مجلة الرسالة/العدد 97/قصة المكروب
→ الدبكة | مجلة الرسالة - العدد 97 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 13 - 05 - 1935 |
13 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: أثبت بستور أن المكروب ضروري للحياة على ظهر هذه الأرض. فإن الأموات من الحيوان والنبات لابد من تعفنها وتحللها وأكسدتها لتتسع البسيطة للنبات الجديد والحيوان الوليد. وأن هذا التحلل لابد له من الأكسجين. ولكن أكسجين الجو عاجز عن هذه الأكسدة فإنها لا تتم إلا بواسطة المكروب. ثم أثبت بستور بعد ذلك أن المكروب منشؤه الهواء، يحمله غباره. وأنك لو أدخلت الهواء دون الغبار إلى اللبن والأمراق ونحوها بعد إغلائها جانبها الفساد، فقضى بذلك على نظرية الانبعاث التلقائي التي تقول إن المكروب ينشأ في الأمراق والألبان وأمثالها من تلقاء نفسه، من العدم
وبعد ذلك قام بستور بتجربة يدلّ البحث الدقيق بين المخلفات والسجلات أنها من صنع نفسه. تجربة هائلة، ركب لها القطار، وصعد من أجلها الجبال، ودار في أعاليها في حذر وريبة حول ما انجمد بها من الأنهار. وعاد معمله مرة أخرى فازدحم فيه القباب، ورنّ الزجاج، وغلت الأحسية فأرغت وتفقعت. وقام أعوانه على العمل قومةً واحدة، فلم تر فيهم إلا رائحاً مسرعاً أو غادياً مهرولاً، حتى لكائنهم عبيد مسترقّون السياط، وما كان وراءهم إلا قلوب مؤمنة وعزمات صوادق. قاموا يجهزون مئات القوارير، ويملئونها بالأحسية بعض الملء، ثم يُغلون كل واحدة منها دقائق، وبينا هي تغلي يسيحون رقابها في نفخات اللهب الشديد، ثم يمطونها ويختمون على القوارير وقد ذهب هواؤها. فإذا بردت لم يكن بها غير الحساء فوقه فراغ. وقاموا على هذا التجهيز ساعات عديدة طويلة حسبوها دقائق من فرط اهتمامه وبدأ بستور رحلته بهذه القوارير. فذهب أول ما ذهب إلى مرصد باريس فنزل إلى حجراته المطمورة تحت الأرض. وأجال نظره فيها ثم التفت إلى صبيته وقال: (كيف تجدون هذا المكان؟ إنه هادئ بالغ الهدوء، ساكن بالغ السكون، قل فيه الغبار فعز فيه المكروب)، وقام الصبية إلى القوارير فامسكوها بعيداً عن أجسامهم بمقابض من المعدن أحميت في النار قبل ذلك، وأخذوا يفضون أختامها حتى بلغ المفضوض منها عشر قوارير، وكلما فضوا ختم قارورة دخلها الهواء فسمعوا له صفيراً. وما كاد يدخلها الهواء حتى عادوا فختموا القارورة على التو مرة أخرى، وذلك في لهب مصباحٍ زيته الكحول. وذهبوا إلى فناء المرصد ففضوا فيه عشر قوارير أخرى على مثال ما وصفنا: ثم أسرعوا عائدين إلى معلمهم، إلى ذلك المحضن تحت حنية السلم، فوضعوا القوارير فيه
وبعد أيام كنت تجد بستور قاعداً القرفصاء أمام هذا الفرن ينظر قواريره في رفق وحنان، وعلى فمه ابتسامة من ابتساماته النادرة، فإنه لم يكن يضحك إلا إذا جاءه التوفيق والنجاح. وكتب شيئاً في كراسته وحرج يزحف من هذا الحجر ليخبر أعوانه أنه وجد تسع قوارير رائقة من العشر التي فتحوها في قاع المرصد، (فهذه القوارير التسع لم يدخلها مكروب واحد. أما العشر التي فتحناها في الحوش فتعكرت كلها بالملايين من تلك الخلائق. إن الهواء هو الذي أدخلها في القوارير. إن هباء هذا الهواء هو الذي حملها معه!)
