مجلة الرسالة/العدد 966/دين العزة
→ الأزهر الآن | مجلة الرسالة - العدد 966 دين العزة [[مؤلف:|]] |
الرسالة في عامها العشرين ← |
بتاريخ: 07 - 01 - 1952 |
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
الإسلام يمكن أن يوصف بأوصاف كثيرة كلها حق. فهو - في غير حصر لأوصافه - دين الحق ودين العدل ودين الإحسان ودين الإخلاص ودين التوبة ودين الجهاد ودين الإخاء ودين التعاون؛ ولكن هذا كله يتصل من ناحية أو من أخرى بصفة من صفات الإسلام البارزة هي أنه دين العزة، عزة الفرد وعزة المجموع وعزة الشرع الذي يدينان به ويستمدان عزتهما من عزته. والعزات الثلاث متصل بعضها ببعض ومتوقف بعضها في الحياة العملية على بعض.
وأول ما يبدؤك من عزة الإسلام أنه ليس دين صومعة وعزلة، ولكن دين حكم ودولة. الحكم في دولته لله وقانونها شرع الله، ليس للإنسان فيه إلا الفهم والفقه وحسن التطبيق. فالقوانين الوضعية منكرة في الإسلام، وكل هذه القوانين المستمدة من الغرب أو من قدماء اليونان والرومان مردودة في الإسلام ما خالفت أحكام الله. وليس بالمسلمين إليها من حاجة إن وافقت. وما حاجة المسلمين بل ما حاجة الناس إلى حكم إن خالف حكم الله فهو خطأ وقى الله الناس بالشرع شره وإن وافق حكم الله اتفاقا كان التماسه في غير الشرع إثما للمسلم وذلة. كان إثما لأنه انصراف عن شرع الله وسوء ظن به وافتراض نقص فيه يلتمس سده في غيره؛ وكان ذلة لأن المسلم حين يحتكم إلى غير دين الله ويرضى بحكم من يعلم أنه لا يؤمن بما أنزل الله فقد خلع عن نفسه رداء العزة الذي أضفاه الله عليه حين أنزل الله له شرعا جمع له فيه وبه الخير والصواب، وحرره به من الخضوع في قول أو عمل أو نية لغير الله.
وهذا الاستسلام لله وحده هو أصل عزة الفرد المسلم، لأنه ينزع من صدره كل خشية ورهبة لغير الله. فهو إذا أطاع الحاكم المسلم إنما يطيعه طاعة لله، وإذا شكر المحسن إنما يشكره طاعة لله الذي أمره بشكر من يحسن إليه، وهلم جرا في سلسلة الطاعات والالتزامات التي يلتزم فيها المسلم طاعة غيره من الناس.
والمسلم مأمور ألا يسمع لمخلوق ولا يطيعه فيما فيه معصية لله؛ فهو عبد الله وحده قد تحرر بالإسلام من العبودية والخضوع لكل ما سواه. فنفسه قد برئت من خشية غير الله أو رجائه بقدر ما أوتيت من الإسلام. وهذه البراءة تجتث من نفس المسلم الذلة من أصلها باجتثائها الذلة التي يشعر بها في نفسه كل ذليل ولو لم يطلع عليها غيره من الناس. وكم من عزيز في رأي الناس هو في ذاته ذليل ذلة يعرفها هو من نفسه بما يجد من رهبة أو رغبة عندما يلقي من يرهبه أو يرجوه من عدو ينافقه، أو رئيس يمالقه، أو صديق يحابيه.
وهذه العزة النفسية التي يمنحها الإسلام المسلم الصادق تزداد رسوخا بالتحرر من سلطان الوهم الذي حرر الإسلام منه نفس البصير وعقله. فالإسلام حين طالب المسلم بالخضوع لله وحده قد كفاه شر الخضوع لغير الله باسم الخضوع لله بما يبين له ووضح من الأوامر والنواهي، ومن سبل الطاعة وسبل المعصية، ومن الرشد والغي، وما هو فرض وما هو ندب، وما هو مكروه وما هو مباح. وما هو متروك للاستنباط والقياس. كل ذلك مما بينه الكتاب الكريم والسنة المطهرة يسد الطريق علىالخرافات والأوهام أن يكون لها سلطان على المسلم إذا عرف دينه كما ينبغي وتشرب حقا بروح الإسلام.
