الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 964/المستقبل وأسرار الوجود

مجلة الرسالة/العدد 964/المستقبل وأسرار الوجود

مجلة الرسالة - العدد 964
المستقبل وأسرار الوجود
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 24 - 12 - 1951

2 - المستقبل وأسرار الوجود

بين السببية والمستقبلية

للأديب عبد الجليل السيد حسن

عرض لمشكاة السببية:

حينما نلقي بقطعة من القطن في النار فلا نشك في احتراقها، وحينما يأكل الجوعان فلا نشك في شبعه، وحينما تضرب الطفل فلا شك أنه سيبكي. وحينما ترى الغادة الهيفاء والوردة الناضرة فلا شك في إعجابك بجمالها إذا كنت ممن يقدر الجمال في المرأة والزهرة.

ولتسأل معنا الآن: ما الذي أحرق القطن، وأشبع الجائع وأبكى الطفل، وأثار فيك مشاعر الجمال؟ ولا أشك في أنك ستجيب على الفور: إن السبب في ذلك هو النار والأكل والضرب والجمال الكامن في المرأة والوردة. ولكن يا صاحبي لا تكن سريع الحكم، وانظر في الأمر وتدبره، هل النار حقيقة هي سبب الإحراق؟

ما هذا؟ أتريد أن تخدعني عما أحس وأرى وتقول لي: إن علة الإحراق شيء غير النار؟

- لتعلم أنني لست أريد خداعا أو تغريرا، ولكني أريدك أن تكون دقيقا أمينا فيما تشاهد وتدرك، وأن تأخذ الأمور كما ترد إليك لا تزيد فيها ولا تنقص. فما العلة اللازمة والسبب القاهر الذي يجعلك تسند الإحراق إلى النار؟ أليس هو أنك شاهدت احتراق قطعة القطن عقب إلقائها في النار، ولم تر عينك شيئا أكثر من ذلك؟ إذن ما الذي دفع بك إلى أن تجزم بأن النار هي علة الإحراق؟ لاشيء غير مشاهدة حدوث هذا مع ذاك أو مقارنا له. فكأنه ليس هناك شيء يمكن أن يعد سببا لشيء أو علة له؛ بل هناك تعاقب أو اقتران بين الحوادث، ولا شيء غير هذا؛ فقطع الرقبة ليس سببا في القتل، وكسر الرجل ليس سببا في الألم، ولقاء الحبيب ليس سببا في النشوة التي تصاحبه، وإضاءة المصباح ليست سببا في الضوء الذي يعقبه، وإعطاء المريض دواء ليس هو السبب في شفائه. . وغير ذلك من الأفعال، بل كل ذلك ما هو إلا حوادث تعقب حوادث وأشياء تقترن بأشياء؛ أما أن نقول إن هذا سبب ذلك، فهذا مالا يقره العقل.

وهذا هو الوضع الصحيح البسيط لمشكلة السببية بين المثبتين الذين يقولون أن لا شيء يحدث بدون سبب؛ وبين المنكرين الذين يقولون أن ليس هناك شيء يمكن أن يعد سببا على سبيل التعيين

ونستطيع أن نخرج من كل ما تقدم بشيء واحد؛ وهو أن الذين أنكروا السببية أنكروها لشيء هو وقوفهم عند ما يشاهدون ويحسون فقط. وأما الذين أثبتوا القول بالسببية فهو وقوفهم عندما يحسون ويشاهدون أيضا. ولكن الفرق بين المنكرين والمثبتين: أن المنكرين قالوا (إن المشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به)، وأما المثبتون فقالوا (إن العادة اقتضت أن يتبع هذا ذاك، فلا بد أن يكون هذا هو علة ذاك، وإلا فما الداعي لحدوث هذا التعاقب؟) وقد آمن المثبتون بهذه العادة، وبنوا حياتهم وقوانينهم عليها، وقالوا إن لكل ظاهرة من الظواهر علة أحدثتها، ثم خصصوا فقالوا: إن هذه الظاهرة (ب) مثلا، علّنها الظاهرة (أ) ودليلهم على ذلك العادة التي أرتهم أن (أ) تتبعها (ب) دائما. وبينما يؤمن المثبتون بهذا، يقول المنكرون: أنه لا علة للجزم بأن (أ) لابد أن يتبعها (ب) بل قد يتبعها (ج) أو (د) من الظواهر؛ فما العلم سوى قوانين، وهذه القوانين لم تستخلص إلا بنتيجة للتجارب والشواهد التي فرضنا أن لها عللا معينة؛ وما دام ليس هناك من سند للقول بالعلية والسببية، فإذن من المحال أن يكون هناك علم، أو لو أردنا الدقة لقلنا إن صحة علمنا موقوفة على صحة ما نسميه عللا ومعلومات، وبذلك نتفادى القول باستحالة العلم إلى القول باحتمال صحته، ولا ضير بعد ذلك، فالعلم ما هو إلا تسجيل للواقع المشاهد