وكان الوقت صيفاً، ودراسات المعاهد معطلة والأساتذة يستجمون، وحق لبستور أن يستريح مثلهم، ولكنه جمع ما بقي من القوارير وأسرع إلى القطار، إلى بلده القديم في جبال الجورا فصعد جبل بوبية وهناك فض أختام عشرين قارورة ثم لحمها. وذهب بالقوارير إلى سويسرا، وتسلق جبل مونت بلان مغامراً مخاطراً، وعلى أكتاف هذا الجبل العظيم فض أختام عشرين قارورة أخرى فدخلها الهواء صافراً. ورجا بستور أنه كلما علا في الجو قل العدد الذي يتعكر من قباباته. وقد تحقق رجاؤه. قال: (هذا ما كنت أرجو، وهو ما يجب أن يكون. فإني كلما صعدت في الهواء قل الغبار فقل المكروب الذي يركبه دائماً). وعاد إلى باريس فخوراً، وأخبر الأكاديمية أنه اصبح من الثابت المحقق أن الهواء وحده لا يستطيع إحداث المكروب في الأمراق، وأن لديه على ذلك براهين سيدهش لها كل إنسان. صاح فيهم يقول: (هنا، بهذا المكان توجد مكروبات. وهنا، على مقربة من المكان الأول لا توجد المكروبات. وهناك، في ذلك المكان الأبعد توجد مكروبات غير تلك التي وجدناهاأولاً. . . . وهذا مكان آخر، قد هدأ هواؤه هدوءاً بالغاً، فلم نجد فيه مكروبا أصلاً). وأراد أن يمهد لانتصارات أخرى، فقال: (لوددت أن أصعد في منطاد إلى طبقات أعلى في الجو فأفتح فيها قباباتي). ولكن سامعيه اغتمروا حساً بحديثه، واكتفوا بالذي كان، ووثقوا بالذي يقول، فلم يعد بستور عندهم عالماً باحثاً عادياً فحسب، بل وقع من حسبانهم موقع أولئك الأفذاذ الذين يجود الدهر بهم آنا بعد آن. كان بستور أول الأبطال المخاطرين في عصر المغامرة الذي تلا، والذي سنتحدث عنه في هذه القصة بعد حين
وكان بستور كثيراً ما يفور في خصوماته بالتجارب البارعة التي كانت تترك خصومه طرحى صرعى. ولكن في بعض أحايين كان فوزه لضعف في خصومه أو لغباوة فيهم. وأحياناً كان يأتيه الفوز حظاً ومصادفة. قام بستور يوما في جماعة من الكيميائيين فحط من المقدرة العلمية للطبيعيين صاح فيهم: (فإن أعجب فعجبي لهؤلاء القوم كيف لا يدخلون على العلم من بابه، من باب التجربة. فإنهم لو فعلوا، إذن لنفخوا في علمهم روح الحياة). وأنت تستطيع أن تتصور ما كان من كره الطبيعيين لهذا المقال. فقد كرهه بخاصة المسيو يوشيه مدير متحف روان وشركه في كرهه الأستاذ جولي والأستاذ موسيه وهما الطبيعيان الشهيران بكلية تولوز. ثلاثة من أعداء بستور لم يستطع شيء في الدنيا أن يقنعهم بان تلك الأحياء المكرسكوبية إنما تتخلق من آباء. لم تستطع حجة أن تذهب باعتقادهم في إمكان نشوء الحياة والأحياء من ذوات أنفسها. ومن أجل هذا أجمع الثلاثة أمرهم على أن ينازلوا بستور في أرضه وبنفس سلاحه
