مجلة الرسالة/العدد 962/تعقيبات
→ ألامس الضائع | مجلة الرسالة - العدد 962 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 10 - 12 - 1951 |
للأستاذ أنور المعداوي
رسالة الجنوب إلى الشمال:
يا أخي في الشمال، يا أخي في الله والدين والوطن. . باسم كل أخ لك في الجنوب؛ باسم كل سوداني كريم على نفسه وكريم على وطنه، يطيب لي أن أوجه إليك الحديث كما وجهته إلينا على صفحات الرسالة، حافلاً بصدق الوطنية، زاخراً بعمق الأخوة، ملتهباً الإيمان!
حقاً يا أخي إننا في (ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة). . ولله ما كان أصدقك وأنت ترسل صرختك المدوية التي أيقظت كل ضمير وهزت كل شعور إن الشمل لن يتفرق، وإن البناء لن يتصدع، ما دامت هذه القطرات الأبية من الدم المسفوك على ضفاف القناة وفوق ثرى الخرطوم، قد ألفت على الطغاة أروع الدروس في التضحية والبذل والفداء، وأقاقت منهم المضاجع وهي سارية في العروق وهي جارية على الأرض، وهي في حركة الحياة الطليقة وهي في سكون العدم)!
أجل يا أخي ورددها إذا شئت، فقد رددناها معك باللسان وحفظناها في قرارة الوجدان، واتخذناها شعاراً للأخوة المقدسة التي (استروحت أنسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد. . إنني لا أجد خيراً من كلماتك لأعيدها إليك، مضمخة بعطر الجنوب مدثرة بوشاح هواه، لأن (أنشودة الجهاد التي بدأتموها في شمال الوادي قد أذن الله أن ترسل أنغامها في جنوبه؛ وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . ولكن أنغامنا وهي أنغامكم ستظل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن. . ولكن نرنا وهي ناركم ستظل إلى الأبد تنير الطريق للحائرين، ولكن ذكرانا وهي ذكراً كم ستظل إلى الأبد قصة تروى وعطراً يفوح)!
إن معاول الاستعمار التي تحاول أن تهدم صرح الوحدة، وإن قوى الشر التي تحلم بأن تهيل عليها التراب، ستمني أخر الأمر بالخيبة وتبوء بالخذلان، لأن ما بنته يد الله لا يمكن أن تنال منه يد الشيطان. . إن هذه الوحدة الطبيعية يا أخي، هذه الأرض التي تجمعنا، ه إرادة العمل الرزين والتحرير الملهم. إننا هنا لتطربنا أصواتكم، أصوات المؤمنين بحق الشمال والجنوب في حياة حرة كريمة، قوامها الوفاء الخالص وعمادها الإباء الخالد. أما أصواتنا فهي تعانقكم في كل أفق، وتصافحكم في كل طريق، وتناجيكم على أوراق الصحف وأمواج الأثير. . ولن ننسى صوتك وصوت شاعركم الخالد وهو يقدم إلينا لوعة الشعر في محنة الشعور:
فكيف تلاحيني وألحاك إنني ... شهيدك في هذا وأنت شهيدي
حياتك في الوادي حياتي فإنما ... وجودك في هذي الحياة وجودي!
مرة أخرى يطيب لي أن أستعير من كلماتك ما أوجهه إلى كل أخ في الشمال: (ولا علينا يا أخي من تلك القيود، إن معدنها الرخيص سيذوب يوماً تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع. . وسنمضي اليوم وغداً إلى جنب، وقالباً إلى قلب، وعيوننا أبداً إلى الأفق البعيد)!
(دروديب - السودان)
أخوك في الجنوب
حسب الله الحاج يوسف
هذه الرسالة الكريمة لم تكن الوحيدة التي تلقيتها من أبناء الجنوب، وإنما تلقيت من أمثالها الكثير. . وأكتفي اليوم بنشرها لأنها نفحة شعور تعبر عن نفحات، وخفقا قلب تنوب عن خفقات، حين تغني الدلالة الموحية في مثل هذا المقام عن كل سرد وإحصاء!
إننا نعلم حق العلم أن أصواتنا تملأ أرجاء الجنوب وتتردد في حنايا الصدور، رغم الضجيج المنبعث من أبواق المرجفين. . إن صوت الحق لابد أن يرتفع فوق صوت الباطل، وإن منطق العدل الحبيب لابد أن يطغي على منطق الظلم البغيض، وإن نداء الحرية لابد أن يبلغ الأسماع وإن حالت بينه وبينها السدود والقيود!
إننا حين نتوجه بدعوتنا المخلصة إلى أبناء السودان، ندرك كل الإدراك ما تكنه لنا الكثرة الغالبة من إخاء يسمو على الترغيب ووفاء يعز على الترهيب؛ لأننا نعيش على ضفاف النيل ولا نعيش على ضفاف التاميز، وننطق بلغة القرآن ولا ننطق بلغة الطغيان، ونفخر بالوجوه السمر حين يفخر غيرنا بالوجوه الحمر. . الوجوه الصفيقة التي لم تعرف في تاريخها الطويل حمره الخجل من ضيعة الضمير وانحطاط الشعور بالإنسانية!!
