مجلة الرسالة/العدد 962/موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية
→ ماذا بعد هذا؟ | مجلة الرسالة - العدد 962 موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية [[مؤلف:|]] |
الثورة المصرية ← |
بتاريخ: 10 - 12 - 1951 |
لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك
(تتمة)
المساواة في الأصول:
ومن المساواة، المساواة في الأصول؛ أو المساواة رغم الأصول. والمساواة رغم الأصول صرخة في الناس قديمة؛ وهي صرخة في الشعوب العربية قديمة معروفة، بل هي لم تحتج في العرب إلى صراخ؛ ذلك أن هذه المساواة في طبعهم، وهي مستمدة من بدوهم، فالنبي: يا محمد، والخليفة: يا أبا بكر ويا عمر. لم يكن فيهم صاحب العزة أو صاحب النيافة أو صاحب الفضيلة. كانت العزة فيهم وكانت الفضيلة أصلا، فهي لا تحتاج إلى تنويه. وكانت مدارسهم مساجد مفتحة الأبواب لكل طالب، فلم تكن فيهم أكسفورد ولا كمبردج. وكان أصل المرء لا يقف به دون أن يصل إلى أسمى المراتب. فالمجوسي بل من كان أبوه مجوسيا يصل إلى أكبر مراكز الدولة؛ ومن ذلك البرامكة. وبائع الحرير يوجه همه إلى الشريعة فيبلغ بها عند الناس المكان الأرفع، فيحترمونه ويجلونه ويتبعونه، فذلك أبو حنيفة النعمان. والحياك يلد ولداً لا يجد سبيله إلى العيش إلا من سقى الماء يحمله في جامع عمرو، فيصله ذلك بالعلماء فيسمع منهم ويحفظ عنهم، فإذا به الشاعر الكبير الفحل: فذلك أبو تمام. والشعب العربي يألف كل هذا ولسان حاله يقول: الكل لآدم وآدم من تراب
ويبقى هذا الطبع في الشعوب العربية إلى عصرنا هذا، في البدو والريف، وفي أكثر أهل المدن، إلا جماعة من هؤلاء أخذوا عن عهود من الحكم لا يباركها الله، نعرة لا تأتلف والطبع الشرقي العربي أبداً. وإلا جماعة قليلة أخرى رفعها المال رفعاً، وحط بها الجهل، وهي تأبى أن تنحط؛ فاتخذت من الترفع ذريعة إلى الرفعة، وحاطت نفسها بزخرف من زخارف الحضارة كاذب، لعل في بهرة الظاهر ما يغني عن استجلاء الباطن
والشعوب العربية لم تضيق بغير العربي، فتبغ فيهم الكثير من الأعاجم. ولم يضيقوا بغير المسلم، فكان الأخطل من بين المقربين عند خلفائهم: خلفاء بني أمية، والدين جديد وقلوب المسلمين يقظة. واليهود وجدوا بين العرب ملجأ لما ضاقت بهم سبل الأرض. والسود! يضق أحد بالسود ولا بالصفر ولا بالحمر، ويلقى الأبيض الأسود إلى يومنا هذا فلا يكاد على اللسان العربي، أن يلحظ سواده
ففي المساواة بين الناس رغم حقارة الأصل، وعلى اختلاف المولد من الأرض، وعلى اختلاف لون الجلد، ليس في المدينة الحاضرة درس واحد تلقيه على الشرق، بل إن دروس الشرق للغرب في ذلك كثيرة نافعة
المساواة بين الرجل والمرأة
ونوع آخر من المساواة جاءت به المدينة الحاضرة، تلك المساواة بين الذكر والأنثى. وتلك المساواة على المجتمع الغربي طارئة. فحظ المرأة في شرق وغرب كان سواء. والرجل كان دائماً، في شرق وغرب قواماً على المرأة. والمرأة في المجتمع الغربي إلى اليوم، تتعهد عند الزواج على يد القس، بالطاعة لزوجها. ولكن معنى المساواة أخذ يتغلغل إلى كل شيء، فبلغ فيما بلغ علاقة ما بين الرجل والمرأة. وتعلمت المرأة الغربية فوجدت نفسها كفيئه للرجل فرفضت قيام الرجل على المرأة. ومنهن من رفضنه شكلا وانتهين. ومنهن من رفضنه موضوعاً. وخرجت المرأة تعمل كما يعمل الرجل، وتكسب ما يكسب، فأغراها استقلالها في الكسب بطلب استقلالها عند الزواج. والحق أن قومة الرجل