فملئوا مثله القوارير، ووضعوا فيها الأحسية على مثال ما صنع، وأغلوها وختموها كما أغلى وختم، إلا أنهم اتخذوا أحسيتهم من مرق الأعشاب الجافة لا كما اتخذها هو من أمراق الخمائر. وحملوا قواريرهم إلى جبل مالاديتا في البرنيز فأخذوا يصعدون فيه ثم يصعدون حتى بلغوا مكاناً أرفع مما بلغ بستور على جبل مون بلان في سويسرا. وهناك خرجت عليهم من مغاور الثلوج رياح قارسة نفذت من خلال أكسبتهم الغليظة إلى جلودهم. وزلقت رجل المسيو جولي من فوق كتف الجبل، فكاد يذهب ضحية العلم لولا أن أمسك بعض الأدلاء بذيل كسوته. وقاموا وهم في هذه الحال بفتح القوارير وملء فراغها بالهواء ثم ختمها. ونزلوا يجرون أقدامهم، وقد نال الجهد منهم والبرد، فدخلوا إلى خان في الطريق فنصبوا فيه محضنا حيثما اتفق، ثم أودعوه قواريرهم. وبعد أيام نظروا إليها فبرقت أساريرهم لما رأوا أمراقها تعج بالخلائق الصغيرة. إذن لقد أخطأ بستور
وعندئذ أشهروا الحرب بينهم وبينه. وقام بستور يهزأ في الناس بتجارب الأسياد: يوشيه وجولي وموسيه. وقارعهم بحجج نعلم نحن اليوم أنها كانت تمحكا ولجاجة
فرد عليه يوشيه. قال فيما قال: (إن بستور قدم قواريره هو إنذاراً أخيراً للعلم ليدهش كل إنسان). فغضب بستور واهتاج، ووسم يوشيه بالكذب، وطلب اعتذاره على رؤوس الأشهاد. وخيل للناس أن الفصل بين الحق والباطل سيكون للدماء الصبيبة بدل التجارب الهادئة. وكان من بعد ذلك أن احتكم يوشيه وصديقاه إلى تجربة يجرونها بين رجال أكاديمية العلوم، فإذا وجد واجد أن قارورة واحدة من قواريرهم خالية من المكروبات عقب فتحها، إذن لأقروا بأنهم مخطئون. وجاء اليوم الموعود، واقتربت ساعة النزال، ساعة الاحتكام إلى القوارير، واشرأبت أعناق الناس، ودفئت قلوبهم في انتظار ما يكون. ولكن خصوم بستور رجعوا على أعقابهم ناكصين. فروا من المعركة قبل أن تكون. فقام بستور نفسه بتجاربه أمام المحكمين، أجراها في وثوق واطمئنان، وسخر من خصومه وهو يجريها. وبعد قليل أعلن المحكمون (أن الوقائع التي ارتآها المسيو بستور، فخاصمه فيها يوشيه والمسيو جولي والمسيو موسيه حقائق لا تحتمل النزاع ولا تسمح بالخصومة)
انتصر بستور بالحق، وكذلك انتصر بالحظ، فإن خصومه لم يكونوا مخطئين في الذي وصوفه من تجاربهم. لأنهم لسوء الحظ اتخذوا أمراقهم من العشب، لا من حساء الخمائر. وقد أثبت العالم الإنجليزي تندال بعد ذلك بسنوات أن هذه الأعشاب تحمل جراثيم مكروب تصمد للغليان ساعات فلا تموت. فالذي أنهى الخصومة بين بستور وأصحابه إنما هو في الحق تندال. وهو هو الذي أثبت ان بستور مصيب
- 5 -
وعندئذ حظى بستور بالمثول بين يدي الإمبراطور نابليون الثالث. فقال لهذا الملك الحلام إن كل أمله أن يعثر على تلك المكروبات التي تتسبب عنها الأمراض يقيناً، ودعاه الملك إلى نزهة ملكية في كومبين وهناك صدر أمر الملك إلى ضيوفه بالاستعداد للصيد، فتوسل بستور ورجا أن يعفى من هذا، لأنه كان في انتظار حمولة عربة من الأجهزة ستأتيه من باريس، مع أن ضيافته في القصر الملكي كانت لأسبوع واحد. وأكبره الملك والملكة لما رأياه مكباً على مجهره، بينا يكب الآخرون من الأضياف على صنوف اللهو والخلاعة