إنهم، أصحاب الوجوه التي تصطبغ بكل حمرة غير حمرة الخجل، يؤكدون أن بقائها اليوم في السودان هو حمايته من الاستعمار المصري. . وهم، هم أنفسهم، أصحاب المنطق الذي يتحدث بكل لغة غير لغة الحياء، يؤكدون أيضاً أن سر بقائهم في مصر هو حمايتها من الاستعمار الروسي! وفي سبيل درء الخطر عنا، نحن (أصدقاءهم) في الجنوب و (حلفائهم) في الشمال، دوي ثرى الخرطوم. . ولم يكن الرصاص الذي أصاب السودانيين مصرياً أو الرصاص الذي أصاب المصريين روسيا على التحقيق، وإنما كان رصاصاً بريطانياً (صديقاً) وقفت من ورائه الوجوه (الحليفة)؛ الوجوه الحمر التي اكتسبت لونها على مر الزمن من دم الأحرار في كل مكان!
لقد وقف أندريه فيشنسكي فوق منبر الأمم المتحدة ليندد بصور الوحشية البريطانية في شمال الوادي، ووقف من قبله محمد صلاح الدين ليعدد مظاهر الهمجية البريطانية في جنوبه؛ والأول إذا لم تكن تعلم هو وزير خارجة روسيا الذي يتهمه الإنكليز بأنه يهدف إلى احتلال السودان. . ولا تعجب لمثل هذا الاتهام حين يصدر من منطق ذلك اللص الخالد، حين سمع وقع أقدام تقترب فرفع من صوته (الأبي) وكشف عن وجهه (الحي)، ليقول لرجل البوليس في غير تلمم ولا اضطراب: (مين ألي ماشي هناك)؟!
ماذا نقول لهذا المنطق؟ منطق قطاع الطرق حين يستخدمون لغة المحافظين على الأمن والساهرين على النظام؟! لقد تحديناهم من فوق منبر الأمم المتحدة على لسان صلاح الدين، تحديناهم أن يعرضوا على السودانيين استفتاء جرى بعيداً عن قوة البطش وسطوة الإرهاب، ليسمع العالم صوت الجنوب منبعثاً من أعماق القلوب. . تحديناهم فصمتوا صمت القبور، لأنهم يعلمون إذا قبلوا التحدي ماذا ينتظر حكمهم (العادل) من مصير! صمتوا ونطقت شركات الأنباء حين نقلت إلى صحف العالم وقصة الأيدي المصفقة لصلاح الدين؛ أيدي الأعضاء اللذين هزهم صوت الحق فحيوه وهم وقوف. . ومع ذلك فلم يحرك صوت الأيدي المصفقة صمت الوجوه الصفيقة، لأنها لا ترهب غير صوت الحديدوالنار!!
هذه العبارات الأخيرة هي التي نود أن يفهمها طلاب الحرية في الشمال والجنوب. . لقد فهمها الأمريكيون بالأمس البعيد فاستخلصوا من الذل كرامة، وفهمها الأيرلنديون بالأمس القريب فخلقوا من العدم حياة، وفهمها اليهود آخر الأمر فأقاموا من الوهم دولة! ولقد كانت اللغة الوحيدة التي خوطب بها البريطانيون هنا وهناك، كانت كما قلنا لغة النار والحديد. . وإنها في منطق الحرية لأشرف اللغات، في كل حاضر وآت!!
معالي وزير المعارف والاستعمار الثقافي:
في العدد الأسبق من (الرسالة) كتبت مقالاً عن موقفنا من الاستعمار الثقافي بدأته بهذه الكلمات: (ما هو موقفنا اليوم من الاستعمار الثقافي؟ سؤال يتردد في الأذهان ومن حقه أن يتردد، ويستقر كل لسان ومن حقه أن يستقر، ويوجه إلى معالي وزير المعارف ورجاء السائلين فيه أن يجيب)!
قلت هذا ثم أبديت رأيي فيما يجب أن يكون عليه موقفنا من اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية، بعد أن لقي المصريون من نذالة الإنجليز ما نطقت به الأقلام والأجسام، هذه بدمائها وتلك بمدادها في معرض الثورة على مظاهر الظلم والغدر والطغيان. . أبديت رأيي ملخصاً في هذه السطور: (هذه اللغة وتلك الثقافة كلتاهما تحتل مكانها المقدس في المدارس والجامعات، فلم لا نستبدل بهما لغة الألمان وثقافة الألمان، أو لغة الروس وثقافة الروس، لغة الفرنسيين وثقافة الفرنسيين؟ لما لا نفعل المعنى البعيد كامن وراء هذه الكلمات؟ المعنى البعيد الذي يتمثل في كرامتنا حين نكون (أحرار) في اختيار لغة أخرى غير لغة الخصوم، وتفضيل ثقافة أخرى على ثقافة الأعداء)؟!
