الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 966/من مشاهدة الهجرة ما فيه روعة وعبرة

مجلة الرسالة/العدد 966/من مشاهدة الهجرة ما فيه روعة وعبرة

مجلة الرسالة - العدد 966
من مشاهدة الهجرة ما فيه روعة وعبرة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 07 - 01 - 1952


لصاحب الفضيلة الأستاذ عبد القادر المغربي

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر ... لو يلقى صديقا مؤاتيا

قال هذا الشعر أحد الأنصار من أهل المدينة يذكر نعمة الله عليهم مذ جعل رسوله الأمين يهجر قومه إليهم

فهو يقول أنه (ص) لبث في قومه قريش ثلاث عشرة سنة يذكرهم ويدعوهم إلى الإسلام وهم لا يزدادون إلا عتوا واستكبارا

فرأى أخيرا أن هذا العناد من قومه يحول بينه وبين حريته في نشر دعوته، وأنه إذا بقى في مكة قريبا من المشركين سهل عليهم أمر مراقبته وإسكاته وخفق دعوته، فلا تخلص إلى سائر العرب بيسر وسهولة

وإنه إذا أراد رفع الصوت بها، والنجاح في تبليغها، واجتماع كلمة العرب عليها، كان عليه أن يهجر مكة إلى مكان آخر يأمن فيه على نفسه ويكون حرا في تبليغ دعوته، وأداء رسالته

لما رأى (ص) كل هذا وجد من الحزم أن يستعين بقوة خارجية، أي بقوة من جزيرة العرب غير قومه قريش الواقفين له بالمرصاد. وساعده على الاتصال بالقوة الخارجية أن العرب يفدون كل سنة إلى موسم الحج. فاغتنم هذه الفرصة وعرض نفسه في أحد المواسم على القبائل، فكانوا يستهزئون به؛ حتى اتفق له في بعض المواسم على القبائل، فكانوا يستهزئون به؛ حتى اتفق له في بعض المواسم أن اجتمع بطائفة من أهل يثرب (وهو اسم المدينة المنورة في زمن الجاهلية) وكانوا مشركين. . يحجون إلى البيت كسائر العرب، ويشاركهم في سكنى يثرب قوم من اليهود نزلوها منذ القديم، فعرض (ص) دعوته عليهم فأصغوا إليه بحرص وانتباه. وكانوا يسمعون مكن اليهود أن الله سيرسل إلى العرب ومن العرب نبيا ينقذهم من الضلالة. فقبلوا الدعوة منه (مبدئيا)، وكانوا ستة رجال، وقالوا له إنهم لا يقدمون على قبول الإسلام ما لم يرجعوا إلى يثرب. ويراجعوا قومهم بالأمر. وكان قومهم قبيلتين: الأوس والخزرج، وهم الذين سموا فيما بعد الأنصار، وإخوانهم الذ هاجروا إليها سموا المهاجرين وفي ثاني موسم أقبل اليثربيون واجتمعوا به (ص) في مكان اشتهر اسمه بالعقبة، وهو المكان الذي اجتمعوا به فيه بالموسم الماضي. فالاجتماع الأول سمي (العقبة الأولى) والثاني (العقبة الثانية). وكانوا هذه المرة اثني عشر رجلا: اثنان من الأوس وعشرة من الخزرج. فعرض عليهم (ص) الإسلام وشرح لهم الغرض من إنزاله. وبشرهم بالقرآن. فشرح الله صدورهم إليه وأسلموا، وكتموا إسلامهم ريثما يعودوا في الموسم المقبل ويأتوا بأهل الرأي والرياسة من قومهم. فعادوا ثالث مرة إلى المكان نفسه، وهذه هي (العقبة الثالثة)، وأتوا معهم بامرأتين وكانوا هم ثلاثة وسبعين رجلا: فالمرأة المسلمة ركن في نهوض الإسلام، ويحب أن يكون لها رأي في معظم (حركاته). فأسلموا كلهم على شروط شرطها النبي (ص) عليهم وهي:

توحيد الله

طاعة النبي (ﷺ)

قول الحق

ترك المحرمات

احترام المرأة وعدم وأدها

فرضوا بذلك ورجعوا إلى المدينة فرحين مستبشرين بالإسلام وبشروا قومهم به. وأخبروهم أن النبي (ص) قادم إليهم. وسيقيم بين ظهرانيهم

أما النبي (ص) فرجع إلى مكة مصمما على الهجرة كما وعدهم واستأذن ربه بها. فأذن له بالرحيل:

