الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 966/من قراء كتاب الله

مجلة الرسالة/العدد 966/من قراء كتاب الله

بتاريخ: 07 - 01 - 1952


الشاطبي

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

المدرس بكلية دار العلوم

هو القاسم بن فيره بن خلف الرعيني الشاطبي، ولد في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بشاطبة إحدى بلاد الأندلس، فاقد البصر، فحفظ ببدلته القرآن، وقرأ بها القراءات وأتقنها، ثم رحل إلى بلنسية بالقرب من بلده، حيث عرض ما درسه من القراءات على بعض أساتذتها، وأعاد درس كتاب التيسير للداني، ودرس الحديث والنحو والأدب والفقه والتفسير، فقرأ الكتاب لسيبويه، والكامل للمبرد، وأدب الكاتب لأبن قتيبة. وربما قرأ بها كتاب الظمآن في تفسير القرآن، على مؤلفه أبي الحسن بن النعمة، كما روى تفسير عبد الحق بن عطية. وقد أوتى استعدادا خاصا، منحه النبوغ في كل مادة درسها. وكان قوي الحافظة، فكان عالما بكتاب الله قراءة وتفسيرا، مبرزا في حديث رسول الله، إذا قرئ عليه البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه، ويملي آمالي على الموطأ في المواضع المحتاج إليها، إماما في النحو واللغة ورواية الأدب، إلا أن السليقة الأدبية كانت تنقضه، فجاء شعره معقدا صعبا، تنقصه حرارة العاطفة وروح الفن، ومن ذلك قوله:

يلومونني إذ ما وجدت ملائما ... ومالي سليم حين سمت الأكارما

وقالوا: تعلم، للعلوم نفاقها ... بسحر نفاق تستخف العزائما

وهي قصيدة طويلة. وله:

بكى الناس قبلي، لا كمثل مصائبي ... بدمع مطيع كالسحاب الصوائب

وكنا جميعا ثم شتت شملنا ... تفرق أهواء عراض المواكب

ولكن ذلك لا ينقص من قدره عالما كبيرا.

ويقول أبن خلكان وصاحب نفح الطيب: إنه قد خطب ببلده مع صغر سنه. أما أبو شامة في ذيل الروضتين فيروى أن سبب انتقاله إلى مصر أنه أريد أن يتولى الخطابة ببلده فاحتج بأنه قد وجب عليه الحج وأنه عازم عليه، فتركها ولم يرجع إليها، تو الأمراء يلزمون به الخطباء من ذكرهم على المنابر بأوصاف لم يرها سائغة شرعا. وربما يكون قد أقيم في الخطابة، ثم فر منها. وترك الأندلس سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، يريد الحج، فدخل مصر في ذلك العام. ولست أدري لإن كان قد أتم فريضة الحج أو لم يتمها، وألقى عصا التسيار في مصر عندما جاء إليها مستوفيا حظه من الثقافة التي تتصل بالقرآن، ولكنه رأى أن يستكمل دراسته للحديث، فسمع بالإسكندرية الحافظ السلفي. ثم جاء إلى القاهرة تسبقه إليها شهرته، فطلبه القاضي الفاضل للإقراء بمدرسته، فأجاب بعد شروط اشترطها عليه، على ما كان فيه من الفقر. ولست ادري عن هذه الشروط شيئا، ولكن القاضي الفاضل، فضلا عن قبول هذه الشروط، أنزله على الرحب والسعة، وعظمه تعظيما كبيرا وجعله شيخ مدرسته. وظل الشاطي بهذه المدرسة متصدرا لإفراد القرآن الكريم وقراءته، والنحو واللغة، ولم يفارق القاهرة سوى مرة واحدة، زار فيها بيت المقدس، فصام هناك رمضان، واعتكف سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وهنأ صلاح الدين بفتحه، ثم عاد إلى مدرسته التي انتهى إليه فيها رياسة الإقراء، وكان يعرف مذهب الشافعي ومالك ولذا نراه في طبقات الشافعية والمالكية؛ فضلا عن أن شروط مدرس الفاضلية أن يكون ملما بالمذهبين؛ وثابر على الإفراد بمدرسته، فكان يصلي فيها الصبح بغلس، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السرى إليه ليلا. وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أولا فليقرأ. وظل خادما للقرآن الكريم حتى توفى يوم الأحد بعد صلاة عصر اليوم الثامن والعشرين من جمادي الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة القاضي الفاضل، وخلف ابنا هو محمد الذي روى قصيدة أبيه في القراءات.

