتقطع حزنا وأسى لمجرد مشاهدة الفقراء والبؤساء، وتبادر لتوها بمسح جراحات نفوسهم ببلسم رحمتها، وندى كفها، ورفيع إنسانيتها، مما جعلها سيدة عصرها. وكم من مرة أنقذت أرواحا أمر الإمبراطور بإزهاقها في ساعة غضبه، وردتها على أصحابها سعيدة شاكرة.
ولا غرو إذا أحبها الإمبراطور ذلك الحب الجارف الفذ، وعندما اعتلى العرش زادت مظاهر حبه لها بما كان يغدقه عليها من الأموال والجواهر، وما كان يبديه لها من وافر المحبة والاحترام في الحفلات الخاصة والعامة. ويظهر أن شدة رغبته في إسعادها جعلته ينفق بسخاء. بل ويبذر تبذيرا شنيعا أثر في خزينة الإمبراطور أسوأ تأثير. ففي احتفاله الأول بعيد النيروز (عام 1628 م) أمر بعرشه الثمين فنصب في حديقة القصر اليانعة التي غصت بالزينة والتهاويل، وحفت به زوجته وأولاده والأمراء والأميرات وكبار الحاشية وسط مظاهر الترف والعظمة التي لم تشهد مثلها دول المغول، والتي كان يحرص عليها (شاه جاهان) كل الحرص، وأراد أن يبلغ بها النهاية. وعندئذ تعطف وأطلق يده بالعطاء فخص زوجته بنصف مليون ربية، وكل أبن من أبنائه الأربعة بمائتي ألف، وأبنته الكبرى (جاهان آرا) بمثلها، وابنته الصغرى (روشان آرا) بخمسين ألف ربية، هذا عدا ما أغدقه على حميه (آصف خان) وعلى بقية الحاشية.
ثم إنه اندفع في إنشاء عدد وافر من الأبنية العظيمة التي تعد من أجمل وأروع ما بنى في الهند، بل وفي العالم أجمع. ويظهر أنه حاول بذوقه الرفيع وموارد الإمبراطورية الواسعة أن يأتي بما لم تأته الأوائل، وأن تكون له قصور فخمة تتفق وعيشة الترف التي انتهجها وحرص على التوسع فيها لأبعد حدود التوسع. وكان من نتيجة ذلك، أنه أخلد إلى الدعة ولذا ذات العيش والرفاهية، ولم يعد يفكر في الغزوات وفي خوض غمار الحروب وإخضاع الثورات كما كان في صدر شبابه. أحب السلم والبناء وكرس لها كل وقته وجهوده وترك شؤون الإمبراطورية لوزرائه وأبنائه. ويظهر أن بعض المؤرخين ظلمه بقوله إنه كانت له القاجارية لم يكتف بهن بل راح يبحث عن خليلات أخر بين نساء أمرائه وحاشيته. ولكن يصعب تصديق مثل هذه الرواية إذا عرفنا مقدار حبه لزوجته الجميلة المخلصة الوفية التي لم يقو على فراقها يوما واحدا، والتي لم يتزوج غيرها من بعد وفاتها. ثم إنه لم تشب سعادتهما الزوجية شائبة فكانا زوجين مثاليين.
وفي عهده تطلع البرتغاليون إلى اقتطاع بعض أملاك الإمبراطورية المغولية في شيء من القحة والجرأة، وقامت سفنهم بأعمال القرصنة ضد السفن الإسلامية، فضاق الإمبراطور بهم ذرعا. ازداد سخطه عليهم عندما احتجزوا جاريتين من جواري (ممتاز محل)، فأمر بطردهم من جميع أنحاء البلاد وتم له ذلك في وقت قصير بعد معارك طاحنة دمرت فيها جميع ممتلكاتهم.