إلى أين؟

إلى يثرب. إلى المدينة المنورة

حتى إذا جاء الميعاد: وهو اليوم الذي عينه للرحيل، خرج من دار أبي بكر ومعه أبو بكر وحده، ظهر يوم الاثنين الواقع في غرة شهر ربيع الأول ولما صار خارج مكة التفت إليها مودعا قائلا: (ما أطيبك من بلد! وما أحبك إلي! ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت) وقد وقع له ﷺ وهو في طريقه إلى المدينة المنورة حوادث عجيبة، في سردها روعة الأفلام السينمائية، ولها في نفوس سامعيها هزة تحيي الذكريات الدينية، وتنعش الأحلام القومية. ومشاهد هذا الفلم المقدس متعددة متنوعة ليس باستطاعتي أن أعرضها كلها، فاكتفى بعرض ثلاثة مشاهد منها

(المشهد الأول) قصة أول مهاجر من مكة إلى المدينة

(المشهد الثاني) النبي (ص) في خيمة (أم معبد)

(المشهد الثالث) مهرجان الوصول إلى المدينة

وسأورد على القراء هذه المشاهد الثلاثة بطريقة تنسيني عن التعليق عليها وغمرها بالاستنتاجات، إذ أنها تعرب عن مغزاها وتنطق بنتائجها. بل إن مجرد سماعها مبسوطة هذا البسط ينبه في النفوس الشعور بخطورة الهجرة وعظم شأنها، وجلال أثرها. وإنها أشد الأحداث تأثيرا في ظهور أمر النبي (ص) ونقل دعوته من طور إلى طور: من طور القول إلى طور العمل، ومن طور العرض إلى طور التنفيذ

كان خبر عزم النبي على الهجرة بلغ قريشا فأخذوا يفكرون في أمرها وصد النبي عنها، بينما هو كان يفكر في إعداد وسائلها، وتهيئة أدواتها. غير أن بعض كرام صحابته أحبوا أن يتعجلوا السفر إلى يثرب فرارا بدينهم من المشركين وأذى القساة القلوب من أهليهم وذوي قرابتهم

هاهي ذي مكة ساكنة هادئة، وقريش وادعون في بيوتهم في وقت لا ينشط الناس فيه إلى حركة ولا ممارسة عمل.

فماذا نرى؟

ترى في بعض أزقة مكة رجلا وامرأة قد أناخا بعيرا، وأخذا يحملان على ظهره أمتعتهما وأدوات سفرهما. وكان يجول حولهما صغير لهما يطلب الركوب على البعير بدلال ولجاج حتى إذا فرغا من عملهما أركب الرجل زوجته على رحل البعير، ووضع ابنها الصغير بين يديها. ثم نهض البعير فأمسك الزوج بخظامه يريد الخروج من مكة متكلا على الله. وكان هؤلاء المسافرون يتكلمون همسا، وكأنهم كانوا يريدون أن يخفوا أصواتهم فلا يشعر برحيلهم أحد، لولا أن البعير برغائه وثرثرته فضح أمرهم، ونبه أهلهم وجيرانهم إليهم. فتألبوا عليهم. وحاولوا منعهم من السفر. فجعل الرجل يجادلهم بالمعروف، ويقول إنهم لا حق لهم في معارضته. وليس لأحد منهم دين في ذمته. فانبرى له رجلا منهم قائلا: يا أبا سلمة، اذهب أنت وحدك؛ أما زوجتك (أم سلمة) فهي قريبتنا ولا ندعك تسير بها في البلاد

فصاحت أم سلمة: وأنا أيضا لا أدع زوجي يسافر وحده وأبقى عندكم سجينة، وأخذت في مجادلة أهلها وتوبيخهم على صنيعهم الفضولي

وفي آخر الأمر تغلب أهلها عليها فانتزعوها من زوجها بالقهر عنها وعنه

عندها تقدم أهل أبي سلمة وكانوا إلى ذلك الحين ملازمين الصمت فقالوا لأهل أم سلمة: إذا كنتم ولا بد آخذين ابنتكم فإن ابنها الصغير (سلمة) لا نسلمكم إياه، ولا نسمح لكم بأخذه؛ فإنه ابننا لا ابنكم

ثم عمدوا إلى الصبي فأمسكوا بذراعه، وكان أخواله ممسكين باليد الأخرى، وما زالوا يتجاذبونه حتى خلعوا كتفه. فأعولت أمه واشتدت الضوضاء. وأخيرا غلب أهل الزوج وأخذوا الطفل

كل هذا يجري والبعير يرغو، والصغير تارة يبكي وطورا يلغو، وأبو سلمة المسكين ينظر إلى الفريقين أهلة وأهل زوجته حائرا لا يدري كيف يصنع. ثم صمم على الرحيل تاركا ابنه وزوجته إلى كلاءة الله. وامتطى راحلته وولى وجهه شطر المدينة معتمدا على ربه، مسلما وجهه إليه بجميع شراشر قلبه

وبقيت (أم سلمة) في مكة عند أهلها. أما أبنها ففي بيت أعمامه. وكانت في كل صباح تخرج إلى الأبطح حيث يجتمع الناس للنزهة والحديث فتندب حظها، وتبكي شجوها، صارخة: وا زوجاه! وا ولداه!