أما مواهب هذا الرجل وأخلاقه فقد أكبرها معاصروه ومؤرخوه. قالوا: كان أعجوبة في الذكاء، يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه يبصر لذكائه، وأنه لا يبدو منه ما يدل على العمى. زاهدا عابدا، مخلصا فيما يقول ويفعل، منقطعا للعلم والعمل، يتجنب فضول الكلام، ولا ينطق إلا بما تدعو إليه الضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة، وخشوع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكى ولا يتأوه. وما كان يرى التقرب إلى الأمراء، ولا النفاق والزلفي إليهم. حكي أن الأمير عز الدين موسك، الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له، بعث إلى الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه:

قال للأمير نصيحة: ... لا يركنن إلى فقيه

إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه

وكان من تلاميذه طائفة من المبرزين، نذكر منهم أبا الحسن السخاوي، وهو أجل أصحابه، وابن الحاجب وغيرهما، وقد بارك الله في أصحابه، فكلهم قد أنجب، وكلهم كان يضمر لأستاذ أسمى آيات الحب والإجلال، حتى أنشد أبو شامة المقدسي من نظمه في ذلك:

رأيت جماعة فضلا فازوا ... برؤية شيخ مصر الشاطبي

وكلهم يعظمه ويثني ... كتعظيم الصحابة للنبي

وترك لنا القاسم أربع قصائد، عرفت الأولى بالشاطبية، وأسمها حرز الأماني ووجه التهاني. والثانية رائية، والثالثة رالية. والرابعة تدعى: تتمة الحرز من قراءة أتمة الكنز.

أما الأولى فأشهر ما خلف، وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا. قال عنها ابن خلكان: لقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنه سبق إلى أسلوبها. أما ابن الجزري المتوفى سنة 833هـ فيقول: ومن وقف على قصيدتي علم مقدار ما آتاه الله في ذلك خصوصا اللامية (الشاطبية) التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها، فإنه لا يعرف مقدارها إلا من نظم على منوالها أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقها. ولقد رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، بل أكاد أن أقول، ولا في غير هذا الفن، فإنني لا أحسب أن بلدا من بلاد الإسلامية يخلو منه، بل لا أظن أن بيت طالب عم يخلو من نسخة به. ولقد تنافس الناس فيه، ورغبوا في اقتناء النسخ الصحاح منه حتى أنه كانت عندي نسخة اللامية والرائية بخط الحجيج صاحب السخاوي مجلدة، فأعطيت بوزنها فضة، فلم أقبل. ولقد بالغ الناس في التغالي فيها، وأخذ أقوالها مسلما، واعتبار ألفاظها منطوقا ومفهوما، حتى خرجوا بذلك أن تكون لغير معصوم، وتجاوز بعض الحد فزعم أن ما فيها هو القراءات السبع، وإنما عدا ذلك شاذ، لا تجوز القراءة به، وقال بعضهم يصف الشاطبية:

جلا الرعيني علينا ضحى ... عروسه البكر، ويا ما جلا لو رامها مبتكر غيره ... قالت قوافيها له الكل: لا

