مجلة الرسالة/العدد 97/بنك مصر أيضا
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 97 بنك مصر أيضا [[مؤلف:|]] |
الانتحار ← |
بتاريخ: 13 - 05 - 1935 |
ً
2
نعود إلى الحديث عن بنك مصر مغتبطين كما يعود المطرب إلى تكرير لحنه، والمؤمن إلى ترديد صلاته! وهل كان بنك مصر وعيده في الأسبوع المنصرم إلا لحناً شدا على كل لسان، ودعاء صعد منك كل قلب؟ لقد جاء هذا العيد القومي كما توقعناه دليلاً على رشد هذه الأمة الكريمة: رَحَض عن سمعتها الأذى، ودَحضَ عن كفايتها التهم، وجلا عن نهضتها الشكوك، وبدّد عن مستقبلها السحب، وأعلن - في شاي الحديقة، وعشاء الكونتننتال، ومهرجان القاهرة، وحفلات الأقاليم، بلسان طلعت حرب باشا مدير البنك، وأحمد عبد الوهاب باشا وزير المالية والسِّر إدوارد كوك عميد سياسة الاقتصاد الإنجليزية، والمسيو هنري نوس ممثل رءوس الأموال الأجنبية - أن مصر التي غَلَّها العجز الاجتماعي حيناً من الدهر عن استعمال حقها واستغلال خيرها واستثمار غناها، قد أتاح لها بنك مصر وشركاته أن تشعر بالقوة التي كمنت فيها، وتفطن إلى القدرة التي ذهلت عنها؛ وتخرج من ذلة اليُتم والعُدم والقصور إلى عزة الرشد الوُجْد والأهلية
نعم كانت الأيام الثلاثة التي حفِلت بعيد بنك مصر مظاهرة قومية موفقة، شارك فيها قصر الملك، ودار المندوب، وجميع الأحزاب، وكافة الطبقات، وعامة الشعب، في الساعة التي رجعت فيها السياسة المصرية إلى ذبذبتها الأولى: تتحرك ولا تسير، وتتردد ولا تستقر، وتتصرف ولا تملك. وكان ابتهاج الأمة بها ابتهاجاً بحقها الذي يتخلص من الباطل، وفوزها الذي يتميز من الفشل، ونصرها الذي يتبرأ من الهزيمة!!
تستطيع أن تناقش وتعارض وتستريب إن زعم لك زاعم أن يقظتنا للعلم والأدب، والحرية والسياسة، بلغت الحس العالي المرهف، ولكنك أمام الأرقام التي قدمها إليك بالقول طلعت حرب، والمنتجات التي وضعها في يديك بالفعل طلعت حرب والمؤسسات التي عرضها عليك بالسينما طلعت حرب، تعتقد اعتقاداً رياضياً أن نهضتنا الاقتصادية يقين لا يخامره شك، وواقع لا تزخرفه مبالغة. وإن في تسميتنا هذه النهضة التي نهضها بنك مصر فحلَّت عن الأمة حبوة العجز، بالنهضة الاقتصادية، تسمية لها بالوصف الأشهر والأثر الأغلب. أما الواقع فإنها انتظمت مرافق البلد من كل نوع، وتناولت أمور الناس من كل جهة: أجدْت على العلم ففتحت له أبواب العمل؛ وعلى التعليم فمهدت له سبل التطبيق؛ وعلى الأدب فاستعملت اللغة في أعمال المال، ونشرت الثقافة بتسهيل الطباعة؛ وعلى الأخلاق فأحيت في الرجال الثقة، وقوَّت في الشباب الرجولة؛ وعلى الاجتماع فوقَت الأمة شر العطلة المجرمة، والأزمة المستحكمة، باستخدامها الألوف المؤلفة من الموظفين والصناع والعمال في شركات البنك وفروعه؛ وعلى القومية فخلقت الروح الجماعية بإنشائها الأعمال التي تقوم على رءوس المال، وتوزع العمل، وتساند القوى، وتضامن الجماعة؛ وعلى السياسة فكفكفت عنها شِرَّةَ النفوذ المالي الأجنبي بمنازلته الجريئة في ميادينه القوية الحصينة؛ وعلى الإسلام، فساعدت على إقامة ركن من أركانه، وكشف الضر عن بيت الله ومنزل قرآنه؛ وعلى وحدة العرب فوصلتها بأسباب التعاون، وثقَّتها بسلاسل الذهب؛ والاقتصاد اليوم وقبل اليوم كان دستور الحياة، وعلة السعي لها، وغاية الجهاد فيها، فلا بدع إذا أثر في كل شيء، وعمل في كل حركة، وهاج في كل ثورة، وصاح في كل نهضة
شهدت كثيراً من المؤتمرات والمظاهرات والاحتفالات في أغراض شتى، فكان شعوري الذي أجده فيها شعور الحالم الذي يتوهم الحقيقة، والفاقد الذي ينشد الوجدان، والأمل الذي يرجو الظفر؛ ولكني شهدت هذه المرة احتفالات قومي بعيد بنك مصر، فكان الشعور الذي ملكني وملك الناس شعور العالم الذي اطمأن إلى التجربة، والواجد الذي اغتبط بالحصول، والظافر الذي انتشى بالنصر، والحي الذي استعز بالكرامة
وكنا نلحظ البشر الذي يجول في المحيا الذي لا ينبسط، والابتسام الذي يجري على الشفة التي لا تَفْتَرُّ، فنتخيل في وجه طلعت حرب وهو يَشِعُّ بالإخلاص الساذج مستقبل بلادنا الذي يتهلل، وأمل شبابنا الذي يبتسم
نضّر الله بالرضى والغبطة وجوه أولئك الأبرار المخلصين الذين شغفهم حب الخير ففكروا وأمِلوا، ثم آمنوا وعملوا، ثم استمسكوا بِرَوح الله وقوة الشعب على عصف الخطوب وإلحاح المكايد، حتى استقر بهم الإيمان على الفوز، واستقام بهم الإخلاص على الطريقة، فكانوا مثلاً لجهاد الصابر المثابر الذي يتلمس القوة من جوانب الضعف، ويتطلب الكثرة من أشتات القلة، ويخلق النجاح اليقين من أحاديث المني، ويرفع في مُعترك الشُّبَه والظنون هذا الصرح الباذخ فيكون قاعدة للمصلح الباني، ومنارة للمتخلف الواني، ومثابة للمتنكب الشريد!
أحمد حسَن الزيات