مجلة الرسالة/العدد 968/دعوة محمد
→ يا مصر!. . | مجلة الرسالة - العدد 968 دعوة محمد [[مؤلف:|]] |
فدوى طوقان ← |
بتاريخ: 21 - 01 - 1952 |
2 - دعوة محمد
لتوماس كارليل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
الكعبة:
إنها أقدم المعبودات وأشرفها، فقد ذكر المؤرخ الروماني (سيلاني) أنها كانت في مدته أشرف المعابد في العالم وأقدمها طرا، وذلك كان قبل ميلاد السيد المسيح بأكثر من خمسين عاماً وتتكون الكعبة من البناء الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل ليحج إليه الناس ذاكرين ربهم، (وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل من إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).
والحجر الأسود الذي يعتقد بعض المؤرخين أنه ربما كان من رجوم السماء، فإذا صح هذا الاعتقاد، فلا بد أم يكون قد بصر به أحد وهو نازل من الجو. والبئر زمزم التي تنبع من بين الصخر. وأي منظر الماء ينبحس من بين الحجر الصخري الأصم كأنه الحياة من الموت! وقد اشتق لها اسمها (زمزم) من صوت تفجرها وهدير مياها. ويتفق أكثر المؤرخين على أنها قد تفجرت من تحت أقدام هاجر زوجة إبراهيم وابنها إسماعيل بعد أن أشرفا على الهلاك، فكانت لهم حياة وشفاء من الله.
وقد عظم العرب الكعبة وقد سوا البئر والحجر الأسود منذ آلاف السنين، إذ كانوا يحجون إليها تقرباً إلى الله وعبادة له. وكان من حج القبائل أن أنشئت مدينة مكة وسط هضاب مقفرة وتلال من الرمال مجدبة وعلى مسافة من البحر بعيدة، إذ كان كثير من الحجاج يطلبون المأوى فلا يجدونه، فأنشأوا هذه المدينة ليأووا إليها زمن الحج، فكانت تلتقي فيها التجارة من أول يوم يلتقي فيه الحجاج. وعلى مر الأيام وجد جماعة من العرب أنفسهم مجتمعين لأغراض كثيرة تتركز كلها حول الكعبة، فأنشأوا لهم مساكن حولها وأقاموا متيمنين ببركتها محتمين بحرمتها، ومن هذا الوقت أصبحت مكة أهم أسواق البلاد العربية بأجمعها والمركز التجاري المهم بين الشام ومصر وبين الهند، بل بين الشرق والغرب. ولأهميتها في ذلك الوقت بلغ عدد سكانها في بعض الأحيان أكثر من مائة ألف، بين تجار ومشترين وموردين للبضائع وسكان أصليين. وكان يتولى أمرها جمهورية أرستقراطية عليها سمة (دينية) فقد كان سكانها يختارون لها جماعة من عشرة رجال، من إحدى القبائل ليكونوا حكامها وحراسا للكعبة وسدنتها، وكانت هذه لا شك طريقة غير سليمة. وقد انتهى هذا الأمر في أواخر الأيام السابقة لظهور النبي إلى قبيلة قريش التي منها أسرة محمد إذ أنها كانت هي التي تسكن مكة. أما بقية القبائل الأخرى، فكانت متفرقة في أنحاء الصحراء تفصلها الواحدة عن الأخرى مسافات بعيدة من البيد والقفار، وكانت كل قبيلة تختار لها أميرا وربما كان هذا الأمير راعيا، بل وكثيراً ما يكون لا عمل له إلا قطع الطريق والإغارة على القبائل الأخرى المجاورة. وكثيراً ما كانت الحرب تستمر سجالا بين القبائل عدة سنوات، ولكنهم على رغم تباعدهم وشتات شملهم وما بينهم من عداوة وبغضاء، كانوا يلتقون حول الكعبة فيجتمعون رغم اختلاف عقائدهم، على مذهب واحد، وهو تقديس الكعبة وتعظيمها. على أنه كان هناك شيء يجب علينا ألا ننساه وهو أنه كان العرب رابطة قوية، ألا وهي رابطة الدم واللغة التي تفوق كل الروابط والتي توحد المشاعر وتسهل التفاهم وتشعر بالتقارب.