كتبت هذه الكلمات كما سبق أن قلت، في عدد الرسالة الذي ظهر في اليوم السادس والعشرين من نوفمبر، وفي اليوم الثالث من ديسمبر، أي بعد ذلك بأسبوع واحد، طلعت جريدة (الأهرام) على القراء بهذا النبأ: (قرر معالي وزير المعارف أن تكون اللغة الأوربية التي تدرس في المدارس الثانوية طبقاً لقانون التعليم الثانوي الجديد هي: الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية، على أن تكون إحدى اللغتين الأوليين أصلية، وإحدى اللغتين الأخريين إضافية، وأن يبدأ تنفيذ هذا القرار بمدارس القرار والإسكندرية هذا العام، ثم يتم تعميمه تدريجياً. . وطلب معاليه إلى الهيئات الثقافية في السفارة الإيطالية والمفوضية السويسرية ترشيح مدرسين للغتين الإيطالية والألمانية)! هذ هو المنبأ الذي نقلته (الأهرام) إلى الجمهور القارئ منذ أيام. . ولقد كنت أود وقد تفضل معالي الوزير فحقق بعض الأمل الذي تطلع إليه هذا القلم في رغبته؛ كنت ألا يكون للغة الإنجليزية مثل هذا المقام (الأول) أو المكان (المحترم) بين غيرها من اللغات، وأن نجد اللغة الروسية مكانا إلى جانب اللغتين الجديدتين وأعنى بهما الألمانية والإيطالية! إني لا أستطيع أن أنكر هذه الخطوة الموفقة لمعالي وزير المعارف لأنها تحمل في أحشائها جنين تلك الفكرة التي جعلت منها المحور الأصيل لما كتبت، أعني بها فسح المجال للغات أجنبية أخرى تشعرنا بأننا (أحرار) في الاختيار، ولسنا مرغمين على قبول لغة بعينها خضوعاً لرغبة مستعمر عقدنا العزم على التخلص من آثار وأوزاره!
إن هذه الخطوة (تحمل) في أحشائها (جنين) تلك الفكرة؛ ولكنني كنت أرجو أن (تضع) لنا (مولوداً) مكتمل الخلقة واضح القسمات، مهما يكن من شئ فأن لمعالي وزير المعارف وجهة نظره التي أملت عليه مثل هذا القرار؛ ولكنني ما زلت أطالب بألا يكون للغة الإنجليزية مثل تلك (الأولوية) التي اكتسبها في رحاب هذا الوضع الجديد! وأود أن أقترح - ما دام معاليه يريد الإبقاء على تلك اللغة - منح الحرية للطلاب في اختيار لغتين من تلك اللغات الأربع، ولا بأس من أن تكون إحداهما أصلية والأخرى إضافية؛ أعني ألا يكون هناك (إرغام) على أن تكون لغة بالذات في المقام الأول. . ولعل الهدف الذي أرمي إليه واضح لا يحتاج إلى تفسير، حين ألخصه في كلمة واحدة هي (الحرية). . الحرية في اختيار اللغات والثقافات!
أما اللغة الروسية والثقافة الروسية فلنا إليهما عودة في المقال المقبل، حين تعرض لموقفنا من الاتحاد السوفيتي كدولة لا كنظام من نظم الحكم، تبعاً لموقفه من في هذه الأيام!
أسئلة من القراء:
سألني بعض القراء عن المعنى الذي رميت إليه من وراء هذا التعبير: (أشهد أن تلك اللغة ليست أشرف اللغات)، حين كنت أتحدث عن اللغة الإنجليزية وأطالب بإلغائها في المدارس والجامعات. . ثم انتقل بعضهم من هذا السؤال إلى سؤال آخر: ما هي ضوابط اللغة الشريفة في رأيكم؟!
ورداً على حضراتكم أقول: إنني ما عمدت إلى هذا التعبير إلا وأنا أرمي من ورائه إلى السخرية أو (التريفة). . ولعل المفتاح كامن هناك، في ذلك التعبير الآخر الذي يسبق هذا التعبير حين قات: إن اللغة الإنجليزية تحتل (المقدس) في المدارس والجامعات. . ومن هنا يكون هدف السخرية المقصودة هو لماذا تقدس هذه اللغة تقديس القيم الشريفة، وهي ليست من هذا المعنى الأخير في شئ؟!
أما بقية الأسئلة وهي لحضرات الأدباء: منير آل ياسين ببغداد حول (الشعر المرسل أو الشعر النثور)، ومحمد رفعت الدوياتي بالقاهرة حول (مسرحية دنشواي الحمراء)، ومحمود سلطان البدراوي بأسيوط حول (الأساليب الأدبية). واليماني أحمد السكري سفر الشيخ حول (الاستعمار الثقافي). . فإن موعدي مع الإجابة عنها في المقال إن شاء الله
أنور المعداوي