ولقيت هذه القصيدة عناية كبرى من الشراح الذين حلوا رموزها، ووضحوا مراميها. وأول من شرحها تلميذه أبو الحسن السخاوي المتوفى سنة 643هـ، وقد قرأ القصيدة على أستاذه، وسمي شرحه: فتح الوصيد، في شرح القصيد. وشرحها أبو شامة المقدسي المتوفى سنة 656هشرحا سماه إبراز المعاني. قال في كشف الظنون، وهو تأليف متوسط لا بأس به، ثم أختصره في كتاب سماه إحراز المعاني (بدار الكتب رقم 34 قراءات) وشرحها غير هذين الرجلين شروحا كثيرة تجدها في كشف الظنون، أفضلها وأدقها شرح برهان الدين الجمبري المتوفى سنة 732هـ، وأسمه كنز المعاني (بدار الكتب برقم 149 قراءات).

وقام باختصار هذه القصيدة جمال الدين بن مالك النحوي المتوفى سنة 672هـ في قصيدة سماها: حوز المعاني في اختصار حرز الأماني؛ والمختصرة من بحر الشاطبية وقافيتها. كما قام بإكمالها أحمد بن علي المحلى الضرير شيخ القراء بالقاهرة المتوفى سنة 672هـ وكان الشاطبي نفسه قد أتمها من قبل في قصيدة سماها تتمة الحزر من قراء أئمة الكنز، وهي في رواة القراءات السبعة.

وقد ساعد الشاطبي في رموزه وإشاراته ذهن يحب الإلغاز ويميل إليه، قالوا: إنه كان كثيرا ما ينشد هذا اللغز، وهو للخطيب الحصكفي في نعش الموتى:

أتعرف شيئا في السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حيث يسير

فتلقاه مركوبا، وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتليه أسير

يحض على التقوى، ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير

ولم يستزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور

وقد ألف الشاطبي قصيدته حرز الأماني بالقاهرة، وعرفنا أن مصدرها كتب أبي عمرو الداني التي درسها القاسم بن فيره. أما الرموز والإشارات التي بها فمن بنات أفكاره.

ونظم في القاهرة أيضا قصيدته الراثية في فن الرسم، وهي نظم لكتاب آخر في هذا الفن لأبي عمرو الداني، قال ابن خلدون: وربما أضيف إلى فن الرسم أيضا، وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية لأن فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط، كزيادة الياء في (بأبيد)، وزيادة الألف في (لا أذبحه) و (لا أوضعوا) والواو في (جزاء الظالمين) وحذف الألفات في مواضع دون أخرى، وما رسم فيه من التاءات ممدودا، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء، وغير ذلك. فلما جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخط وقانونه احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضا، وانتهت بالمغرب إلى أبي عمرو الداني، فكتب فيها كتبا من أشهرها كتاب المقنع، واخذ به الناس، وعولوا عليه، ونظمه القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روى الراء، وولع الناس بحفظها، وسمى الشاطبي قصيدته الرائية: عقيلة أتراب القصائد، في أسنى المقاصد (بدار الكتب رقم ب 21446) وشرحها كذلك شارح حرز الأماني إبرا الجمبري وغيره.

أما القصيدة الرابعة فدالية تبلغ خمسمائة بيت، أحاطت في كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ عبد البر، وضعه في الفقه الحديث.

وللشاطبي كذلك كتاب الاعتصام وهو في الفقه على ما يبدو مما نقله عنه الأستاذ محمد كرد علي في كتابه: الإسلام والحضارة العربية (جـ2 ص 33)، ومنظومة رائية في بيان المدني والمكي من الآيات والسور، عدد أبياتها مائتان وسبعة وتسعون بيتا. (بدار الكتب رقم ب 22535).

وبعد فإنه لا يضير الشاطبي أنه استقى مؤلفاته من كتب غيره، فإنه انفرد ينظمها، ووضع رموزها وإشاراتها، وتقريب العلم بها لطلبة العلم وحفاظه، وقد أصبحت كتبه ملاذ طلاب هذه الفنون، أكثر من الأصول التي أخذت عنها.

أحمد أحمد بدوي