على المرأة التي فرضتها الأديان ما كانت ترمي إلى ظلم ولا إجحاف، وما كانت تمنع من تعاون وتفاهم. ولكن البغي في الناس قديم. وقد عصم الحب المرأة من بغي الرجل ما دام، وعصمت الذرية الناتجة منها؛ وعصمت حاجة الأسرة إلى السلام وضيقها بالنزاع الدائم والقلق المتصل. ولكن كان من الرجال بغاة لم يكن للنساء منهم من عاصم. وإني، في هذا العصر الحاضر، وعلى الثقافة المنتشرة في الناس بين رجال ونساء، لا أكاد أتصور رجلاً مثقفاً، تأتيه زوجته، وهي امرأة مثقفة، تقول له بيني وبينك خلاف خطير، لا أرضي لك أن تكون فيه خصماً وحكماً، فأنا أطلب حكم الله فيه على أيدي قضاة الله، في محكمة من محاكم الله، لا أستطيع أن أتصور رجلاً تأتيه امرأة تقول له هذا ويقول: لا. وذلك أكبر ما تطلبه المرأة من مساواة
وتطلب المرأة المساواة السياسية، وتطلب أن يكون لها صوت كصوت أكثر نساء الغرب، فيقال لها إنك لا تفقهين في السياسة. وينسى القائلون أن السياسة سياسة دولة، فهي إلى جانب أنها سياسة حكم، هي سياسة مال، وسياسة مجتمع، وسياسة أسرة، وسياسة ضرائب أكثر من يشقى بها المرأة، فلابد أن تقول فيها وأن تقول سديدا. ثم كن من الرجال يفهم تلك السياسة التي يريدها القائلون بحرمان المرأة. إن حقوق الناس فيما يتصل بالسياسة على أوسع معانيها يجب أن يكون مناطها، لا أن هذا ذكر وتلك أنثى، ولكن إن هذا أو هذه يعقلان أو لا يعقلان، وكم حظهما من جهل ومن عرفان
وتطلب المرأة المساواة في العمل. وعمل المرأة لا شك في البيت. وهكذا هي الكثرة الكبرى من نساء الغرب. إن المرأة لا تستطيع أن تلد وتربي أطفالها وتكسب خبزهم في وقت واحد إلا أن تضطر الضرورات. والذي دفع بنساء العرب أن تعمل كما يعمل الرجل إنما هي الضرورة وقسوة العيش. إن المرأة العانس التي لا رزق لها إنما تأكل من عملها أو تأكل بثديها أو بغير ذلك، وليس من حق أحد أن يقول لها لا تعملي إلا أن يضمن لها رزق الحياة. والقول عندي أن تفتح أبواب العمل للنساء جميعاً، ليأخذ كل من الأعمال ما يصلح له، وعندئذ تعمل قوانين الحياة عملها فلا يكون منها إلا الخير. إن الذي يغري النساء يدق الأبواب، ودقها عنيفاً، أن الأبواب مغلقة. وللنساء في جبلتهن ما يكفي لرد الكثرة الكبرى منهن إلى وظائفهن الأولى التي تخصصن لها في الحياة، تلك إيجاد الحياة في ظل الحب ورعرعتها من بعد إيجاد، وإسكان هذه الأرض
وكان من مساواة الرجل بالمرأة في الغرب؛ وأن وجدت المرأة نفسها تهدر من الحرمات ما أهدر الرجل، وهي مساواة في سبيل الشيطان لا يرضاها إنسان، ولكن رضيها الغرب لشدة إحساسه بمعنى العدالة والمساواة حتى في القبيح الأقبح من الأمور؟
المساواة في فرص العيش
ومن المساواة: المساواة في قرص العيش وطلب الأرزاق، وقد نسمي هذه الديمقراطية بالاقتصادية. وللعدنية بالحاضرة فيها أساليب عدة منها الرأسمالية ومنها الاشتراكية وهي صنوف. ومنها الشيوعية. أما الشيوعية فلسنا ندريها، ومن أجل هذا ننحيها. وأما الرأسمالية فشر إذا ما تركت في أيدي فئات من رجال لا يحركهم بحكم الطبع إلا الأثرة وإلا الهوى. وإلا الرغبة في زيادة المال أضعافاً. وزيادة ما يأتي به من جبروت. ويصنع منهم موقفهم من مناهضة الشعب عصابة تقوم فيه، تبيع حقوقه وتشتري وهي بعيدة عن ريبة الشعب لأنها بعضه، وهي ترضى دائما أن تختفي وراء الحاكمين، ما بقيت في أيديها مقاليد الأمور. وهؤلاء إن كانوا شراً على أمنهم، فشرهم على علاقات ما بين الأمم أكبر.