ولنترك الآن عرض السببية عرضا تاريخيا في الشرق عند كل من الغزالي وأبن رشد، وفي الغرب عند كل من (هيوم وكانت). ولنترك أيضاً المقارنة بين هؤلاء جميعا إلى فرصة أخرى ونخلص إلى السببية والمستقبل

السببية والمذهب المستقبلي:

إذا شاهدنا ظاهرتين متلازمتين في الماضي، مثل الإحراق ولقاء النار، أو طلوع الشمس ووجود النور، فهل يستمر هذا التلازم أيضاً في المستقبل أم لا؟ وإذا كان هذا التلازم والارتباط بين الظواهر ثابتا مستمرا، فإنه يمكننا بذلك أن نتنبأ بالأشياء التي لم تحدث بالفعل، وسوف تحدث في المستقبل. وحياتك لا شك مبنية على هذا التنبؤ، فأنت واثق من وجود النور غدا لأنك على يقين من طلوع الشمس فيه حاملة النور إلى الكون. ولكن. . هل خطر بذهنك أن الشمس قد تطلع غدا ولا تنير أو قد لا تطلع البتة؟ وأنت تنظم حياتك على أن هذه الظواهر المتلازمة في الماضي، لابد وأن تستمر في المستقبل، فأنت على يقين أنك لو ألقيت بهذه النقود الورقية إلى النار لاحترقت، أو لو وضعت يدك في النار لاحترقت، فأنت لا ترمي بنقودك إلى النار، ولا تضع يدك فيها. وكلنا يشرب الدواء طمعا في الشفاء، ونتجنب الميكروب خوف المرض. والعالم الطبيعي أو الكيميائي حينما يعيد أجراء تجربة فهو متأكد أنه سيحصل على نفس الظواهر التي حدثت في الماضي.

فنحن في حياتنا العملية نتغاضى عن إنكار السببية، ونتناسى أن الأمر قد يكون مجرد ارتباط فقط لا عليه فيه. ونحن نعلم تمام العلم أن معرفتنا بالأسباب تجعلنا قادرين على أن نتنبأ بما سوف يحدث في المستقبل، وبمقدار إحاطة عملنا بالأسباب يكون صحة تنبأنا بالمستقبل. ولكن ذلك لا يغرينا بتكوين رأي ومذهب في الحياة على تجاهل أن الأسباب قد تكون مجرد تلازم ومقارنة لا غير، وما نعده سبباً ما هو إلا لحكم العادة والمشاهدة فقط؛ فقد يثبت ثبوتاً قطعياً أنه ليس هناك من شيء يمكن أن يعد سبباً، وخصوصاً بعد نظرية الحكم (الكوانتم) والميكانيكا الموجبة.

بيد أن كل ذلك لا يمنعنا من أن ننظر في الأمر نظرة مستقبلية نبني عليها مذهبنا في الحياة ورأيا في الوجود.

كلما حدث شيء في الوجود، أو تغير أمر في الظواهر الطبيعية، في بد أن هنالك قوة أحدثت هذا التغير، ونقلت من ثم شيئاً كان موجوداً بالقوة إلى الوجود بالفعل، أو حققت في الواقع شيئاً كان ممكن التحقيق، وليس هناك كائن من كان يستطيع أن ينكر هذه القوة وهذا التغير.

ولن تجد أثنين يختلفان في أن حدوث هذا التغير قد حدث بقوة أو بسبب من الأسباب. ولكن ستجد من يختلف في: هل هاتان الظاهرتان اللتان يتبع بعضهما الآخر. . هل الأولى سبب للثانية، أم أن الأمر مجرد عادة ومشاهدة.؟ وبعبارة أخرى ستجد من يختلف في أن الاطراد والتلازم والمقارنة في الوقوع، هو علة التغير والحدوث.