على هذا المنوال عاش العرب قرونا عديدة خاملي الشأن لا أر لهم في الحياة ولا ذكر لهم في العالم؛ فقد وصل بهم الاضمحلال والسقوط، أن كان يستخدمهم الفرس والرومان في محاربة بعضهم البعض في الدفاع عن مصالح تلك الأمم. غير أنه في أواخر أيامهم حدثت بينهم دواعي اختلاط، أخذت تربطهم وتقرب بينهم، ثم أخذت تتسرب إليهم أبناء عن أكبر حادثة وقعت في ذلك الوقت على وجه البسيطة - وأقصد بها حياة المسيح ودعوته - فأحدثت هذه الدعوة تأثيرا ًملموسا في الأمة العربية وجمعت بين كثير من قبائلها، وكأنما أراد الله أن يكون هذا العمال إرهاصا للدعوة الكبرى واليوم المشهود الذي ينتظره هؤلاء العرب ليعلو ذكرهم ويرتفع في الآفاق شأنهم.
ما أعجب أمر الكعبة وأعظم شأنها! فهي التي جمعت بين شتات العرب ووحدت بين مشاربهم، وكما هي في هذه الآونة قائمة على قواعدها عليها الكسوة الشريفة التي يرسلها لها السلطان كل عام والتي توقد فيها المصابيح في ليلة الهجرة لتشرف تحت النجوم المشرقة، هي أجل أثر من آثار الماضي وخير ميراث من الغابر.
هذه هي الكعبة التي يولى شطرها ملايين عديدة من المسلمين وجوههم من أقاصي الغرب من دلهي إلى مراكش، كل يوم خمس مرات. تهفوا إليها قلوبهم وتشخص أبصارهم. إنها والله لمن أجل مراكز المعمورة وأشرف أركانها.
الإسلام:
ما هو الإسلام؟ كثيرون هم الذين لا يعرفون ما هو الإسلام، أو يتساءلون مستهزئين هذا السؤال. أما الأولون فهم معذورون وأما الآخرون فهم حاقدون. ولهؤلاء وأولئك أقول.
الإسلام هو أن نذعن للأمر الله ونسلم الأمر له ونتوكل عليه، ونعلم أن القوة كل هي في الخضوع لحكمة والاستنامة لحكمته والرضا بما قسمه لنا في الدنيا والآخرة. ومهما يصيبنا من شيء، فلنعلم أنه من الله ويجب علينا أن نتقبله بنفس راضية ووجه باش ونعلم أنه الخير ولولا ذلك لما اختاره الله لنا. (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنين) وقد قال شاعر ألمانيا (جونة) عندما عرف أن هذا الإسلام: (إذا كان هذا هو الإسلام وهذه تعاليمه فكلنا إذن مسلمون) نعم هذا قول حق لأن كل من كان شريفاً فاضلاً كريم الخلق قوي اليقين فهو مسلم. وقد قيل: (أن منتهى العقل والحكمة ليس في مجرد الإذعان للضرورة، لأن الضرورة تجعل المرء يخضع لها رغم أنفه، فلا يكون له فضل فيما يأتيه، وكيف يكون للإنسان فضل فيما يفعله مكرها! ولكن منتهى العقل وعين الحكمة هي اليقين بأن ما ينزل بالإنسان من حوادث الزمن هي الخير له، وأن لله في ذلك حكمة تلطف عن إفهامنا نحن البشر وتدق عن عقولنا، وأنه من الخطأ والسخف أن يعتقد الإنسان في نفسه القوة ويجعل من عقله الضئيل ميزانا للعالم وما يجري فيه من أعمال، فيضع الأشياء في غير مواضعها الحقيقية، بل يجب عليه أن يعتقد أن للكون قانونا عادلاً وإن غاب عن إدراكه وعجز عن فهمه، وأن الخير هو أساس الكون، والنفع هو روح الوجود، والصلاح لباب الحياة، عليه أن يعرف هذا ويعتقده ويتبعه في سكون وتقوى حتى لا يضل الطريق إلى الله. وهذا هو الإسلام.
