الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 961/القصص

مجلة الرسالة/العدد 961/القصص

بتاريخ: 03 - 12 - 1951


قانصوه الغوري

سلطان مصر الشهيد

الفصل السادس

في بركة الرطلي

للأستاذ محمود رزق سليم

بقية ما نشر في العدد الماضي

الشاعر: صدقت! ولكن الشعراء يعيشون بعواطفهم أكثر مما يعيشون بعقولهم، ويتأثرون بالحوادث أكثر مما يتأثر بها سواهم. هم يشاركون المؤرخين حب الاستطلاع، والوقوف على كنه الحوادث. ولكن المؤرخين يقيدونها فحسب، أما الشعراء فيتأثرون بها ويثورون لها. . وهذا هو الفارق بيني وبين فقيهنا الهمام مولانا ولى الدين. .

ولي الدين الفقيه: كيف لا يتأثر المؤرخون بالحوادث، إذا كانت تتصل بهم في الصميم؟ ومن ذا يرى بلاده يطغى عليها الشر فلا يحزن لها ويكافحه، أو يعمها الخير فلا يهنأ معها أو يأخذ من خيرها بنصب؟

التاجر فرس الدين: إذن! مولانا الشيخ معجب بما في البركة من زينة وملهى، ويدعونا إلى أن نقبس من لهوها بمقباس. . وقد قيل:

منذا يرى الغيد تهفوا ... برقة ودلال

ولا يميل إليها=ولا يلين بحال. . .

ولي الدين الفقيه: وقانا الله وإياكم شر المنكرات، إنما أقصد بالخير ما تشهده البلاد الآن من الرخاء. . وذلك يدعونا إلى أن نتحدث بنعمة الله، فقد قال تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث) وقال جل شأنه: (ولئن شكرتم لأزيدنكم) وها هو ذا النيل يفيض وبقى كعادته، وها ذى الأرض تبسم لنا عن زرعها النضير. وقد قيل:

النيل فاض وفي راحاته ذهب ... والأرض دون نداءكم تلبين هذا يثير عليها التب آونة ... فتنفث التبر زهرا أو ريحانا

وهذا من حسن طالع سلطاننا، وفأل حسن لعهده. ومن العجيب أن النيل أبطأ مرة عند الوفاء فعجل السلطان إلى مقياس الروضة، وصلى لله هنا ودعا، وأمر القضاة الأربعة أن يبيتوا الليلة بالروضة ويقرءوا القرآن، فتأذن الله للنيل فوفى.

الشاعر: لقد كان في هذا الرخاء إغراء للسلطان، فأمعن في نعيمه وملاذه، وبالغ في إظهار عظمته ومجده. وشغل الناس بمواكبه وأسفاره. لست أنسى ما حييت من لياليه وأيامه، ليالي المقياس وأيام الأهرام. . كم من يوم فيه أرض الروضة وزار المقياس وأقام ردحا في قصره هناك. لكن كل ذلك لا يقاس بيومه في جمادى الآخرة من العام المنصرم، يوم انحدر إلى المقياس وطلع إلى قصره، ودعا إليه أمراء السلطنة على بكرة أبيهم، مع جم غفير من الجند، واستقدم قضاة الشرع الأربعة، وعددا من أعيان الدولة، وموظفيها، واجتمع بأمر منه، عشرات من القراء والوعاظ. فقرءوا لهم. - أما القصر فقد بدا شعلة من ضوء، انتشرت قناديل الزيت وضيئة مضيئة، وحمائل الشموع ألاقة براقة، بين حجرات وردهاته وشرفاته، ومن حوله. وأوقد مسجد المقياس ومنارته وأرسى (الغيليون) وعلى صواريه علقت أمشاط القناديل. - هذا في الروضة، أما الشاطئان تجاهها، وما قاربهما من دور، فقد فاضت فيهما الأنوار، حتى اتصل الضوء بالضوء، واختلط الشعاع بالشعاع. وعلى الشاطئ تجاه الجيزة ضربت قبب للأمراء، وخيام للجند، وبسط القاضي محمود بن أجا كاتب السر مأدبة حافلة للسلطان وأضيافه، أنفق في إعدادها سبعمائة دينار. وهناك في أرجاء الروضة وعلى مقربة من القصر، وبعد أن أدى السلطان صلاة العشاء جلس فوق سطح القصر، وانطلقت أسهم النفط في الفضاء، وبدأت ألعابها النارية الرائعة تملأ الجواء، - وكان النفط قد جئ به من القاهرة مزفوفا. . - كانت الليلة ليلة البدر، وشعاعه الفضي مشفق على قناديلنا وشموعنا لهذا التحدي. وكل ذلك تنعكس صورته في مرآة الماء فتتضاءف بهجته ورعته في العيون. ولا تسل عن الألوف الحاشدة من الجماهير على الضفتين. . . كانوا سطورا سطوراً على صفحيتهما، ونقطا نقطا بين أقواس الزوارق في رقعة اليم. .