وهذا الاختلاف الذي هو جوهر مشكلة السببية لا يعنينا أمره كثيراً، وقد كان يعنينا أمره لو كنا مهتمين بمعرفة ما يحدث في المستقبل بناء على خبرتنا وتجاربنا في الماضي. ولكن الأمر الذي يهمنا أكثر، من وجهة النظر المستقبلية؛ هو إثباتنا الحدوث والتغير، وشعورنا بوجودنا؛ بناء على هذا الانتقال المستقبلي، ونظرتنا إلى الوجود هذه النظرة المستقبلية، لأن كل ما نريد أن نصل إليه هو فهمنا لهذه الحياة كما هي، وهذا الوجود على حقيقته، ثم الإفادة من هذا الفهم، ورسم خطة نسير عليها في هذه الحياة.

فنحن حين نبني شعورنا بالوجود على النظرة المستقبلية، وعلى الانتقال المستقبلي الذي يجعلنا نحس بوجودنا (نذكر مثال الرجل الموجود في الشمس الطالعة والعالم الساكن في المقال السابق)؛ وحين ثبت أن وراء الحدوث والتغير قوة سببية حققت الانتقال المستقبلي. أي الانتقال من القوة إلى الفعل ومن الإمكان إلى الواقع؛ إنما نرسم لأنفسنا خطة عملية سليمة، ونهجنا نراه قويما، ومذهبنا مستقبليا في هذه الحياة وهذا الوجود. فنحن نقدس العمل لأنه وسيلتنا في الانتقال المستقبلي، وندعو إلى القوة لأنها سبيلنا إلى جعل الممكن واقعا، ونرى أنه بمقدار سرعة انتقالنا المستقبلي يكون حظنا من الوجود، وشعورنا به، وليست العبرة عندنا بطول الوقت الذي يعمره الإنسان؛ بل بمقدار انتقاله المستقبلي، وتحقيقه لإمكانياته، أي بمقدار ما بذل من مجهود، واستنفذ من قوة، وما استطاع أن يحصل عليه من جراب المستقبل.

وإن الشعور بالوجود، والإحساس بالحياة، ليتفاوت لدى الإنسان بالنسبة إلى الفعل والعمل الذي يؤديه. والقوة التي يبذلها؛ أو يتفاوت بالنسبة إلى ما يناله من الانتقال المستقبلي، والتغير الذي يعانيه، فألف سنة مثلا قد لا تساوي لحظة أو ساعة، ألف سنة خاملة ساكنة ميتة نائمة، لا تساوي ساعة حية نشيطة فعالة، يبذلها الكائن في استنفاذ إمكانيات وجوده.

وارجوا أن تطيل التأمل وتنعم النظر، وتقف طويلا معي عند أهل الكهف الذين أمضوا كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، كانت عندهم بمثابة يوم أو بعض يوم! ولتنعم النظر أيضاً وتطل التأمل في هذه الثلاثمائة عام نفسها التي عاشتها الأجيال المتتالية من الاحياء، ولننظر كيف تغير الوجود، وتبدلت الأشياء بالنسبة أليها؟ وكيف عاش هؤلاء الناس واستنفدوا بما أتوا من عمل وبذلوا من قوة إمكانيات وجودهم.

فوجدونا لا يتوقف خصبه وغناه على طول مدته، كما لا يتوقف فقره وإمحاله على قصره وسرعته؛ بل على قدر حظنا من الانتقال المستقبلي وشعورنا بالوجود.

السببية وغريزة الحياة:

لو فرض إننا عرفنا الأسباب كلها بكل دقة وكل تحديد، وكنا على دراية تامة بها، على رغم تشابكها وتعقدها وعظم مقدارها واستحالة عقل واحد أن يستوعبها، نقول لو إننا كنا على علم تام بهذه الأسباب على النحو الذي أسلفنا، تلك الأسباب التي يحدث نتيجة لها كل ما في هذا الكون. . فماذا يكون حالنا؟ وماذا يكون موقفنا من هذا الوجود؟