إن الإنسان يكون مصيباً وظافراً، سائراً على الطريق الأقوم والخطة المثلى والمذهب الأشرف الأطهر، ما دام معتصما بحبل الله متمسكاً بقانون الطبيعة الأكبر، غير مبال بالقوانين الوضعية السطحية والظاهرات الوقتية. إن المؤمن هو الذي يتبع القانون الجوهري الكبير، ذلك القانون السماوي الذي يعتبر قطب الرحى ومحور النظام في الكون.
وأول وسيلة يجب على من يريد أن يسير على منهج القانون الأعظم إتباعها، الاعتقاد بوجوده وبأنه أصلح القوانين للحياة بوجوده وبأنه أصلح القوانين للحياة ولا قانون غيره يصلح لتنظيم الكون وقيادة العالم إلى الأمن والسلام مما يضعه البشر لأنهم قاصرون عاجزون. هذا هو جوهر الإسلام وروحه. وهو أيضاً كان روح النصرانية من قبل، يوم أن كان أهلها يعتقدون هذا الاعتقاد.
الإسلام والنصرانية دينان سماويان. ويجب علينا أن نفهم أن الأديان السماوية تأمرنا بالتوكل على الله فبل كل شيء وأن نعظمه بقدر عظمة الكون الذي خلقه، وتبعاً لذلك يجب أن نزجر النفس عن الشهوات ونهي القلب عن الهوى والزيغ، وأن نتعود الصبر على الأذى وأن نرضى بما قسم الله وكل ما يأتنا به الله إن هو إلا يد بيضاء من الله علينا ونعمة غراء من نعمة على الكون التي يجب أن نحمدها ونخر لله ساجدين شكراً، نحمده على كل حال ولو كان ضررا يلحق بنا فقد يكون فيه شفاء لنفوسنا وتطهير لقلوبنا مما بها من الشوائب والأدران (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شراً لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
علينا أن نعرف موقنين أن عقولنا قاصرة عن معرفة شيء من أسرار هذا الكون الواسع، وتبارك الله ذو الفضل والجلال، وما أحرانا أن نقول دائماً: (إننا بقسمة الله راضون ولو ما قسم لنا المنون).
لو تأملنا سرعة انتشار الإسلام ودخوله إلى القلوب وشدة امتزاجه بالنفوس واختلاطه بالدماء في العروق، وتجردنا من عصبيتنا البغيضة، لتحققنا من أنه خير من النصرانية وأفضل تلك التي كانت منتشرة وقت ظهور الإسلام في كثير من بلاد العالم كالشام واليونان وغيرها، تلك النصرانية التي كانت تصدع الرأس ويحول بطلانها بين قلوب معتنقيها قفراً ببابا من المعاني السامية والروحية القوية التي يمتاز بها الإسلام. لقد كان في النصرانية عنصر من الحق، غير أنه كان ضئيلاً جداً وهذا هو السبب الذي جعل الناس يؤمنون بها، لأن الناس مهما كانوا فهم يريدون الحق ويسعون إليه ولكن ما إن وجد الإسلام حتى أصبحت النصرانية على حالها هذا كالدعي بجانب الأصيل.
فقد جاء الإسلام والنصارى فرق وشيع يقيمون أسواق الجدال، يخطئ كل فريق منهم الآخر بالحجج الجائزة والبراهين المصطنعة الباطلة. فكانوا بهذا يطعنون دينهم بأنفسهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون حبا في شهوة النصر كمن يقال فيهم (يخربون بيوتهم بأيديهم) جاء الإسلام على الملل الباطلة والنحل الكاذبة والعبادات الضالة فسحقها، وحق له أن يسحقها لأنها باطل وهو حقيقة خارجة من قلب الطبيعة الصادقة إن الإسلام ما كاد يظهر حتى زالت وثنيات العرب واختفت من الوجود واحترقت جدليات النصرانية وذهب كل ما لم يكن حقا، وصار حطباً التهمته نار الإسلام فحولته رمادا ذهب والنار لم تذهب على مر العصور.