أما أيام الأهرام فقد استطعت خلالها أن اندمج في عداد حاشية الأمير الكبير (طومان باي) الدوادار، وأن أصحبه أثناءها في رحتله مع السلطان، فشهدت عن كثب نزوله ورحيله.

والأمير طومان باي بقية صالحة من خلاصة الأمراء الشجعان الذين شهدت البلاد منهم مواقف نبيلة جليلة. ألا رحم الله، ازدمر الدوا دار، وقرقماش الأنا بكي، وطرا باي رأس نوبة النوب، وبارك لنا في طومان باي الدوا دار الكبير، وسودون العجمي أتابكي الوقت. . . إنه رجل طيب كريم. .

المستوفي: أجل! إن سودون رجل طيب القلب كريم. . ولهذا استضعفه السلطان وأنقص من إقطاعه مائتي فدان. وقبل ذلك سلخ منه أراضي يقدر ثمنها بنحو عشرين ألف دينار. وكذلك صنع مع بعض الأمراء. . .

الشاعر: ربما. .! وقد أقمنا طيلة أيام الأهرام كأننا نسبح في أحلام. . في أواسط ذي القعدة نزل السلطان من القلعة في ركب حافل يتقدمه الأمير طوماي باي، وعدد كبير من الأجناد بخيولهم ذات السروج الذهبية، وكثير من الأمراء، منهم أقباي الأمير أخور الثاني، وكرتباي وإلى القاهرة الجديد، وجم غفير من الخاصكية والسلاحدارية. وغطى السلطان رأسه بتخفيفته الصغيرة. ولم يلبس التخفيفة الكبرى ذات القرون. واتجه ركبه إلى اطفياس مارا بالصليبة، ثم يمم شطر الأهرام فنصب له هناك وطاق فخم. وشمر الطهاة ومدت الموائد الحافلة، ثم غنى المغنون بأصوات تشيع الطرب في النفوس البائسة، ومعهم آلاتهم وأعوادهم، ومنهم محمد بن عوينة وجلال السنطيري والبوالقة وأبن الليموني.

كان الجو رائعاً والسماء صافية، والهواء جافاً معتدلاً لا يغري بالتمتع، وبعد يومين رحل السلطان إلى الفيوم لتفتيشها ولإصلاح جسورها، وبخاصة جسر اللاهون، وفرض على المقطعين بها ضرائب للإصلاح، واختار لمباشرة هذا العمل الأمير أرزمك الناشف. .

أما نحن فقد أقمنا في سفح الأهرام ريثما يعود السلطان وقد عاد محملاً بهدايا لا تحصى قدمها إليه مشايخ العربان واعيان البلاد منها آلاف الدنانير، ومئات من الضأن والخيل والبقر وأقفاص الدجاج والأوز، ولا قاه الخليفة المتوكل على الله، بدهشور لأنها بلدته وقدم إليه كثيراً من عتاق المهار، وسمين الغنام والأبقار والأطيار، وقدوراً من العسل وجراراً من اللبن. . .

ولما بلغ السلطان وطاقه خف إليه كثير من الأمراء والعلية والقضاة فاحتفوا بمقدمه، ومن ثم أخذ يعيد عهد الأندلس مرة أخرى. .