لابد أن يعلم الناس أن المكروب لابد له من آباء! وفي باريس، في سهرة علمية بالسربون، قام بستور فالقى خطاباً سهلاً في الجمهور الحاضر، وكان من بينهم اسكندر دوماس القصصي الشهير، وجورج ساند المرأة العبقرية المعروفة، والأميرة ماتلدا، ومئات من ذوات البلد وأعيانه. وقام في هذا الحشد بقطعة مسرحية رجعوا من بعدها إلى بيوتهم يثقلهم الهم ويساورهم الخوف. فقد أراهم بستور على الشاشة صوراً عديدة من مختلف المكروبات. وبدون إنذار أظلم المكان فجاءة، وأرسل في كتلة الظلام الأسود شعاعاً ابيض من الضياء. وصاح فيهم: (انظروا إلى هذا الشعاع، وانظروا إلى العدد الهائل من ذرات التراب التي ترقص فيه، ثم اعلموا أن الهواء الذي انتم فيه مليء بهذا الهباء، ثم تعلموا إلا تحتقروا دائما شيئا لصغره، فتلك الذرات الصغيرة قد تحمل المرض والموت، قد تحمل فوق ظهورها مكروب التيفوس والكوليرا والحمى الصفراء، وأنواع كثيرة غير هذه من الوباء). هذا هو النبأ الفظيع الذي جمعهم من أجله! ألقاه إليهم في صوت يتهدج غيرة وإخلاصا، فآمنوا به وارتجفوا ارتياعا منه. بالطبع لم يكن هذا النبأ صادقا كله، ولكن بستور لم يكن كذاباً فياشا، بل كان يؤمن كل الإيمان بالذي يقول. فهذا الهباء، وهذا المكروب الذي حمله، أصبحا من ضرورات حياة صاحبنا. إذا فكر ففيهما التفكير، وإذا نظر فإليهما النظر. ويدعوه الداعون من رجالات المجتمع إلى موائدهم فلا يبالي أن يرفع إلى أنفه الصحون والمعالق، فيحملق فيها، ثم يدور عليها يمسحها بمنديله. كان كل عمل يأتيه إعلانا بعيد المدى عن تلك المكروبات
نعم أغرق بستور كل فرنسي أن يهتم لهذه المكروبات، من الإمبراطور في عظمته وأبهته، إلى الزبال بين قمامته. وتسارق الناس الأخبار من أبواب مدرسة النرمال عن أحداث مريبة غريبة، حدثت أو تحدث قريباً: ومر الأساتذة والطلاب بتلك المعامل، وفي خطاهم بعض سرعة، وفي قلوبهم شيء من فزع؛ وكأني بك تسمع الطالب يتحدث إلى رفيقه الطالب، وقد مرا في طريقهما بمدرسة النرمال فأظلتهما حيطانها العالية الغبراء، فيقول له: (إن وراء هذه الحيطان رجلا يدعى بستور يكشف أموراً عجيبة عن مكنة الحياة، وقد بلغ من علمه أنه يعرف كيف تنشأ الحياة، ويقولون إنه ربما كشف منشأ الأمراض وأسبابها) ونجح بستور في إغراء السلطات بزيادة سنة على سنوات الدراسة، وبدأت المعامل تزداد عدداً، وخطب في تلاميذه خطباً من نار، فبعث بفصاحته الدمع إلى عيونهم، وتحدث عما تحدثه المكروبات من العلل في الأجسام قبل أن يعلم عن هذا شيئاً، فلم يكن بعد بحث الطاعون، ولم يكن بعد كشف غيره من الأوبئة القتالة، ولكنه فعل ذلك ليحمس الجمهور، والجمهور الفرنسي عنيد، عسير تحميسه
كتب يوماً رسالة صغيرة حارة يخاطب فيها جمهور الفرنسيين قال: (أرجوكم، أتوسل إليكم أن تعيروا شيئاً من اهتمامكم هذه البيوت التي أسميت معامل عمداً وقصداً. طالبوا بزيادتها. طالبوا بتكميل ما نقص منها. إنها معابد الغد. ومنها ستخرج لكم أسباب الرفاهية وأسباب الغنى). بقد سبق بستور زمانه بنصف قرن، وكان كالنبي الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، فنصب لقومه مثلاً للكمال عظيمة، ولكنه لم ينس أن يذكرهم بما سيكون لهم كذلك من متع مادية دون تلك المثل عظماً، لم يكن بستور بحاثاً كبيراً فحسب، بل كان خبيراً بأمور دنياه خبرة فائقة
(يتبع)
أحمد زكي