مجلة الرسالة/العدد 960/موقفنا من الاستعمار الثقافي
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 960 موقفنا من الاستعمار الثقافي [[مؤلف:|]] |
موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية ← |
بتاريخ: 26 - 11 - 1951 |
للأستاذ أنور المعداوي
ما هو موقفنا اليوم من الاستعمار الثقافي؟ سؤال يتردد في الأذهان ومن حقه أن يتردد، ويستقر على كل لسان ومن حقه
أن يستقر، ويوجه إلى معالي وزير المعارف ورجاء السائلين فيه أن يجيب!
إننا اليوم نخوض المعركة؛ معركة الحرية والاستقلال، أو معركة الشرف والكرامة. نخوضها ضد الغاضب المستعمر بكل سلاح من أسلحة الكفاح وكل وسيلة من وسائل النضال، وهدفنا المقدس هو أن نتخلص من كل قيد فرضه علينا الاستعمار وأرغمنا على قبوله، منذ أن وطئت أقدامه المجرمة أرض هذا الوطن. . هناك الاستعمار العسكري وقد وقفنا في وجهه حين ألغينا المعاهدة، وهناك الاستعمار الاقتصادي وقد حاربناه حين قررنا مقاطعة البضائع الإنجليزية، وبقى الاستعمار الثقافي جاثما على الصدور والعقول حيث قدر له أن (يحتل) مكانه (المقدس) في المدارس والجامعات!
هل نحن محتاجون إلى اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية؟ أشهد أن تلك اللغة ليست أشرف اللغات، وأن هذه الثقافة ليست أعمق الثقافات، ولكن منطق القوة وحده هو الذي أضفي عليهما من زيف الطلاء ما بهر العيون وطمأن الظنون، وأحلهما المحل الأول من قاعات الدرس وأفكار الطلاب في كل مرحلة من مراحل التعليم!!
إنها حقيقة لا تقبل الجدل حين نقول إن تلك اللغة قد فرضت علينا منذ أعوام تقرب من السبعين، وأن منطق القوة هو الذي فرضها علينا كما فرض علينا كل قيد من قيود الظلم والضيم والخضوع. . كان هذا بالأمس. أما اليوم وقد قررنا أن نحطم القيود والأصفاد، وأن نكفر بالعهود والوعود، وأن ننتقل من مرحلة العبيد إلى مرحلة الأحرار؛ أما اليوم وقد قررنا هذا كله فيجب أن نقرن القول بالعمل، وأن نهجر الخيال إلى الواقع، وأن نؤمن بأن الإقدام خير من الإحجام. وإننا لنستطيع. . نستطيع أن نفهم المستعمر أننا قادرون على طرد استعماره العسكري لأننا في غنى عن حمايته؛ وسحق استعماره الاقتصادي لأننا في غنى عن بضاعته، ونبذ استعماره الثقافي لأننا في غنى عن ثقافته. .
ماذا ينتظر معالي وزير المعارف بعد أن وقف معالي وزير الخارجية ليتحدث إلى فوق منبر الأمم المتحدة، ليتحدث عن دم المصريين الذي أراقته الحراب البريطانية، وعن حقوق المصريين التي هضمتها الهجمة البريطانية، وعن كرامة المصريين التي أهدرتها النذالة البرطانية؟ حسبنا منه هذه الكلمات أو هذه الصرخات وهو يقول: (عندما عقدت جمعيتنا العامة دورتها الخامسة في شهر سبتمبر من العام الماضين كانت أحلك الغيوم التي تلقي ظلها الكثيف على هذا العالم المضطرب هي حرب كوريا، أما في هذا العام فهنالك حربان، حرب في كوريا، وحرب في البلد الذي أتشرف الآن بأن أخاطبهم باسمه. . إنها حرب حقيقية تشنها على مصر دولة لا تزال تدعي بأنها حليف لمصر! لقد تدفقت الإمدادات البريطانية من برية وبحرية وجوية على منطقة قناة السويس لمضاعفة قوات الاحتلال. ولقد استولت هذه القوات على المنطقة بأكملها ووضعتها تحت الحكم العسكري وعزلتها عن سائر أجزاء المملكة ووضعت يدها على المرافق العامة، واعتدت على السلطة القضائية فمنع القضاة من مباشرة مهمتهم المقدسة في هذا الجزء من أرض الوطن، ومنهم من قبض عليه وحرم الطعام يومين كاملين. . ولم يقتصد جنود الاحتلال في إطلاق النار على رجال الجيش والبوليس فضلا عن المدنيين الآمنين، ولم يتورعوا عن قتل النساء ولأطفال!
