الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 973/اللغة الفرنسية في مصر

مجلة الرسالة/العدد 973/اللغة الفرنسية في مصر

بتاريخ: 25 - 02 - 1952


للأستاذ محمد زيتون

اللغة الفرنسية أو اللغة الأوربية الإضافية في مصر هي العامل المساعد للاستعمار الإنكليزي في الشرق! فمنذ داعبت نابليون أحلام الإمبراطورية الفرنسية، شرع في احتلال مصر وهي (تاج العلاء في مفرق الشرق) كما يقول شاعر النيل.

وتعاقدت إنكلترا وفرنسا سنة 1890 على اقتسام مناطق الاستعمار فيما بينهما بحيث تطلق إحداهما يد الأخرى في الأمم المستضعفة تفعل بها ما تشاء، فلما أعلنت إنكلترا الحماية على مصر سنة 1914 لم تشأ إلا أن تترك لفرنسا دورا ثانويا في مصر، إذ جعلت لغتها إضافية إلى جانب الإنجليزية العتيدة بينما خلا لفرنسا الجو في سوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش والمستعمرات الأفريقية.

ومنذ يومئذ واللغة الفرنسية تؤدي دورها في الحدود المرسومة، حتى تمكنت من جعل الزعماء أداة طيعة للاستعمار يستسيغونه في يسر ويجترونه في غير عناء، وما كان ذلك ليكون لو إن الزعامة قائمة على رصيد شعبي.

ومن الألاعيب الإنجليزية الفاجرة توزيع الاستعمار الثقافي بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية بغية الفتنة، ورجاء تحويل الأنظار عن التراث العربي والمجد الإسلامي، وكأنما كتب على المصريين أن يتعلموا هاتين اللغتين ولا مفر من ذلك؛ كما لا مفر من القضاء والقدر.

غير إن القومية المصرية كانت قد تبلورت تماما، فلما اصطرعت مع الاستعمار الفرنسي صمدت له، وردته في قوة وإباء. وكان نابليون أول من فطن إلى هذه الحقيقة؛ إذ كتب في تعليماته للقائد كليبر (إن من يكسب ثقة كبار المشايخ في القاهرة يضمن ثقة الشعب المصري) وكذلك بوسيلج في تقريره إلى الحكومة الفرنسية إذ يقول فيه (إن اختلاف العادات - وأهم منه اختلاف اللغة وخاصة اختلاف الدين - كل ذلك من العقبات التي لا يمكن تذليلها والتي تحول دون إيجاد صلات الود بيننا وبين المصريين. .)

فالدين واللغة والعادات في مصر هي الأثافي الثلاث التي لم يستقر عليها قدر الاستعمار الفرنسي، فأنهار ولم يعد له قرار، ولا سيما بعد إفلاس الحملة من كسب ثقة الشعب ممث في (كبار المشايخ) وهم حماة الدين، ودعاة اللغة، ورعاة العادات، وسدنة المقدرات القومية.

وسجل التاريخ للشعب المصري كفاحه ضد الاستعمار الإنكليزي في المحافل الأوربية التي هزها الشاب المجاهد مصطفى كامل، خطابة وكتابة، فكان له (اللواء) الأعلى في الدفاع عن القومية المصرية.

أما (السعي بكافة الطرق السلمية المشروعة في سبيل الاستقلال - كما أراد سعد زغلول - فإنه لم يدفع بالقضية إلى الأمام كما كان منتظرا بعد مصطفى كامل، بل أصيبت بنكسة مزمنة باضت جراثيمها وأفرخت في أدمغة أذهلها الفراغ الفكري عن حدود (الوكالة) التي أجمعت عليها الأمة (الطيبة القلب) من أصحاب الجلابيب الزرقاء)

وفي سنة 1919 نهض زغلول فرفع مذكرة الوفد المصري إلى الميسو فريسنييه رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي يستصرخه في التحرر من الحماية الإنجليزية وجاء في هذه المذكرة المعروفة:

(. . هل مصلحة فرنسا العامة يمكن أن تلزم حكومة الجمهورية بأن تتخلى كلية عن الشعب مدينته الحديثة ظاهرا عليها الروح الفرنسية، عن شعب تربيته ونظامه الإداري والقضائي يحمل الطابع الفرنسي، عن شعب تشغل الآداب الفرنسية عنده المحل الأول كما يظهر ذلك لكل من يلاحظ ذوق الخاصة، ومن يطلع على الآداب الوطنية.