ولبثت على ذلك سنة حتى مر بها رجل من بني عمها فرحمها ورثى لحالها. وذهب إلى قومها. فقال لهم: ويحكم أما ترحمون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين ابنها وزوجها! فخجلوا. وقالوا لها الحقي بزوجك

قالت أم سلمة: فلم أكد أسمع هذه الكلمة منهم حتى هرولت إلى بيت أهل زوجي فأخذت ابني وأركبته أمامي على البعير وانطلقت أقصد يثرب وحدي لا يرافقني أحد. حتى بلغت التنعيم (وهو منزل على ثلاثة أميال من مكة) فصادفت هناك عثمان بن طلحة الحجبي وكان مشركا على دين قومه، ثم أسلم رضي الله عنه، فقال لي إلى أين؟ وكان بلغه خبري، فقلت إلى زوجي في المدينة. قال أو ما معك أحد؟ قلت لا، إلا الله وابني هذا. فقال والله لا أدعك تسيرين وحدك. ثم أخذ بخطام بعيري وسار بي. وكنا إذا أردنا النزول أناخ البعير واستأخر عني، فأنزل وأنزل ابني، فيجيء ويأخذ البعير فيحط عنه رحله وأداته؛ ثم يربطه بشجرة؛ ثم يذهب ناحية فيضطجع. وحين الرواح يقوم إلى البعير فيضع عليه رحاه ويستأخر. فأتقدم وأركب.

وأضع طفلي أمامي ثم نسير على بركات الله

ولم نزل هكذا حتى وافينا المدينة، وإذا أناس، وإذا بينهم زوجي. فقال لي عثمان: يا أم سلمة، هذا زوجك أبو سلمة. فما كان أشد فرحنا بتلاقينا!

وكانت أم سلمة بعد ذلك إذا حدثت عن هجرتها تقول: ما رأيت قط صاحبا في سفر أكرم من عثمان بن طلحة

ندع أم سلمة وزوجها في المدينة قريري العين، يجمع الشمل بعد البين، ثم نرجع في الحافرة: (أي في الطريق التي جئنا منها) ولا نزال نجد السير حتى نبلغ منتصف الطريق فماذا نرى؟

نرى خيمة قد نصبت على قارعة الطريق. وهي خيمة (أم معبد). وأم معبد هذه امرأة برزة جليلة (والمرأة البرزة في لغة العرب هي التي تبرز إلى الرجال فتجالسهم وتحادثهم) وقد اتخذت أم معبد في منتصف الطريق بين مكة والمدينة خيمة أعدت فيها كل ما تستطيع تقديمه لراحة المسافرين. فكان المسافرون الذين يتعبهم السير، والطريق طويل والحر حر الحجاز، يعرجون على خيمة (أم معبد) فيجدون فيها ما هم في حاجة إليه من طعام وشراب واستجمام وحديث عذب نزيه تطرفهم به صاحبة الخيمة فكانت خيمتها أشبه بمحطة من محطات سكك الحديد أو فندق من فنادق المسافرين التي تقام في الطرقات الشاسمة، وام معبد هي مديرة ذلك الفندق المتواضع ولما أشرفنا على أم معبد رأيناها منهمكة في تهيئة ما يلزم لركب كريم نزل بها: سيدان وخادمان. وأحد السيدين يمتاز في حسن سمته، وجلالة قدره، وجمال طلعته. وكنا نرى رفاقه الثلاثة يحيطون به: يرفهون عنه، ويبتغون راحته، ويسارعون في خدمته

أما (أم معبد) فكانت موزعة الفكر، ذاهلة اللب، كأنها مأخوذة بمهابة ذلك السيد الذي نزل بها. وما كانت تعرف من هو ولكن نحن عرفناه: هو نبينا محمد (ص) ومعه صاحبه (أبو بكر الصديق) و (عامر بن فهيرة) خادم أبي بكر، و (عبد الله بن أريقط) دليلهم في طريق هجرتهم إلى المدينة وإذا أبو بكر ينادي: يا أم معبد، أما لديك ما نأكله وندعو لك؟