نريد أن نرى أولا نتيجة عملنا الكامل الدقيق الثابت بالأسباب ومسبباتها، وبالقوانين والسنن التي يسير عليها هذا الكون. . حينئذ سنرى المستقبل والحاضر والماضي أمامنا ونعلم ما حدث وما يحدث في كل من هذه الأجزاء، لأن إحاطتنا الكاملة بقوانين الوجود سترينا: كيف يسير الوجود فنرى كيف سار. وكيف يسير، وكيف سيسير وسترينا الوجود واحدا، فنعلم الغيب ونعرف الماضي السحيق، ويتحقق ما تمناه (لابلاس) الفلكي الفرنسي المشهور من معرفة قوانين الطبيعة، حتى يستطيع العقل الإنساني أن يرى الماضي والحاضر والمستقبل. ونستطيع أن نشبه الأمر بمرآة، إذا نظر فيها لإنسان رأى ما مضى وما هو آت، أو نشبهه بشريط سينمائي يديره الإنسان فيمر عليه ما نسج من الوجود (الماضي) وما ينسج منه (الحاضر) وما ينتظر النسج (المستقبل).

ونريد أن نرى ثانيا: حالنا وموقفنا من هذا الوجود، بعد أن يكون الوجود مجرد مرآة أو شريط.

سيكون نتيجة ذلك أمراً واحدا، وهو انعدام الحياة والوجود!

فأن الإنسان إذا تيقن مما سيحدث ورآه، أو إذا عرف ما سينتقل إليه معرفة كالرؤية - مع ملاحظة أن انتقاله المفروض حينئذ لا يشبه على أي نحو من الإنحاء الانتقال المستقبلي الذي هو علة الحياة - فلماذا سيعمل إذن؟ ولماذا يجتهد لتحقيق شيء قد رآه؟ أن الوجود سيفقد لذته لديه، وسيفقد بالتالي ذلك السر سر الحياة، وسر الوجود، وهو الانتقال المستقبلي الذي يشعر الإنسان بالحياة وبالوجود، والذي يشمل الأمل والعزاء والرغبة والرجاء، والذي يدفعه إلى أن يعمل ليحقق إمكانياته.

ولكن. . قد يعمل الإنسان لمجرد لذة تحقيق الفعل. . أفلا يعمل ذلك الإنسان الذي يرى الوجود كشريط أو مرآة، لمجرد لذة التحقيق؟

نحب أن نقول أن ذلك الإنسان لن يعمل لمجرد لذة التحقيق، كالذي يشاهد من إنسان لا يرى الوجود كشريط سينمائي أو مرآة حين يعمل عملا وجد فيه لذة ما، فهو يعود ليحقق نفس العمل الذي يعرف نتيجته مقدما، ثم يعود ليحققه. . ومع ذلك لا يمله ولا يتركه. لن يكون أمر هذا الإنسان الذي يرى الوجود، كأمر ذلك الآخر الذي لم يعرف من الوجود إلا جزئيه، لأن ذلك الأخير يتمتع بغريزة الحياة؛ أما الأول فبرؤيته الوجود في مرآة أو شريط، بناء على معرفته بالأسباب والمسببات سيفقد (غريزة الحياة) وان لم يفقد الطاقة على العمل. فوجودنا يشمل أمرين: الأول (غريزة الحياة) - وهي هذا الدافع الذي يدفعنا إلى الحياة الناتج عن الانتقال المستقبلي، لأن الانتقال المستقبلي يولد في الإنسان أشياء منها التوتر والقلق، والرغبة في تحقيق الفعل، والغموض، وعدم التعين الذي يدفع بالإنسان إلى الانتقال المستقبلي ليرى سره، والتعزي عما مضى بما هو آت، والتطلع الدائم إلى ما يضمه المستقبل بين جنبيه، وحالة عدم السكون الناشئة من الرغبة في تحقيق الفعل؛ وكل هذه الأمور تكون ما نسميه (غريزة الحياة) أو الدفعة التي تدفع الناس إلى الحياة. وأما الأمر الثاني: فهو (الطاقة) التي يعمل بها الإنسان ليحقق الفعل؛ ولا يكون ثمة طاقة، إذا لم يكن هناك (غريزة الحياة)، ولكن قد توجد غريزة الحياة دون طاقة، ولكنها تكون حياة ساكنة لا تحقق إمكانيات، حياة عدمها خير من وجودها. وقد رأينا أن معرفتنا التامة للأسباب ستفقدنا (غريزة الحياة) الناشئة عن هذا اللا تحدد في الانتقال المستقبلي، ففناء وجودنا، وانعدام حياتنا. . سيكون حين يكون وجودنا مجرد مرآة أو شريط.

للكلام بقية

عبد الجليل السيد حسن