ثم أذن بالعودة إلى القلعة، فمرر ركبتيه بالمقياس أولاً، ثم نظم هذا الركب نظاماً حافلاً لم يرزقه ملك سواه. مشى رءوس النوب، وجمع حاشد من الخاصكية. وعلى مقربة منهم الأمراء المقدمون وغيرهم، وأعيان المباشرين. وقاضي قضاة الحفية عبد البربن الشحنة. ركب هؤلاء جميعاً جياداً مطهمة مسرجة بالحرير مزدانة بالذهب، ومعهم بعض الضيوف من أمراء العثمانيين وغيرهم، وركب أربعة من الأمراء هجناً، وعلى جانبيهم أفيال كبيرة كانت قد أهديت إلى السلطان وعليها البركستوانات - السروج - المخملة الحمراء، وسار الركب تصحبه ألوان من الموسيقى، ناسلاً من شاطئ النيل عند مصر العتيقة إلى الصلببة، حتى بلغ القلعة. . والناس فيما بين هذا وذاك تخب في بحر من الأنس لا ساحل له، وتموج في يم من الفرح لا يعرف مداه، وهي تضج للسلطان بالدعاء. . .

في تلك الأيام ملأت عيني منه، وشاهدته بنفسي، طويل القامة غليظ الجسد ذو كرش كبير. . أبيض اللون مدور الوجه، مشحم العينين، ضخم الصوت مستدير اللحية، هيب أنيق الملبس يحب الطيب ويؤنس جليسه. . . ويقال إنه أهدى إلى أمرائه ومماليكه وأصدقائه أثر وصوله كثير من الهدايا.

التاجر: لقد كدت تصبح من حزب السلطان يا شهاب! لقد أغرتك منه تنقلاته اللاهية وفتنتك أسفاره الماجنة، ما بالك تقص قصته وأنت بها لهج، وعليها حدب، وبحديثها معجب تياه. . .؟ ألا إن صلات الأمراء وهبات العظماء لتعمى الوطني أحياناً عن أن يبصر آلام أمته. . .

الشاعر: إن أسفار سلطاننا إلى أطراف مملكته لتفتيشها أو تفقد أحوالها، وإصلاح مرافقها، سياسة رشيدة، ولعل الغوري أراد أن يبدو في ثوب من العظمة البالغة في سفره إلى الأهرام والفيوم، لأنه أول أسفاره، وذلك أيضاً لكي يبهر عيون الرعية ويكبر في قلوب الأعداء. .

أما أنا فأحب المتعة والأنس، فلا تستكثرهما مرة على رجل مثلى عاش طول حياته كليم القلب، معمور الفؤاد. .

التاجر: لا تنسى يا شهاب الدين أن ذلك المال الذي ينفقه السلطان على ملاذه، ويفرقه على أمرائه وأصدقائه، ويغدق منه على مماليكه، هو عرق الأمة المتصبب وتجمع تبرا وتجمد ذهباً. وهو نتيجة مصادارته الظالمة لأموال الناس. احتازه أعوانه منهم عنوة. . . وتركوهم صادين شاكين باكين يكتمون الشكوى في صدورهم، وتكتبون البكاء في مآقيهم. . . وإن يكن اللهو ضرورياً فبمقدار، وماذا يجدينا نزول السلطان إلى قبة يشبك، أو مواكبه في الميدان، أو سموه بالمقياس، أو لعبه الكرة على الخيل، أو تفرجه وبصراع الفيال ونطاح الثيران وسباق الكلاب ونهاش الصقور، وسماع البلابل، إذا كان العثمانيون والصفويون واقفين له والمصريين بالمرصاد. .؟

ألا تحفظ قول الشاعر:

ملك يعيش كحالم في نومه ... لاه بطيب العيش في أحلامه

والبؤس خيم في الرعية لا ترى ... فيها مكانا كف من آلامه

وغدا يرى أعداءه من حوله ... فيفيق رعباً بعد طول منامه

لهفان يبحث عن بقية حلمه ... ويد العدو تحول دون مرامه

لهفان يبحث ثمالة كأسه ... محطومة كرها على أكمامه

والملك يمحوه النعيم وإنما ... يبقيه هذا من صمصامه

الشاعر: صدقت! وقد خاطبتني من الناحية التي تهتاج قلبي؛ غير أني رأيت لسلطاننا الغوري محاسن أحببت أن تشاركوني فيها وفي تسجيلها، على طريقة شيخنا ولي الدين.