ولكن الرأسمالية غير ذلك إذا كانت رأسمالية شعوب، وكان لكل فرد من أفراد الأمة فيها نصيب. يعملون جميعاً للإنتاج، ويقفون جميعاً صفاً واحداً عند التقسيم. فهذه هي الاشتراكية وإليها يجب أن يتجه الفكر العربي، وأن يتمسك بها مبدأ. أما إنفاذها فدونه الجهاد المر الطويل
المساواة في التعليم وفرصه
ومن المساواة التي ابتدعتها المدينة الحاضرة، المساواة في التعليم وفرصه. بل هي جعلت التعليم إجبارا لبضع سنين. وسمته إلزاميا، وسمته أوليا. والتعليم على الإجبار لا يكون إلا مجاناً، فجعلته مجاناً
وكان التعليم قبل ذلك في سائر الأمم، وفي سائر المدنيات وعلى القرون، مقصوراً على فئة قليلة من الناس. ثم أراد الله بهذه الفكرة الجديدة؛ فكرة نشر التعليم وتعميمه، أراد لها أن تنبت في الغرب من أوربا، عند انشقاق الكنيسة. رأى المنشقون - البروتستانت - أن خلاص الشعب الديني لا يكون إلا بالوصل المباشر بينهم وبين الله عن طريق إنجيله. وإذن لا بد من القراءة. وإذن لا بد من التعليم، فأخذوا ينشرون التعليم وعن طريقه يبشرون. وقام الكاثوليك يعارضون نشراً ينشر وتبشيراً بتبشير، وفتح المدارس بفتح المدارس. وتألف اليسوعيون جماعات كان لها في هذا الميدان بأس جديد. وجاءت الديمقراطية فرأت أن تنشر التعليم، كما رأت الكنيسة بشقيها، ولكن لغير تلك الأسباب. رأت الكنيسة نشر التعليم بين الشعوب ليكون سبيلهم إلى السماء أهدى؛ ورأت الديمقراطية نشر التعليم لتكون الهداية على هذه الأرض. وتنازع الطرفان أمر التعليم. تنازعته الكنيسة والدولة. وغلبت الدولة آخر الأمر
وجاء القرن التاسع عشر، واكتمل، فإذا التعليم قد عم في أكثر الأمم الناهضة
ولا أظن أن أحداً يريد أن يسألني ما موقف الفكر العربي من هذا الكسب الجديد من مكاسب المدينة الحاضرة
إنه ليس دليل على حاجة الشرق العربي إلى التعليم، يكون إلزامياً، ويكون عاماً، كمحاربة المستعمرين له في كل أمة يستعمرونها. ودليل آخر، محاربة الرجعيين له، والمستحوذين على السلطان من كل نوع، في الأمة الواحدة. إن ذوي السلطان إذا لم يعصمهم الله يخشون الشعوب، ويخشونها متعلمة. وهم يحاربون التعليم علانية، إن استطاعوا، ولكن أكثرهم يحاربونه خفية. وأنظر لبعض الأمم العربية لأرى كم بها من تعليم فلا أكاد أجد شيئاً. وأنظر لبعضها الآخر لأرى من أي وقت في التعليم بدأت، وإلى أي شيء قد انتهت، فأقف وأعجب. إن التعليم قد يتخذ في تخذله أحسن الدعوات، ومن هذه الدعوة إلى الروية، فإلى البطء، لأن يغيرهما لا يكون إحسان. إن شر ما يخشاه الرجعيون، وأهل السلطان، من التعليم، أن المتعلم يأبى الرجوع، ويأبى العرى، ويأبى العمل إلا مأجورا حسن الأجر. وتتفتح عينيه بالذي يصيبها من نور وتتفتح نفسه للطيبات
إن التعليم عندي مفتاح كل مغلق من مغاليق الحياة، في شرقنا هذا العربي. ولو أني خيرت بين أشياء كثيرة يعطوها العرب، ما اخترت المال، ولا اخترت الاستقلال، وأنما أختار التعليم يشمل ويعم، فهو الوسيلة إلى المال، وهو الوسيلة إلى الاستقلال، وهو الوسيلة إلى فتح كل باب مغلق يتدفق منه الخير كثيراً وفيراً
المدنية وشئون من الحياة أخرى:
بقيت أشياء أخرى من أشياء هذه المدنية الحاضرة، تتعلق بأسلوب العيش: أسلوب الغذاء، وأسلوب الكساء، وما شاكل ذلك. فهذه أشياء لا تقدم كثيراً، ولا تؤخر كثيرا، وللعربي أن يأخذ منها أو يوع. وأشياء أخرى تتعلق بالطباع والعادات وهذه ما لا تستطيع المدينة أن تفعل فيه شيئاً