مهما يكن من أمر تلك المصالح التي تدفع حكومة الجمهورية للتنازل عما لفرنسا من السيادة إليها في مصر، يستحيل معها - حتى ولو كان ذلك من مصلحة الديمقراطية الفرنسية - أن تنكر فرنسا تعهداتها التي ارتبطت بها نحو الأمم الصغيرة. .)

ماذا؟ أهو دفاع عن استقلال أم اعتراف بانحلال؟. . وهل في سبيل المجاملة العرجاء، تزل قدم المحامي حتى يوقع موكله في ورطة مزرية،؟. . ومن أين لفرنسا هذه (السيادة الأدبية في مصر) وذئابها الفاتكة حتى يئست منها فعادت إلى بلادها جائعة تتلوى؟

وليس أمعن في الانحلال من الشعور بصعوبة التخلص منه والندم على الاستعمار كلما تقلص ظله، فليتأمل كل مواطن بصير هذا الخطاب الذي وجهه زغلول مصر إلى المسيو موريس لونج مقرر اللجنة البرلمانية الفرنسية، ومقرر المسألة المصرية لدى لجنة الصلح:

(. . أنه ليشق علينا أن نصدق أن الفرنسيون يقبلون عن طيب خاطر أن ذلك الطابع المطبوعة به تربيتنا المدنية والعسكرية من قرن مضى تعفو آثاره عفاء تاما، يشق علينا أن نصدق أنهم يقبلون القوانين الفرنسية التي استمدت قوانيننا نصوصها منها، وباتت متأصلة في نفوس المصريين وعوائد هم حتى أصبحت اليوم جزءا من راس مالنا الاجتماعي، ولا يكون لها أثر في الأساس الذي تستند عليه مدينتنا المصرية - وإن اللغة الفرنسية الجميلة المنتشرة في مصر أكثر من أي بلد أجنبي آخر، والتي بات لزومها في طبقاتنا المستنيرة لزوم لغتنا الخاصة نستعملها في معيشتنا العائلية اليومية بالسهولة التي نستعملها في حياتنا إليها يكون مصيرها إلى الزوال، وإن دور التعليم المتنوعة الأشكال والتي أنشأتها فرنسا في مصر والتي استوجبت منها بسببها عظيم الحمد وجزيل الشكر توصد أبوابها، وإن الإرساليات التي نبعث بها إلى فرنسا ليرشف أبناؤها من منابعها الفياضة لبان المعارف والعلوم والفنون ينصرف حبلها.

وصفوة القول أنه يعز علينا أن يرضى الفرنسيون بأن يوقف تيار النمو وهو بالغ منتهى سرعته في الشركات الفرنسية والبيوت التجارية والبنوك وغيرها بين ظهراني أمة تحب فرنسا وتفضل كل ما هو فرنسي على جميع ما عداه.

لا شك أن الشعب الفرنسي - وهو أكثر الشعوب تمسكا بالكماليات وأحرصهم على صون مهمته التاريخية في العالم - لا يمكن أن يغض الطرف بسهولة عن الامتيازات التي يضمنها له في وادي النيل ماض مفعم بأحسن العلاقات وداً، وأكثر المصالح انتشارا. .)

هذه هي الجناية على القومية المصرية باسم المطالبة برفع الحماية، وإن المواطن اليقضان ليعجب كل العجب كيف أفلتت هذه الصفقة السياسية من الحراسة الشعبية، وكيف جازت على المصريين حتى أسلمتهم (اليد الأمينة) إلى تجار الرقيق، وسماسرة الاستعمار، ولم يعد لهم من الحرية ما يمكنهم من نزع هذا النير الغليظ من أعناقهم الكليلة.