ولي الدين: الغوري سلطان كريم القلب جم المحاسن يميل إلى إحقاق الحق، حسن الإيمان، أديب عالم؛ يناقش العلماء والفقهاء. بر متواضع آمر بالمعروف ناه عن المنكر، يهش للعظة ألم تسمعوا بنزوله إلى قبر الأشرف قابتباي، والعادل طومان باي، وغيرهما، فقرأ الفاتحة وفرق الصدقات. .؟

علم الدين الخياط: وأين هذا يا مولانا من جلوسه بالميدان، وقد تفتح ورده الأبيض الجميل، فطفق يرمي كل أمير بوردة، فيلثمها ويقبل له الأرض. .؟

ولي الدين الفقيه: هكذا يا أخي تكون حياة السلاطين والعظماء. لابد فيها من هذا النبل في المعاملة، وهذا التعاطف السامي والأدب الرفيع، وإلا أصبحت هي وحياة السوقة سواء بسواء، حياة جافة جافة يابسة لا تشرف أمة ولا ترفع شعباً.

الخياط: ألا تشعر يا مولانا الشيخ أن مثل هذه الحوادث غفلة عن الزمان وتقلباته وبطأ عن الحيطة له؟

المستوفي: كثير من الناس يظنون في السلطان الغفلة، والواقع غير ذلك. فإننا نراه دائماً على علم بكل صغيرة وكبيرة يقظاً لكل ما يدبره الأمراء في الخفاء، محتالاً على الجنود وفتنهم. ويقال إن له عيونا خفية منبثة في كل مكان، تنهي إليه أخبار الحوادث، ومنهم محمد بن سعيد الذي حظي عنده وصار يجالسه على مرتبته ويلعب معه الشطرنج.

التاجر: لو بذل السلطان جهده في تهذيب جنوده، وتوحيد قلوب أمرائه، وتجديد آلات حربه، والاستعداد لكل طارئ لحمدنا له بذله ويقظته وكبنا ألسنة له لا عليه. لقد سمعت أن بعض الأحكام عطل تنفيذه لعدم توقيع السلطان عليها لعكوفه على اللهو واللعب.

ولي الدين الفقيه: أنا لا أمقت من أعدائنا إلا هؤلاء الفرنجة أما الصفويون أو العثمانيون فمهما يكن من شيء فهم مسلمون، وقلوبهم - يغير ريب - أدنى إلى الرحمة والعطف. أما الفرنجة الصليبيون فلا تجمعه بنا جامعة جنس ولا تجمعه بنا جامعة جنس ولا لغة ولا دين، فأحرى بالسلطان أن يوجه جهوده ضدهم.

الشاعر: يا مولانا الشيخ! العدو عدو، ولو كان مسلماً مثلك، ما دام معتديا على وطنك. يا مولانا! إن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. هذه أحاديث شريف هجر المسلمون اليوم العمل بتعاليمها ولهذا أصبح بعضهم لبعض عدواً، فسواء لدى أعز الصوفي البيرة أم أغار العثماني على حلب، أم عبث الفرنج بتجارتنا في بحر الهند. فكل هؤلاء أعداء الداء ينبغي أن يكافحهم السلطان، ما داموا يقتلون منا ويثخنون فينا ويطمعون في ديارنا.

