مجلة الرسالة/العدد 969/تطور البديعيات في مدح الرسول
→ من وحي التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 969 تطور البديعيات في مدح الرسول [[مؤلف:|]] |
الثورة المصرية ← |
بتاريخ: 28 - 01 - 1952 |
للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
وفي القرن الحادي عشر نرى (البديعيات تحتضن التراث الأدبي) وذلك حين أخذت تسلك دوراً خطيراً في حياة الدراسة الأدبية عامة وحياة البلاغة بصفة خاصة. وهنا نرى أن المدائح النبوية التي حملت مشعل علوم البلاغة وأسهمت في تطور فنون البديع وأخذت في صورة أخرى تحتضن آثار المدرسة الأدبية حتى أصبحت هذه المدائح صناعة المتأدبين وطريقة السالكين لمذاهب الشعر. ومن هنا صارت تلك المدائح موضوعاً للأدب ومحطاً للأدباء وميداناً فسيحاً لجولاتهم وطريقاً ممهداً لمنافساتهم في العصر التركي الذي ضاع فيه ثلثا التراث الأدبي. فكانت المدائح النبوية في القرن الحادي عشر أشبه تماماً بالقيم الذي حافظ على تراثنا الأدبي والحصن الذي وجد فيه الأدب العربي حمى لزماره وموئلاً لآثاره. كما قامت بدورها الخطير في المحافظة في الذوق الأدبي: حافظت عليه حين كانت اللغة العربية تترك، وحافظت عليه من التصنيع والتصنيع اللذين ظهرا في كثير من أغراض الشعر والنثر؛ حتى كادا يوديان يقيمهما الفنية ولا سيما في عصر ركدت فيه سوق الأدب وضعفت فيه عناية القوم بالفن والقريض. . . ولولا هذه المدائح النبوية لتفاقم الخطب في التراث الأدبي أكثر مما كان، ولما وصل إلينا من أدب ذلك العصر التركي إلا كل مرذول ممجوج.
ولقد عاون على تنافس القوم فيها وتفننهم في نظمها - إذ ذاك - زهدهم الشديد في التقرب إلى الحكام والأمراء الذين كانوا لا يحسنون فهم الشعر ولا يجيدون قيمة المديح أو يكافئون عليه بشيء، فأنقلب الشعراء يمدحون النبي الأعظم وقصروا مدحهم عليه فعالجوا ضروب البديعيات وضاعفوا اهتمامهم بتحبيرها وتذبيحها. ومن ثم كانت هذه المحاولة مظهراً من مظاهر نضوج البديع في ذلك العصر. فوضع شهاب الدين الحميدي المتوفى سنة 1005هـ بديعية (تلميح البديع بمدح الشفيع) في مائة وسبعة وعشرين بيتاً كما وضع أبو الوفا العرضي المتوفى سنة 1034هـ بديعية (الطراز البديع في مدح الشفيع) في مائة وثلاثة وثلاثين بيتاً.
ولما كانت للبديعيات أثرها الخطير ومكانتها الأدبية الملحوظة في المدرسة الأدبية كان من البديهي أن يتناولها القوم بالتعليق والشرح، فظهرت فكرة (شروح البديعيات) في القرن الثاني عشر، كما ظهرت فكرة التشطير والتربيع والتخميس والتسبيع وغير ذلك من أنواع التشطير. فوضع صدر الدين الحسيني (1120هـ) بديعية (أنوار البديع في أنواع البديع) في مائة وثمانية وأربعين بيتاً. وكان الناظم كلما وضع بيتاً من أبيات بديعيته أتبعه بما قاله السلف قبله مبتدئاً بصفي الدين.
وعلى هذا المنوال نسيج الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1134هـ في بديعيته المسماة (نفحات الأزهار على نسمات الأسحار، في مدح النبي المختار (وهي بديعية طويلة تقع في مائة وخمسين بيتاً. كما وضع أخرى تقع في مائة وواحد وخمسين بيتاً تسمى (مليح البديع في مدح الشفيع).
وتلاهما قاسم البكره جي (1148هـ) في بديعية تقع في مائة وثلاثة وخمسين بيتاً تسمى (حلية العقد البديع في مدح النبي الشفيع)، وعلي بن محمد القلعي (1158هـ) في بديعيته المسماة (مفتاح الفرج في مدح عالي الدرج).
وفي القرن الثالث عشر ظهرت (بوادر التحول) والانتقال في حياة البديع، وقد كان للنشاط السياسي في مستهل ذلك القرن - وهو فجر النهضة - أثره القوي في الحياة الفكرية. . . فظهر جماعة من شعراء النهضة عالجوا البديعيات في دواوينهم علاجات تجلت فيها روح إنسان يحاول أن يميز بين يومه وأمسه. . . ونجح بعض الشعراء الذين آمنوا بما كان يخالجهم من ضرورة إلى التجديد، منهم محمود صفوت الساعاتي (1298هـ) إذ نظم بديعيته سنة 1275هـ في مائة واثنين وأربعين بيتاً معارضاً بها بديعية ابن حجة الحموي، وعنى بشرحها المرحوم عبد الله باشا فكري ناظر المعارف العمومية في ذلك الوقت.