بلى يا سيدي: وأسرعت فقدمت إليهم لبنا. لكنه - وا خجلتاه - دون كفايتهم. وأخذت تعتذر لضيوفها بأن السنة سنة جدب وقحط

وحانة من النبي (ص) التفاته فرأى شاة رابضة في جانب الخيمة وهي جافة الضرع مهزولة الجسم، فقام إليها ومسح ضرعها، وأم معبد تتعجب وتقول في نفسها: ماذا عساه يفعل؟! وإذا هو يحلب الشاة، وإذا هي تدر باللبن. فشربوا حتى إذا ارتووا واستراحوا هبوا عجلين إلى ركائبهم فامتطوها. واستبقوا طريقهم إلى المدينة وتركوا أم معبد في دهشة من أمرهم

وبعد هنيهة قدم عليها زوجها أبو معبد فرآها مضطربة متغيرة اللون. ورأى في جنبات الخيمة آثار أكل وشرب. ورغد وخصب

يا أم معبد ما الخبر؟ وما هذا الذي أراه؟

فأخبرته بخبر المسافرين الذين نزلوا بها، وان واحدا منهم قام إلى نعجتها هذه العجفاء الجافة الضرع فدرت لبنا غزيرا

يا أم معبد، صفي لي هذا الرجل العجيب! فقالت:

(إنه ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة. في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف. أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة. إذا صمت فعليه الوقار. وإذا تكلم سما وعلاه البهاء. كأن منطقه حزرات نظمن ثم تحدرن. حلو المنطق. لا نزر ولا هذر. أجهر الناس إذا تكلم وأجلهم من بعد. وأحلاهم وأحسنهم من قريب. ربعة. لا تشنؤه العين من طول، ولا تقتحمه من قصر. غصن بين غصنين. له رفقاء يحفون به. إذا قال يستمعون لقوله، وإذا أمر يتبادرون لأمره. محفود، محشود، لا هو عابس ولا مفند)

فلما سمع أبو معبد هذا الوصف قال وقد علاه الوجوم: ويحك يا أم معبد! هذا هو صاحب قريش الذين ما زالوا يطلبونه. وقد بذلوا جعلا لمن يرده إليهم. ثم تركها وأخذ يشتد في أثر الركب حتى أدرك النبي (ص) فأسلم ورجع إلى قبيلته يبشرهم بالإسلام وجعل رجال القبيلة الذين بلغهم خبر مرور النبي (ص) بأم معبد يفدون على خيمتها: يستوصفونها صفة النبي، وهي تصفه لهم. حتى قال لها بعضهم: (يا أم معبد! ما بال وصفك للرسول أوفي وأتم من وصفنا له لو رأيناه نحن معشر الرجال؟ فقالت: (أما علمتم أن المرأة إذا نظرت إلى الرجل كان نظرها أشفى من نظر الرجل إلى الرجل؟) ومعنى (أشفى) أدق وأكثر استقصاء وانتباها أحسنت فيما قلت يا أم معبد! غير أن علماء الحديث اعترضوا عليك في قولك أن النبي كان (أقرن) أي مفرود الحاجبين مع أن الذين وصفوه من الصحابة غيرك قالوا إنه كان (أفرق) أي مفروق الحاجبين متباعدهما لا مقرونهما. وقولهم هو الصحيح في وصفه

وعندي أن (أم معبد) لم تخطيء في الوصف كما زعموا، تقل (أقرن) وإنما قالت (أفرق) لكن النساخ هم الذين حرفوا كلمتها وما أسهل وقوع التحريف بين (أفرق) و (أقرن)

ندع خيمة أم معبد وننطلق مسرعين إلى يثرب

فماذا نرى؟

نرى المدينة المشرفة قد تألقت وتأرجت حتى أصبحت تحكي باقة زهر، أو ابتسامة ثغر، وقد برز سكانها إلى ساحاتها وضواحيها، وأخذوا يروحون ويغدون بينها وبين (قبا). و (قبا) قرية تبعد نحو أربعة كيلومترات عن المدينة

ونسمع فئات من الفئتين يتجادلون في النبي (ص) هل يبيت في (قبا) أو أنه بعد أن يستريح فيها يجيء المدينة؟