ومع أن حياتهما الزوجية لم تزد على ثمانية عشر عاما فقد أنجبت منه (ممتاز) أربعة عشر ابنا وابنة. وفي عام 1630م بينما كان (شاه جاهان) منشغلا بإخضاع حاكم قوي يسمى (خان جاهان لودي) خرج عليه، ماتت (ممتاز محل) في مدينة برهان بور في ريعان شبابها وهي تضع مولودها الرابع عشر. وبموتها ماتت أحلام الإمبراطور العظيم، وتحطم صرح هنائه، وبدأت نقطة تحول خطيرة في حياته فلم يعد يعبأ بنعيم الحياة ولذاذاتها، حتى ولا بشؤون الإمبراطورية، وأصابه ذهول ووجوم لازماه إلى آخر أيام حياته. كان لا يفكر إلا في شريكة روحه، ومنية فؤاده يذكر طلوع الشمس (ممتازا) ويذكرها لكل غروب شمس، على حد قول الخنساء. وأخيرا فكر في أن يبني لها ضريحا يضم رفاتها المقدسة، ويعبر عن مقدار وفائه لها، بل كعبة يتجه إليها بقلبه وبصره، يطوف بها وهو يناجي بعض نفسه التي دفنت تحت أطباق الثرى، فحمل رفاتها بعد ستة أشهر من موتها إلى مدينة أكبر آباد حيث أقام لها جنازة ملكية فخمة ومأتما عظيما حافلا، وبعد ذلك نقلت إلى أكرا حيث دفنت في (تاج محل). ألهم الحزن والحب والوفاء الإمبراطور أن يخرج إلى الوجود تلك التحفة الفنية الرائعة التي تقص على العالم قصة حبه. أختار لها الخام الأبيض الصافي صفاء قلبها وروحها، وأضفى عليها من جمال الهندسة والزخرفة ما يتناسب مع جمال وجهها وجسدها. ثم بث في كل ذرة من ذراته كل ما أراد أن يقوله أو يعبر عنه، أو أحس به. ولذا لم يظهر ذلك البناء بديعا فحسب. . بل كان يهمس بشتى المعاني السلمية، وبمزيج من الأحاسيس الدقيقة العميقة. ومما زاد روعه قيامه وسط تلك الحديقة البديعة الرشيقة التي ما زالت على شكلها ورسمها الأصلي. لو أطلعت عليه في الضحى أو في ضوء القمر لخلت أنك ترى ممتازا نفسها، بجمال جسمها وروحها مغلفة في غلالة من نور، باسمة حزينة. إنه تمجيد لجمال المرأة، ولكل ما فيها من صفات سامية.
اختار له الشاه موقعا جميلا على نهر جمنة الذي يخترق مدينة أكرا، وحشد له الصفوة من المهندسين والخطاطين والنحاتين والمزخرفين والصياغ، وكان أكثر هؤلاء من الأتراك والفرس، بل ومن الإيطاليين أيضا. وبعد دراسات واسعة أمر بالبدء في العمل عام 1631م. ثم فتح باب خزانته على مصراعيها وأخذ ينفق على إخراجه ببذخ عظيم. اشتغل فيه عشرون ألف عامل لمدة سبعة عشر عاما على حد قول بعض المؤرخين، ولكن يظهر أن الانتهاء من بعض الزخارف والمحسنات كان بعد ذلك التاريخ بدليل العبارة التالية التي نقرؤها على أحد أبوابه (كتبه الفقير الحقير أمانت خان الشيرازي عام 1613م - 1635 حيث انتهى منه).
لا يمكن لإنسان أن يدرك جمال هذا الضريح على حقيقته إلا إذا رآه عيانا ووقع تحت سحره المتجدد، وحين أن أذكر هنا أن الإمبراطور أصر على أن يكون أنفس تحفة، وأثمن أثر. . فكان باب المقصورة من الفضة، والستار الذي بداخلها من الذهب الخالص، تحليها أبدع النقوش، كما كان باب المقبرة نفسها من الفضة أيضا. وكان على القبر ستر من الحرير المرصع بصحائف اللؤلؤ، كما كانت تعلوه الماسة اليتيمة المعروفة باسم (كوهينور) وكال ذلك نهبه (الجات) عندما فتحوا أكرا.