المستوفي: لقد أرسل السلطان قريبه (محمد بيك) إلى ناحية (الجون) ليدبر أخشاباً لصناعة السفن ليمد بها تجريدة الهند، ومعه جماعة من الجنود، فوقعت بينه وبين الفرنجة هناك وقائع حالفه فيها النصر، وغنم ما كان لديهم من السفن. ولكنهم تربصوا به حتى قتلوه وأبادوا جنده وغنموا سفنه. وكانت ملأى بالذخيرة - أما تجريدة الهند فإن السلطان لا يفتأ يبعث إليها المدد تلو المدد، رغم ما تصاب به من هزائم، مستحثاً ملوك الهند وأمراءها على معونتها. وقد عاد (حسين) أمير الحملة وقص على السلطان أنباء الفرنجة وعبثهم، وما سواحل الحجاز وبلاد العرب والهند من قلاع وأبراج لتأمين السفن. وكان في صحبته قاصد من الملك المظفر شاه أبن الملك محمود شاه صاحب كنباية، فقدم إلى السلطان هدايا لا تعد ولا تحصى، وطلب إليه أن يكتب له الخليفة العباسي المتوكل على الله (تقليدا) بولاية سلطانه مكان أبيه، بعد وفاته.

الخياط: وإسماعيل الصوفي؟ ألم يبلغكم شيء من أخباره؟ لقد توالت قصاد هذا الماكي على بلادنا. ولا أخاله إلا يزداد قوة، وطمعا بعد طمع.

المستوفي: لقد أغار جنده مراراً على البيرة، وانتصر على (أزبك خان) ملك التتار، ثم أرسل رأس هذا الملك، إلى السلطان كأنه يهدده. واستعدى الفرنجة سراً على ممتلكات السلطان. ولما استيقن السلطان من سوء نيته، أخذ الحيطة لنفسه، ومنع قاصده مدة من الاختلال بالناس، وأخيراً جاءه من لدن قاصد جديد يخمل هدايا نفيسة، فلم يأذن له السلطان ولا سيما أنه قدم إليه رسالة من ملكه بها أحاديث لا توجه إلى السلاطين. وقد أغلظ له السلطان في الرد، ولبث يترقب الفرصة من بعد حتى وافته الأخبار بهزيمة. . منكرة، مني بها الصوفي على يد أعدائه من ملوك التتار.

الشاعر: من أعجب ما حدث بمناسبة الحديث عن الصوفي أن أرسل هذا الشاه إلى السلطان ومعه رأس أزبك فأن ومكاتبه فيها هذان البيتان:

السيف والخنجر ريحاننا ... أفِ على النرجس والآس

مدامنا من دم أعدائنا ... وكأسنا جمجمة الرأس

ففهم السلطان مغزاهما وما ينطوي تحتها من تهديد ووعيد ونشط كثير من شعراء مصر للرد عليه فقال الناصري محمد بن قانصوه بن صادق:

العلم والحلم لنا حلة ... حيكت مع القوة والباس

وسنة المختار طرز لها ... وذكرنا تاج على الرأس

وقال على الغزي من أبيات:

نحن أسود الحرب غابتها ... رماحنا للطعن والباس

وخيلنا تسرع في سوقها ... شدت لحرب المعتدي القاسي

وقال ناصر الدين بن الطعمان:

أسد الوغى فرساننا كم سقت ... كأس المنايا باغيا قاسى ومن يزغ عن أمرنا طاغياً ... نذقه مر الباس والكأس

وهكذا تبارى نحو مائتي شاعر في معارضته بيتي الصوفي، ويقال إن السلطان لم يعجبه شيء من شعرهم. فرد ببيتين للصفي الحلي، هما:

ولي فرس للخير بالخير ملجم ... ولي فرس للشر بالشر مسرج

فمن رام تقويمي فإن مقوم ... ومن رام تعويجي فأني نعوج

ولي الدين الفقيه: إن هذا السلطان الجركسي، غريب في بابه، فهو - فضلاً عن مميزاته - محب للآداب عربية وتركية وفارسية، على ما قيل. وينظم الشعر بالعربية، ومنذ أمد أمر بترجمة الشاهتامة الفارسية شعراً تركيا.

التاجر: غير أننا نلاحظ أنه، حتى اليوم، لم يخرج في غزاة. بخلاف ما اعتادته البلاد من سلاطينها السالفين.