معارضة المدنية الحاضرة:
هذه هي المدنية الحاضرة، وهذه أصولها. هذه هي المدنية التي أكره أن أسميها غربية، لأنها مدنية إنسانية، هدفت، لا إلى إسعاد غرب دون شرق، ولكن إلى إسعاد الإنسان أينما كان. وهدفت إلى تعريف حقوق الفرد والجماعات، وإلى تعيين الحقوق والواجبات، في أي قوم وبأي أرض. وهي مدنية، رغم يد نشأتها في الغرب، لم تصطبغ كثيراً بصبغة دينها الغالب. وأكثر مفكريها، السابقون فيها واللاحقون، وقفوا بعيدا عن الدين، تعمداً وقصدا، وهم يفكرون
والمدنية الحاضرة، ككل المدنيات، لها محاسن ومقبح. وقد تركزت على محاسنها، وتركت القبيح. لأن القبيح قبيح في كل فكر وكل عصر، وقد تتسم المدنية بقبيح لا ترضاه، ولكنه تعلق بأذيالها فحملته معها فيما تحمل من طبائع الناس
ومن أهل الشرق من يتصلب عوده تعصبا كلما سمع بالمدنية الغربية. وحق له أن يتعصب؛ لأن الشرق شقي بالغرب أكبر شقاء ولا يزال يشقى. وسوف يشقى
ولكن الشرق إن شقي بأهل الغرب، فهو لم يشق بمدنيتهم إنه شقي بالذي في طبائع أبناء آدم من أثرة من ظلم ومن إجحاف وأحياناً من سفه وغباء. وهو قد شقي بمثل هذه الطبائع في عقر داره، ومن أهله وعشيرته وأهل السلطان فيه، فكيف بالغرباء. والشرق ينسي أن هذه المدنية تجربة يمتحن بها أهلها كما يمتحن مقتبسوها، وأن أهل الغرب في محنة منها، بالذي تأتي به من ضائقات وأزمات، ومن حروب، لأنها مدنية لم تبلغ بعد الغاية منها، وبعض أهدافها قد تحقق، وسائر أهدافها ينتظر التحقيق
ومن أهل الشرق من تباغ به كراهية الغرب إلى حد أن يرى أن يقاوم الغرب، لا ظلمه وإجحافه، واستبداده واستعباده، ولكن أن يقاومه كذلك فكرة ومدنية. وهيهات. إن المدنيات القديمة أخذ بعضها من بعض، إذا تعادلا قوة، وقام بعضها على أنقاض بعض. ولم يكن في تلك الأزمان من تقارب الناس واتصالهم كما بين أهل الأرض اليوم من قرب اتصال. إن الطائرة وهي تطوف حول الأرض اليوم، تكاد تجارى الشمس سرعة التفاف حول الأرض فكيف يقاوم الشرق العربي، على ضعفه، مدنية عارمة واقعة تحت عينيه وعند سمعه، وأخبارها أسرع إليه من بعض أخبار قومه
وما لي أقول في هذا، والواقع يقول عني فيغني؟
أليست المدنية في وصلت إلى أبعد ما خال المرء أن تصل، إلى الصحراء. ألا يوجد في صحارى العرب اليوم بقاع نحلها، فتحسب أنك حللت بحلولها من المدنية في الصميم؟ وفي المدن، في بعضها، ألست تلقى المرأة محجبة من قمة رأسها إلى قدمها، تنظر إلى الدنيا من ثقوب، فإذا خلعت ذاك الحجاب تجلت تلك من تحته آخر أزياء باريس؟ وفي مدن الشرق العامة، هل تركت هذه المدن شيئاً من المدنية لم تأخذه عنها، من أسلوب بناء، إلى نظام مصارف، إلى برامج مدارس، إلى قوانين حكم؟
إن المدنية الحاضرة فيض غمر لا يقف في سبيله شيء إلا اقتلعه ولست أقول هذا عن تخاذل، ولا أقوله عن تسليم، ولكن أقوله لأنني أرى أن أية مقاومة مجهود ضائع، لا يكون منه إلا تأخير اليوم الذي ينتفع فيه الشرق بما أنتج الغرب، لا من مدنية غريبة، ولكن من مدنية إنسانية عالية أساسها تحرر الفكر الإنساني من قيوده، وغايتها ورفاهية الإنسان وإسعاده. وليس بها مالا يمكن تأليفه ومطالب الشرق ودينه وعاداته. والمقاومة يكون بديلا منها المساهمة. المساهمة في تخطيط طرق الحياة لأجيال من الناس مقبلة
أحمد زكي