مجلة الرسالة/العدد 961/الأدب وطلقات المدافع!
→ المجد العلمي | مجلة الرسالة - العدد 961 الأدب وطلقات المدافع! [[مؤلف:|]] |
شذرات في الحياة: ← |
بتاريخ: 03 - 12 - 1951 |
(إلى صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن)
للأستاذ علي متولي صلاح
من أبعد الأشياء عن الصواب أن نفهم الأدب على أنه كلام! وان نفهمه على أنه مواكب ألفاظ رنانة جميلة، ومعارض بلاغة تأخذ بالسمع وتخلب اللب، ويرقص لها الإنسان كما يرقص الزنوج - مثلا - على دقات الطبول!
ذلك فهم للأدب بعيد عن الصواب! كثر من البعد الذي بين المشرقين! وقد نسمعه من بعض الجاهلين فلا نلتفت إليه، أو نسمعه من غير رجال الأدب فنعده من باب الخطأ في فهم شيء لم تخذلوه ولم يدرسوه. أما نسمعه من رجال الأدب أنفسهم الذين قضوا في الأدب حياتهم، والذين نالوا حظاً من دراسة الأدب وفهمه، ومارسوا ممارسة عملية طوال حياتهم، فذلك خطر على الأدب شديد، وذلك انحراف للأدب عن منهجه الصحيح القويم، أو هي نكسة بالأدب إلى الوراء يوم كان سداه ولحمته اللفظ ولا شيء سوى اللفظ!
والذي يقرأ ما كتبه صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن في العدد الفائت من مجلة (الرسالة) عن المفاضلة بين (السلاح الصوال) وبين (اللسان القوال) لا يحسب مثل هذا الكلام يصدر إلا عن أحد اثنين: إما جاهل بطبيعة الأدب ووظيفته ومدى اتصاله بالحياة، وأنا أعيذ الأستاذ الصديق أن يكون ذلك الرجل. وأما عدو للأدب متحامل عليه ويحرف الكلم في وصفه عمدا لينال من مكانته، وليس الأستاذ الصديق ذلك الرجل بطبيعة الحال!
يقول الأستاذ (. . . ولكنني أرجو أن تحمد في امتنا الأفعال لا الأقوال) ويقول (فنحن اليوم إلى سلاح صوال، أحوج منا إلى لسان قوال)، ويقول:
هذه الأقوال لا تحمي شهيدا ... من ضحايا الحق، أو تشفي أواما
أطلقوا المدفع. . . لا حنجرة ... وارجعوا السيف في الحق احتكاما
ويقول:
لا تردوا عنكمو غدر الأعادي ... بالعبارات نثارا ونظاما. . .
الكلام اليوم لا يحمي حقوقا ... والبيان اليوم لا يرعى ذماما. . .
وهذه دعوى خطيرة جداً على الأدب، ويزيد خطورتها هنا أنها صادرة عن أدي فالأدب ليس كلاما لا طائل وراءه ولا نفع فيه، لأنه لا يحمي شهيدا ولا يرد غدرا ولا يحمي حقوقا ولا يرعى ذماما، بل أن الأدب يصنع كل ذلك واكثر جدا من ذلك. والكلمات كما يقول هازلت: (إنما هي أفعال فإذا تكلمت فقد فعلت!) والكلمات - كما يقول جان بول سارتر زعيم الوجودية - هي (أسلحة نارية مشحونة بالقذائف، وان الإنسان إذا تكلم فقد أطلق!) وليست الكلمات - كما يقول سارتر أيضا - (نوعا من النسيم يتوهمه أصحاب نظرية الأسلوب البحث يجري على سطح الأشياء فيسميها خفيفا دون أن يغير شيئا فيها) وأنا أسأل الأستاذ لماذا يكتب الكاتب؟ أيكتب ليسجل خواطره الخاصة لنفسه حتى يمكنه استعادتها كلما عن له ذلك؟ لو كان الأمر كذلك لكفاه أن يخط بضع ملاحظات سريعة على الورقة يسترجع بها خواطره المستقرة في أعماق نفسه كلما شاء! لأنه سيذكر هذه الخواطر في يسر وسهولة كلما رجع إلى هذه الملاحظات السريعة، ولكن هذه الملاحظات السريعة ليست من الأدب في شيء، فلماذا أذن يكتب الأدباء؟
أن الأدباء يكتبون ليدعوا القراء - والقراء هم الحياة - إلى عمل من الاعمال، وليهيجوا في نفوسهم عاطفة من العواطف، وليؤججوا في قلوبهم الحقد والكراهية - مثلا - للأعداء، والحب والمودة للأصدقاء، والحقد والكراهية يؤديان بصاحبهما إلى عمل، والحب والمودة يؤديان بصاحبهما إلى عمل آخر! ألم تر إلى العرب الأقدمين كيف كانت القبيلة منهم تقيم الأفراح إذا ظهر فيها شاعر! لأن الشاعر في اعتبارهم هو حامي الذمار، والمدافع عن شرف القبيلة، والمتصدي بلسانه للاعداء؟ الم تر إلى الأوربيين كيف ماتت فيهم اليوم فكرة الفن للفن - مع أن الأدب عند أصحاب هذه النظرية ليس كلمات وألفاظا فقط؛ بل أنه ذلك وأشياء أخرى غير ذلك! - ماتت هذه الفكرة عند الأوربيين اليوم، وأصبحت كلمة (الفن للفن) عندهم - وهي ما يطلقون عليها (الفن الخالص) - مرادفة تماما لكلمة (الفن الفارغ)!!
أن الأدب يا سيدي هو كل شيء في الحياة الآن، أو على الأصح، هو كل شيء الآن، وعلى هذا الأساس يحمل مارنز الأدباء مسئولية ما يوجد في الحياة من رذيلة وقبيح واستعباد وظلم واستغلال وما إلى ذلك، ويجعلهم أول المسؤولين عن جميع هذه المفاسد قبل كل إنسان آخر؛ لأنهم الموجهون للدولة، والمرشدون للناس، والكاشفون للسوء، والدالون على الخير، والمنبهون إلى الشر، والفاضحون الأشرار، والمادحون الأخيار، والمنشطون عزائم الناس، والمستحثوهم على الذود عن الوطن، والمستفزون إلى الحرب والضرب والدفاع عن بلادهم. . .
يقول برناردشو: (كان الإنسان في الأزمان الغابرة سلاحه السيف، وظل هذا السيف يصغر ويصغر حتى ظهر القلم!)
أما الدعاية وقوة تأثيرها واعتبار الدول لها الآن في المحل الأول من الأهمية في الحرب والسلم على السواء، فعندي أن الحديث في ذلك معاد مكرور لأنه لا يخفى على إنسان.
أن الكلام يا سيدي ليس بهذا الهوان والضعف الذي وصفته به وأنت الأديب القوال! أنه شيء أحظى جدا من هذا وابعد اثر في الحياة من هذا!
وحيا الله الأستاذ العقاد حيث يقول هذا البيت الحكيم: -
ما دام في الكون شيء للحياة يرى ... ففي صحائفه للشعر ديوان
علي متولي صلاح