وقد صان الإسلام عزة الفرد في الجماعة الإسلامية بما قرره من مبدأ المساواة بين الأفراد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم من غير نظر إلى نسب أو نشب أو جاه، وبما أقامه من ميزان الحق والعدل في الأحكام. فالقوي في الجماعة الإسلامية ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف فيها قوي حتى يؤخذ الحق له. كذلك أكد الخليفة الأول في أول خطبة خطبها في خلافته الراشدة. ولم يكن ذلك مبدأ وضعه الصديق رضي الله عنه وإنما هو تعبير صادق عنى اصل كبير من أصول الحكم في الإسلام يتجلى في آيات الكتاب المجيد وفي أعمال الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وفي تنفيذ هذا الأصل من أصول الإسلام في الحكم لا يلحق أي المتقاضين ذلة من حكم القاضي. فالمحكوم عليه إنما يخضع لحكم الله لا لحكم أحد، ولا غضاضة على أحد في الخضوع لحكم الله. أما المحكوم له فليس يخشى عليه إلا أن تأخذه عزة بإثم إن أساء فهم معنى الحكم، ونظر إليه من زاوية غير التي ينبغي أن ينظر منها المسلم إلى الأحكام المبنية على الشرع سواء أكانت له أم عليه.
حتى ذلة الفقر وذلة الدين قد وقى الإسلام المسلم شرهما بما جعل له من حق الزكاة عند العجز، وبما حرم من الربا عند التداين وفي التعامل، وبما تكفل به ولى الأمر من سداد الدين عن المدين الذي يموت وليس فيما ترك سداد لدينه. وهذا أمر عجيب تفرد به الإسلام بين الشرائع يحفظ به لذي الحق حقه، ويخفف به حساب الآخرة عن المدين، ويدفع به ذلة الدين حتى عن ورثته. والنص في ذلك وارد في أكثر من موضع من الصحاح. من ذلك ما ورد في كتاب الفرائض من الجزء الثامن من صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه). وهذا طبعا تشريع يلزم كل من يحكم المسلمين بسنة الرسول.
هذا كله في البلاد العربية التي للإسلام فيها دولة وحكم نافذ. أما حيث لا سلطان للإسلام يكفل للمسلم العزة كلها فقد كفل له الإسلام العزة النفسية حين أمره بالهجرة من كل بلد يستضعف فيه إلى بلد يعز فيه، أو يستطيع على الأقل أن يسلم فيه بدينه ولو اضطر أن ينزل بالهجرة عن بعض ماله، لأن الأصل في الإسلام أن الدين فوق كل شيء من نفس وولد ومال. فإن عجز عن الهجرة لأمر مانع، كان عليه ألا يجيز لنفسه سماع ما يشعه بالذلة في نفسه من طعن أو لمز في دينه، لأنه من غير شك يستطيع الخروج من مجلس يهان دينه فيهإن لم يستطع خروجا من بلد لا يملك فيه انتصارا لدينه. وهذا كان الحكم في العهد المكي وأوائل العهد المدني من الرسالة قبل أن يصير للإسلام دولة. وهو حكم يسري في عهدنا هذا في كل بلد يقضي فيه بغير حكم الإسلام. ودليل ذلك كله قريب في الكتاب الكريم: في قوله تعالى من سورة الأنعام المكية:
﴿وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (٦٨)﴾ وفي قوله تعالى من سورة النساء المدنية قبل أن تشتد دولة الإسلام: ﴿وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (١٤٠)﴾، وليس بعد تشبيه المسلم المتهاون المتساهل في ذلك بالمنافق والكافر تهديد ولا وعيد.
وعزة الفرد هي أساس عزة الجماعة. لكن الإسلام قد أحاط عزة الجماعة المسلمة بسياج من الأحكام والنظم التي تضمن للمسلمين استمرار العزة وازديادها على الدهر إذا عملوا بتلك النظم والأحكام.