جاء هذا الضريح أبدع ما أخرجه (شاه جاهان) من أبنية عظيمة لا نظير لها في العالم، وبعدما أتمه كان يجلس على الضفة الأخرى من النهر ساعات طويلة يتأمله في خشوع وحزن. ثم إنه فكر في أن يقيم لنفسه ضريحا في نفس المكان الذي أعتاد أن يجلس فيه، وشرع فعلا في البناء , ويرى أساسه قائما على ضفة النهر تماما، وكان يزمع أن يبنيه من الرخام الأسود. وليته عاش حتى أتم هذا العمل الجميل الذي لا يستطيعه إلا (شاه جاهان) وفيما هو منصرف إلى البناء ثار عليه أبنه (علم جير) المعروف باسم (اورنك ذائب) الذي استولى على أكرا وأسر أباه الشيخ الوقور الحزين وحبسه في قصره الفاخر لا يخرج منه لمدة ثماني سنوات مات بعدها (1666م) والمعتقد أن الابن هاله ما رآه من إسراف والده، وانصرافه عن شؤون الإمبراطورية التي كانت على شفا جرف هار ففعل ما فعل ولكنه كان يعامل أباه بكل ما هو جدير به من عطف واحترام. ولم يضمن عليه بكل ما كانت تصبو إليه نفسه.
وقفت طويلا أتأمل في أسى ذلك المكان البديع من العصر الذي قضى فيه الإمبراطور العظيم ثمانية أعوام في الأسر، تشرف عليه وترعاه ابنته المخلصة (روشان آرا) ثم خرجنا إلى شرفة تطل على النهر يرى منها التاج بعيدا إلى اليمين، ويتوسطها برج من الرخام الجميل، رائع الصنع ككل شيء في القصر، بل وكل شيء بناه (شاه جاهان) وبينما أنا ذاهل من روعة البناء والذكرى أشار الدليل بإصبعه إلى قطعة صغيرة من حجر كريم لونها أحمر داكن، لا يتجاوز طولها ثلاثة سنتمترات وعرضها سنتيمترا واحدا، مطعمة في جدار البرج، وطلب مني أن أنظر فيها ففعلت، وإذا بي أرى صورة التاج منعكسة عليها كاملة من ذلك البعد العظيم!!! وفي تلك اللحظة شعرت بقلبي ينقبض شفقة على ذلك الملك البائس الحزين الذي قضى ثماني سنوات يتطلع إلى قبر محبوبته من الشرفة ومن تلك القطعة الصغيرة!! بعد أن باعدوا بينه وبينها. . فياله من حب عظيم، ووفاءه نادر!! ومن يدري؟ فربما كان يتزود المسكين بآخر نظرة منه وهو يسلم روحه إلى بارئها.
دفنوه في قبر فخم إلى جانب قبرها تحت قبة التاج. . مع أنه لم يرد ذلك بدليل الضريح الذي وضع أساسه قبالة ضريحها على الضفة الأخرى للنهر. وكأنه لم يشأ أن يدنس هذا الهيكل المقدس جثمان آخر، حتى ولو كان جثمانه هو.
أثرت (ممتاز محل) بعقلها في تسيير دفة الإمبراطورية وأشرق جمال جسمها وروحها على العالم فترة قصيرة إشراقة الورد النظير، فكانت المثل الأعلى للمرأة والزوجة. وأخيرا أثر موتها الباكر في زوجها فخلد ذكرها بتحفة قلما يجود الزمان بمثلها، وأهدى إلى العالم أعظم وأجمل رمز للحب والوفاء والإخلاص.
محمد بهجت
مصلحة البساتين