وكانوا يتواصفون ويذكرون من جماله وهيبته. فقال بعضهم اسمعوا: جئت الآن من (قبا) وقد رأيت أبا بكر واقفا على باب البيت الذي فيه النبي فحسبته النبي نفسه. وذلك لما رأيت من مهابته، وجلال قدره، والشيب الظاهر في لحيته. فتراميت عليه مرحبا متبركا، وإذا هو يمسكني بيدي فيقودني إلى داخل البيت ويقول هذا هو نبيك. فإذا لحيته الشريفة سوداء ليس فيها شيب. مع أنه أكبر من أبي بكر بثلاث سنوات. وكان النبي في نحو الخمسين من عمره ولما خرج النبي من قبا متهيئا للمسير إلى المدينة وقف أبو بكر يظلله بردائه وقاية له من حر الشمس. فعرفه الناس حينئذ. وجعلوا يهتفون إليه بالتحية والترحيب والإجلال والتعظيم

ثم ركب النبي ناقته وأردف أبا بكر خلفه. وأخذ طريقه إلى المدينة. وانساب الناس حواليه فرحين مستبشرين حتى دخلوها فإذا أجاجيرها (أي شرفات سطوحها) مزدحمات بالنساء فما رأين شخص النبي حتى علت أصواتهن بالزغردة والأناشيد

وكان صغار الصبيان والجواري يمشون زرافات بين يدي النبي يضربون بالدفوف ويغنون النشيد الذي يصلح أن نسميه (نشيد الهجرة) وأوله:

طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

وكان الرجال يتحمسون عند سماع زغردة النساء فيترامون على ناقة النبي ويتجاذبون زمامها يريد كل منهم أن يكون هو قائدها. وتفرق الغلمان والخدم في سكك المدينة ينادون (جاء محمد رسول الله. الله أكبر. جاء محمد رسول الله) وأشباه ذلك كلمات الغبطة والفرح والتنويه بقدره الشريف. وعلى جوانب الطريق كان جماعات الجيش يرقصون ويغنون ويلعبون بالحراب فرحا بقدوم النبي

ولما تخلل الموكب دور المدينة جعل سكانها يقفون في وجه الناقة ويضرعون إلى النبي أن ينزل ضيفا عليهم. وكانوا أحيانا يمسكون بزمام الناقة ويميلون رأسها إلى جهة بيوتهم، وهو ﷺ يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة. وكانت الناقة تنظر يمينا وشمالا كأنها تفتش عن دار تختارها لنزولها

وأخيرا بركت على باب (أبي أيوب النجاري (الأنصاري) وأرزمت (أي حنت الناقة حنينا طويلا). عندها نزل النبي ودخل الدار قائلا (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) فاستقبله أهل الدار بالترحيب، وبرز من داخل البيت جويريات بأيديهن دفوف وجعلن يغنين:

(نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار)

قال أنس خادم النبي: (إنني لم أر يوما في عمري أحسن ولا أضوء من ذلك اليوم الذي دخل فيه النبي المدينة ونزل دار أبي أيوب)

رأيتم أيها السادة القراء كيف أن الإسلام نشأ في قلة، وتكون من ضعف؛ ثم استحال الضعف إلى قوة ما لها حد، والقلة إلى كثرة لا يحصى لها عد عربي فرد (ﷺ) بعد عشر سنين من هجرته أخضع مائة ألف عربي لحكمه، ومائة الألف عربي بعد نحو سبعين سنة أخضعوا ملايين وملايين من البشر واستولوا ممالك العالم المعروف في ذلك الزمن!

قال علماؤنا رضي الله عنهم: يجب على الأب والأم أن يلقنا طفلهما الصغير حينما يعقل هذا التعليم البسيط وهو: (يا بني إن نبينا محمدا ولد في مكة، وهاجر إلى المدينة فدفن فيها)

فإذا انتقل الصغير من دور الطفولة إلى دور النشوء (أو دور التعليم الابتدائي) فما هو أول ما ينبغي للمعلمين أن يلقنوه إياه؟

أرى أن يلقنوه بيتا من الشعر قاله أبو تمام وهو:

الصين منظوم بأندلس إلى ... جدران رومية فملك ذمار

(وذمار) اسم قديم لليمن. يقول أبو تمام في هذا البيت إن ممالك الإسلام في زمنه (أي في حدود المائتين للهجرة) كان يحدها شرقا الصين، وغربا بلاد الأندلس، وشمالا روما (وكان المسلمون اقتربوا منها وهددوها)، وجنوبا بلاد اليمن الواقعة في جنوب البحر الأحمر! فما أعجب هذا البيت السحري الذي جمع فيه أبو تمام دنيا الإسلام بحدودها الأربعة!

وهكذا كانت عاقبة الهجرة النبوية: وثب الإسلام بعدها من عسر إلى يسر، ومن ضيق إلى سعة: فهو لم يكد يخرج من ضيق خيمة (أم معبد) حتى دخل من سعة بلاد الله خيمة يحدها الخافقان، ويأوي إلى ظلها التقلان!

دمشق

المغربي