والأصل الشامل في ذلك مبدأ الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله. وأعجب ما فيه، وهو أكثر ما يجهله المسلمين اليوم أن المسلمين جميعا يأثمون بترك جهاد العدو إن لم تقم به طائفة كافية لصده والتغلب عليه. وقد اكتفى المسلمون بالشطر الأول ونسوا الشطر الثاني، اكتفوا بقيام طائفة منهم للعدو ممثلة في الجيش، ونسوا الشرط الأساسي، شرط أن يكون الجيش في عدده وعدده كافيا للتغلب والظهور على العدو وإلا كان الجهاد فرضا على كل مسلم يأنم بتركه حتى تتحقق للجيش تلك الكفاية وتتحقق العزة للمسلمين.
لم يكن للمسلمين في أيام النبي وأيام الخلافة الراشدة ولحقبة طويلة بعدها جيش معين محدود، وإنما كان كل مسلم يحمل عبء الجهاد بالسلاح حين ينتدب له في السرية أو الجيش الذي يؤلف حسبما يقتضيه الظرف الداعي له، والمسلمون بعد ذلك من وراء الجيش مدد له. وكان المسلم القادر يقوم بنفقة نفسه وتجهيزها وقد يتحمل تجهيز غيره. فالجماعة الإسلامية كانت كلها جيشا واحدا بالفعل أو بالقوة والاستعداد. فالاستعداد الفردي كان عاما والخروج في الجيش بالفعل كان بين التطوع والإلزام، أو بالأخرى كان إلزاما في صورة تطوع، حقق الله به للجماعة العزة وللفرد فضيلة الجهاد عن رغبة واختيار تحقيقا للعزة النفسية عند الفرد حتى في العمل بذلك الأصل العظيم في الدين أصل الجهاد في سبيل الله.
ولم يترك أمر الاستعداد بالسلاح للفرد وحده ولكن أمرت الجماعة كلها بالاستعداد والبلوغ به أقصى مداه. وهذا هو الأصل الثاني الذي صينت به عزة المجتمع الإسلامي أن تذهب أو تنهار. نزلت بهذا الأصل العظيم سورة الأنفال في قوله تعالى:
﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم (٦٠)﴾ وهذا الأمر وإن وجه إلى الجماعة موجه إلى الفرد أيضا كما يشهد الحديث الشريف. فالجماعة المسلمة والفرد المسلم كل مخاطب بتلك الآية الجامعة، وكل مأمور أن يعين على الاحتفاظ بالعزة للإسلام وأهله بأن يبلغ من القوة والاستعداد أقصى ما يستطاع.
ومن عجيب مظاهر العزة في الدولة الإسلامية ما أوجبه الإسلام على المسلم من حماية الذي يبذل في سبيل حمايته دمه من غير أن يكلفه قتالا أو معونة إلا مبلغا يسيرا يستطيعه كل سنة مقابل تلك الحماية، حتى إن بعض أمراء جيوش المسلمين في الفتوح الأولى رد على قوم جزيتهم بعد أخذها بأيام لما أراد الارتحال لأن ارتحاله سيحول بينهم وبين حمايتهم من عدو إن طرقهم، فبين بذلك مبلغ إنصاف الإسلام لمن يدخلون في ذمته من غير المسلمين. فالعزة في الأرض لله وللمؤمنين القائمين بحكم الله. أما غير المؤمنين الداخلون في ذمة الله ورسوله والمؤمنين فيحرمون من حمل الله، ويحميهم المسلمون كما يحمون أنفسهم وذراريهم، ولهم فيما عدا ذلك ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. وهذا تشريع عجيب جمع الله به للمسلمين بين عزة أنفسهم وإنصاف غيرهم إنصافا لم يسبق الإسلام إليه ولم يلحق فيه.
فاعجب إذن من أمة دينها دين العزة ثم تهمله لتصير إلى ما صار إليه المسلمون اليوم!
محمد أحمد الغمراوي