وفي أوائل القرن الرابع عشر تبلبلت ألسنة المتأدبين بين (التقليد والتحرر) بين المذهب التقليدي الذي ورثوه ومذهب التحرر الذي نودي به في عصر النهضة.
فمن البديعيين جماعة غلبت على أنفسهم الروح التقليدية فنظموا البديعيات على الطريقة التي نظم عليها من سبقوهم وذكوا كل ما وصل إليه توليد القدماء والمتأخرين والمحدثين من فنون البديع. ومن هؤلاء محمد أمين العمري المتوفى سنة 1311هـ ومحمد بدر الدين الرافعي المتوفى سنة 1312هـ. وقد انتهى تطور البديعيات عند هذا الأخير فبلغ مجموع ما أورده من فنون البديع مائتين وستة ذكرها في مثلها من الأبيات.
ومنهم من تخلص من ريقة التقليد ومضى في ركاب المتحررين، فظهرت آثار التجديد فيما نظمه من بديعيات، ومن هؤلاء حسن حسني الطويراني التركي (1315هـ) وطه الجزائري (3141هـ) وأمير الشعراء أحمد شوقي بك المصري (1351هـ).
وقد كان طريق هؤلاء الشعراء وعراً محاطاً بالصعاب؛ ذلك لأن التحرر من التقليد الموروث لم يكن بالشيء اليسير في الحياة الأدبية، فيصعب على النفس زواله سريعاً. لذلك كان علاجه أمراً صعباً، وكان شأن المتحررين شأن من يسلك طريقاً لا يعرف كنهه أو يحيط بمعالمه، فهو يهتدي تارة ويضل أخرى. ولعلك حين تقرأ قصيدة (نهج البردة) لشوقي بك - وهو آخر هؤلاء المتحررين - تلمس عن كثب مبلغ ما وصل إليه شعراء النهضة من تبلبل بين (المذهب التقليدي القديم) و (المذهب التحرري الحديث). ولعلك وقد أوتيت حظاً من نفاذ الفكر وبسطة من الذوق تلمس - وأنت تقرأ قصيدة نهج البردة - معالم ما وصلت إليه البديعيات من تطور، نلمس كل ذلك من ثنايا هذه القصيدة:
(1) فهو حين يلتزم بحر البسيط وقافية الميم - وهما قدر مشترك في سائر البديعيات - ترى فيه شخصية المقلد الذي لم يستطع أن يتخلص من ربقة التقليد.
(2) وهو حين يرسل الفنون البديعية بغير قصد ملموس أو تكلف ممقوت يستند عليه في إيرادها ويزمع فيه إلى سردها - تلمس فيه شخصية المتحرر الصادق في تحرره.
هكذا كان ناظمو البديعيات في القرن الرابع عشر، كانوا يسيرون على قدمين من التقليد والتحرر. وقد يبدو لك في ذلك بعض التناقض وليس من التناقض في شئ. وإنما هو مرحلة التطور والانتقال إلى الحديث. كان لا بد للبديعيات من أن تمر بها في عصرنا هذا، حين تم فيه امتزاج العنصر القديم بالعنصر الحديث. فلم يستطع الناظمون بعد أن يتخلصوا من القديم كله، كما لم يستطيعوا أن ينهضوا بكل ما ينبغي عليهم من تحرر. لذلك بقيت معالم التقليد في بحر البسيط وقافيه الميم كما هي - وهي الحدود التي لم يستطع أحد من الشعراء أن يخرج عنها - وظهرت معالم التحرر في طريقة العرض والاختيار وعدم التقليد بسرد معينة من البديع.
وقد أدراك المويلحي شيئاً من هذا الذي حيث قال: (ولقد وفق بحمد الله شاعرنا أحمد شوقي إلى سلوك هذا السبيل في شعره فلم يقتصر على قرض القريض فيما يجري عليه الأحوال في عصرنا الحاضر بل سار على نهج المتقدمين وانتحى مناحيهم في فنون الشعر واقتدى بهم هذه في هذه القصيدة بما يسمونه بالبديعيات في مدح رسول الله عليه وسلم.
وبعد فهذه مراحل تطور البديعيات النبوية التي تحدعت عن نشأتها في العام الماضي أوضحت لك فيها ما أفدناه من تطور فنون البديع حتى أصبحت مائتين وستة من الفنون. ولكننا لم نجد بعد أمير الشعراء شاعراً آخر يعود بنا إلى هذا التقليد الكريم في شعره. وإنا لمنتظرون ما يعز بعد ذلك من تطور.
حامد حفني داود الجرجاوي