الشاعر: وهل - إذا خرج السلطان الغوري في غزاة - تقدم إليه ما يحتاج إليه جنده من المعونة؟

التاجر: إن الرعية اليقظة تقدم لسلطانها في جهاده أعداء البلاد ما يحتاج إليه من معونة. وينبغي لها أن تؤدي ما يفرض عليها وقت خروجه إلى الجهاد، وحسبه وحسبها أن الأقدار ألقت إليه زمام الدفاع وعن حياتها، ومع هذا فلو قيض لي أن أكون جندياً في صفوف جيشه، لكان في ذلك بلوغ الآمال وإدراك المنى. . . وأنا الرجل العامي الذي لم يرزق مهارة الأتراك وفتك العربان. . ما أحبها إلى القلب فرصة وما أشهاها، تلك التي تتيح لي أن أذود عن حياض بلادي. . أي صديقي! أقرأ التاريخ وقلب صفحاته، فقد علمت مما تهادي إلى من أخباره أن هذا الشعب المصري الوديع المتغافل، وثار وهب، ووقف وقفات حاسمة مروعة بجانب سلاطينه. . .

الشاعر: لا أدري لماذا يحدثني قلبي بأننا سنساق في يوم قريب إلى قتال، وأنه سيكون بين المقاتلين موقف. .

المستوفي: أخشى ما نخشاه، هو هؤلاء العثمانيون، قوم خلقوا من المكر والدهاء، ورزقوا الحيلة وبعد النظر، وولى أمرهم منذ أمد قريب سلطانهم سليم، ويقال إنه أصغر أخوته، ولكنه عجول إلى الفتك، طموح إلى توسيع ملكه، شديد الحيلة محكم التدبير. وقد بدأت الوحشة بينه وبين الصوفي، ولكنه يصانع سلطاننا بالكثير من الهدايا القيمة، ولقد عاد من لدنه الرئيس حامد المغربي، وهو السلطان إليه، ومعه عدة مكاحل - مدافع - نحاسية، وكميات كبيرة من الحديث والخشب والحبال وغيرها لصناعة السفن. فبعث إليه سلطاننا الأمير أقباي الطويل ليهنئه بالملك وليدعم بينها أواصر المودة. . والعاقبة يعلمها الله.

الفقيه: وعلى ذكر المكاحل والسفن، بلغني أن السلطان مني بإنشاء جملة منها، وذهب مراراً إلى مدفن الملك العادل ليجرب هناك مكاحله الجديدة.

الشاعر: يعجبني منك يا مولانا ولي الدين، وأنت رجل فقيه اهتمامك بالشئون العليا، وهذه الروح الحماسية القوية الوثابة حتى لأخالك في سن العشرين. .! وكان أحرى بمثلك أن يعني بمجالس الفقه والحديث، ويتردد على المساجد ليسمع من شيوخ العلم أو يفيد طلابه أو يجمع أخبار العلماء، أو يلوذ بأبواب القضاة. . .!

ولى الدين: حق يا بني ما تقول. إلا أن امرأ يصحب قوما مثلكم، لجدير أن يكون على طرازي. ومع هذا فلا زلت أحقد أقعد بين طلاب العلم فأفيد وأستفيد. وأعود إلى مجالس العلماء ومحافل القضاة ومن على شاكلتهم، ولكن أشهى المجالس إلى نفسي مجلسكم، وأحلى الأحاديث إلى قلبي حديكم. .

الشاعر: وعلى ذكر القضاة. . هل جاءك نبأ ما حل بقضاتنا الأربعة، من جراء حادثة (المشالي) وما تم في هذه الحادثة؟

ولي الدين: لدى أخبار منها متقطعة، وأنباء يشيع فيها الكذب. فهل لديك منها نبأ صادق يا شهاب الدين؟

علم الدين الخياط: لقد كدت أعرف تفاصيل هذه المسألة أمس. لولا عارض عرض. . .

غرس الدين التاجر: لو أنصفت لأخبرتنا بدخائلها.

شهاب الدين الشاعر: إن الرواية لم تتم فصولاً. . وسأحدثكم عن أسرارها في لقائنا القادم، فقد طال بنا المقام، فيها. .

محمود رزق سليم