نظر محمد ببصره النافذ إلى ما وراء معبودات العرب الكاذبة ومذهبهم التي لا تقوم على أساس صحيح، ونظراً إلى اليهود ورواياتهم وبراهينهم ومزاعمهم وقضاياهم وإلى النصرانية وجدلياتها. نظر إلى هذا وغيره بعينه الثاقبة وقلبه البصير الصادق وفكره المتوقد إلى جوهر الأمر وصميمه، فقال في نفسه: ما هذه الأصنام التي تصقل بالزيت وتدهن فيقع عليها الذباب فلا تستطيع رده، إنها خشب مسندة لا تضر ولا تنفع، إنها باطل ومنكر فظيع وإغراق في الكفر بالله خالق الكون ومسيره، ولكن الحق هو الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الذي خلقنا وهو الذي يحيينا ويميتنا ثم يميتنا ثم يحيينا، ويطعمنا ويسقينا، وهو أرأف بنا منا أنه هو الرؤوف الرحيم، الذي خلق لنا ما في الأرض جميعاً لننتفع به ونشهد على أنه هو الواحد القادر الذي يجب أن يعبد، لا إله غيره.
لقد آمن العرب بالإسلام ودخلوا فيه أفواجاً راغبين غير مكرهين، وإن دينا آمن به أولئك العرب الوثنيون وأمسكوا بقلوبهم وعضوا عليه بنواجذهم لجدير بأن يكون حقاً وأن يصدق به لأنه حق لا مراء فيه.
لقد اشتمل الإسلام على مبادئ عظيمة وقواعد جليلة، وإن الشيء الوحيد الذي يجب على الإنسان أن يلحظه في الإسلام، هو اشتماله على روح الأديان جميعاً، هذه الروح التي تلبس أثواباً مختلفة وتتشكل بأشكال متعددة، ولكنها في الحقيقة شيء واحد.
وباتباع قواعد الإسلام والتمسك بروحه يصبح الإنسان إمامنا كبيراً لهذا المعبد الأكبر (الكون). على الإنسان إذا أراد الهداية، أن يسير على قواعد الخالق تابعاً لقوانينه لا يحاول أن يقاومها أو يدفعها أو يعبث بها لأنه سيبوء بالفشل لا محاولة لأن الله هو الذي يحفظنا (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ولم أجد قط تعريفاً للواجب خيراً من هذا.
ولا يكون الإنسان مصيباً إلا إذا سار على منهاج الإسلام وهو الدين القويم، لأن الفلاح في اتباعه (إذا كان منهاج الدنيا طريق الفلاح).
إن من فضائل الإسلام التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، وهذا لا شك أعظم وأشرف ما نزل من السماء على بني البشر الله، إن الإسلام نور الله قد ظهر في روح مجمد ذلك الرجل العظيم، فأنار الدنيا وبدد ظلماتها، تلك الظلمات التي كانت تنذر بالهلاك والخسران المبين.
وقد جاء به من عند الله ملك عظيم سماء (محمد) وحيا، وقد صدق إذ سماء هذا الاسم، فمن منا يستطيع أن يسميه اسما آخر، ألم يجيء في الإنجيل (أن وحي الله يهبنا الفهم والإدراك) ولا شك أن العلم ببواطن الأمور والنفاذ إلى جوهر الأشياء لسر غامض وأمر خطير لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره، وقد قال نوفاليس: أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله به).
إن شعور النبي محمد الذي ضاءت روحه بنور الحقيقة الساطعة بأن هذه الحقيقة أهم ما يجب على الناس أن يعلموه ويؤمنوا به، لم يكن إلا أمرا بديهياً. وما دام الله تعالى قد اختصه بها وكشفها له ونجاه من الهلاك والتردي في الباطل فهو مضطر إلى نشرها بين الناس وإظهارها للعالم أجمع، وهذا كله معنى كلمة (محمد رسول الله) وهذا هو الجلي والصدق المبين وهو روح الإسلام وجوهره.
فهل بعد هذا يستطيع المكابرون أن ينكروا فضله ويجحدون مزاياه ثم يقولون ما هو الإسلام.
عبد الموجود عبد الحافظ