وإن هذا الاستجداء هو الذي أطمع فرنسا في استعمار مصر ثقافيا، بعد عن عجزت عن احتلالها، فلا أقل من أن تسير وفق الخطة الإنجليزية وهي استفراغ العقلية المصرية من مواهبها ومآثر تراثها، فتوسلت بذلك باللغة الفرنسية، التي بلغ بها التواضع إلى أن قبلت السير في الركاب الاستعماري الأعزل، وتظاهرت بالتساهل والتقرب إلى الناشئة في الوقت الذي يشيع فيه الذعر والهلع من (البعبع) الأساسي، وجعل للغة في باريس ثلاثون درجة بحد أدنى قدره تسع درجات، بينما جعل للغة التايمز خمسون بحد أدنى قدره عشرون.

وبين يدي مجموعة وافية من امتحانات الثقافة العامة في مدى عشر سنوات، والى القارئ أسوق هذه الملاحظات عليها:

1 - خلو الامتحان في بعض السنين خلوا تاما من دروس القواعد، مما أدى إلى الاستهانة بها أثناء الدراسة باعتبار إن التلميذ - كما هو الواقع - لا يدرس إلا من أجل الامتحان فقط.

2 - تحول الامتحان من اختبار المعلومات إلى اختبار في الأرقام، فقد جاء في أحد الامتحانات سؤال: ما ارتفاع برج إيفل؟ ومعنى ذلك أنه يجب حفظ رقم ثم التعبير عنه كتابة فهو امتحان لامتحان.

3 - الإيحاء بالبلادة الذهنية: وذلك بابتداع (الأرتوجراف) وخصم درجة عن كل ثلاثة أخطاء، غي حين يخصص للإنشاء 15 درجة، ويحرص التلميذ عادة على حفظ نموذج له فينجح من غير تعب.

4 - تجاهل حدود المنهج أحيانا ووضع أسئلة خارجة مقررة على السنوات الأعلى، وعدم مراعاة ذلك عند التصحيح.

5 - عدم تنويع الأسئلة، والاكتفاء بجزء من المقرر، للخط في اجتيازه دور كبير، وكان الأولى أن يستوعب الامتحان معظم الدروس المعطاة.

وبالجملة فإن طريقة الامتحانات في اللغة الفرنسية على هذا الوجه تعمل على احتقار عملية الناشئ، وإهمال قواعد التربية، وتحويل الامتحان إلى (ورقة يانصيب)

ودعائم التربية ثلاث: المعلم والمتعلم والعلم. أما المعلم فهو الوسيط بين طرفين، وليس في الإمكان إهمال مهمته أو التغاضي من خطرها، فلنتساءل: ما مؤهلات مرسي هذه اللغة؟

الواقع إن مدرس الفرنسية في مصر لا يخلو أن يكون أحد ثلاثة: أجنبي - أو مصري متخصص عضو بعثة - أو غير متخصص أو غير مؤهل. وهذا الصنف الأخير هو الغالبية الساحقة، فإن الأجانب والمصريين الفنيين قلة لا تكفي، فاستعين بالجامعيين من دارسي الفلسفة غالبا، والكثرة كلها ممن لا يحملون مؤهلات دراسية، ولا سبق لهم التدريس، مما اضطر وزارة المعارف - إزاء نقص عدد المدرسين وكثرة عدد الفصول - إلى تعيين كتبة في المحاكم المختلطة، وصيادلة، وعمال شيكوريل وهانو وعمر أفندي، وكثيرا ما حدث صدام بين طالب ومدرس لمجرد الشعور بفارق الشخصية والطريقة.

ولست أخشى هذه الخطورة على اللغة الفرنسية بقدر خشيتي على الكرامة الفكرية للتلميذ وهو وديعة لدى الدولة، فلماذا نفرض تدريس لغة ليس عندنا من يحسن أداءها ولا من يكفي لأدائها؟ ولماذا تصر على تدريسها وزارة المعارف وفي مدارس الأقاليم فصل بحصتين اثنتين فلا تجد مدرسا فيحال تدريسهما على أحد مدرسي اللغة الإنجليزية بالمدرسة أو يندب لهما مدرس من أقصى المدينة؟

وقامت الوزارة باستفتاء أولياء أمور التلاميذ في اختيار الإنجليزية أو الفرنسية في بدء الثالثة الابتدائية. ولكن الوزارة لم تستجب للرغبات. وتعثرت بين سياستين متضاربتين بين الإلغاء والبقاء، فألغيت اللغة الفرنسية من الأولى الثانوية ثم من الثانية ثم أعيدت ثم ألغيت ثم تقررت على الثانية الثانوية والزراعية وخصص لها حصتان بعد أربع، وزيدت في الثالثة إلى خمس، وألغيت نهائيا بعد الثانية زراعة.

وقد أبيح في سنة ما دخول امتحان الدور الثاني ثم عدل عنه وأعتبر الراسب في الفرنسية ناجحا، ولم يعمل بذلك في الامتحانات الرسمية عند النزول بالمنهج إلى المستوى الأدنى، فكانت الضحايا بالمئات حيث أعيدت الدراسة بسبب الرسوب في الفرنسية فقط فاضطر الطالب إلى اجترار كل المواد التي نجح فيها وإذا بالمنهج الفرنسي الجديد كان قد نجح فيه منذ عامين.

وأدهى من ذلك إن بعض الفصول بمدارس البنات تشتمل على فقرتين في دراسة اللغة الفرنسية: أحدهما يدرسها أساسيا والآخر إضافيا. وقد يكون عدد طالبات الأساسية تلميذة واحدة تستنفد من وقت المدرسة سبع ساعات في الأسبوع لها وحدها، وقد ننتدب لهذه التلميذة معلمة فرنسية بماهية مضاعفة في حين تشكو من قلة المدرسين والمدرسات للكثرة المتزايدة من التلاميذ والتلميذات.

ونحن إذ نبني البيت (بالباع والذراع)، وندعي أن لبيت قائم في حين إن البناء الذي سيقيمه لم يوجد بعد، ولم نحظر المواد اللازمة له يوم يوجد، والسكان الذين سيشغلون البيت لم نرسم لهم خط المستقبل حتى نضمن رغبتهم في سكني البيت أو التحول إلى غيرة.

وليس يخفى عن أحد هذا الفارق الشاسع بين الدراسة الثانوية والدراسة الجامعية عند الشعور بالضعف الشديد في اللغة الفرنسية وهي من الزم ما يلزم الطالب في الآداب والحقوق والتجارة مع الاستغناء عنها تماما في العلوم والطب والزراعة.

ولغة الفرنسية - حقا وصدقا - مكانتها الرفيعة في الثقافة العامة، دليل ذلك أثرها الواضح في نفوس المثقفين، ولكن هذا التشتت الذي نضحي الناشئ بسببه هو حائر بين الإنجليزية والفرنسية أدى إلى نتيجة لازمة حاتمة وهي ضياع الوقت سدى في دراستهما معا، وعدم جدوى هذه الدراسة عليه في مستقبل ثقافته وتكوين شخصيته. وما ذلك إلا لأنه ليس للتعليم سياسة واضحة الأهداف، مرسومة الوسائل، مصطلح على وضعها، وهذا ما سبق لنا القول فيه في مقال (سياسة التعليم)

أما وقد مضينا بخطوات سريعة نحو الوعي القومي، أرى الاقتصار على لغة أوربية واحدة يترك حق اختيارها للمدرسة وولى أمر التلميذ، وسيترتب على ذلك أولا إتقان هذه اللغة والاستزادة من آدابها وفنونها وعلومها في أقرب وقت ممكن، ولن يجدي ذلك إلا إذا سرحت الوزارة هذا الجيش العرمرم من غير الفنيين، وإلا إذا رجعت إلى أصول التربية في التدريس والامتحانات، وعندئذ فقط يكتمل شعور المواطن الناشئ بكرامته القومية والفكرية، ويتحقق لديه أمل التزود من ثقافة الغرب. حتى إذا طلب المزيد، فالوسائل الخاصة لا تعوزه ولا تعجزه.

محمد محمود زيتون