(لقد أبدي مندوب الولايات المتحدة ووزير خارجيتها في خطابه البليغ عنايته بحقوق الإنسان، وخبرنا عن بعض الحوادث التي وقعت في المجر وتشيكوسلوفاكيا فوصفها بأنها سحق وحشي للحرية، وإني لأسائل نفسي أي وصف يمكن أن يطلقه على الفظائع التي يرتكبها في منطقة القتال أصدقاؤه وحفاؤه البريطانيون؟ أما أنا فلا أتردد في أن أدعوها عدوانا همجيا مخجلا من المملكة المتحدة، وخرقا صارخا للسلام العالمي والأمن الدولى، وامتهانا بالغا لمبادئ الميثاق وأهدافه السامية!!)
ماذا نقول لمعالي وزير المعارف بعد الذي قاله معالي وزير الخارجية؟ نقول إن اللغة التي تهين كرامتنا يجب أن تلغى، وإن الثقافة التي تشين قوميتنا يجب أن تلعن: في كل كتاب توجد، وفي كل مدرسة تلقن، وعلي كل لسان تنطق، وهذا هو أيسر الجزاء وأهون العزاء. . إن تلك اللغة كما قلنا ليست أشرف اللغات وإن هذه الثقافة ليست أعمق الثقافات، فلم لا تستبدل بهما لغة الألمان وثقافة الألمان، أو لغة الروس وثقافة الروس، أو لغة الفرنسيين وثقافة الفرنسيين؟ لم لانفعل والمعنى البعيد كامن وراء هذه الكلمات؟ المعنى البعيد الذي يتمثل في كرامتنا حين نكون (أحرارا) في اختيار لغة أخرى غير لغة الخصوم؛ وتفضيل ثقافة أخرى على ثقافة الأعداء!
هذا هو المعنى البعيد الذي نهدف أليه. . لقد عزمنا عل أن نكون أحرارا، أحرارا في كل شيء، أحرارا حين نأخذ وحين ندع، حين نقبل وحين نعرض، حين نسالم وحين نخاصم، حين نرفض وحين نختار. وما دمنا قد انتهينا إلى هذا الطريق وارتضينا أن نسير فيه، فلا معنى للتريث ولا مغزى للتردد ولا مبرر لإطالة التفكير، لأنها ستكون حرية مشوهه تلك التي تقضي على لونين من ألوان الاستعمار ثم تبقي على لونه الأخير، ونعني به ذلك الاستعمار الثقافي الجاثم على الصدور والعقول! إننا حين نجهر بهذه الكلمات لا نشك لحظة في وطنية معالي وزير المعارف، وإنما نهيب بوطنيته أن تعجل بالضربة القاصمة وأن تبادر بالخطوة الحاسمة، حتى يتحقق ذلك المعنى البعيد الذي رمينا إليه، والذي لا يغيب عن فطنة الخصوم. . وحول محور هذا المعنى نريد أن نقول: إن تلك اللغة التي فرضت بالأمس بقوة السلاح يجب أن ترفض اليوم بقوة الإرادة؛ وإذا خطر لنا أن نعيدها مرة أخرى في الغد البعيد فلا بأس علينا من ذلك ولا بأس على الكرامة المصرية، ولمن بعد أن يتطهر الوادي شماله وجنوبه من دنس المستعمر أو رجس الشيطان. . عندئذ (نتفضل) أحرارا يمنح هذه اللغة وتلك الثقافة جواز المرور، ويومئذ تزول عن كلتيها نزعة الغرور شأن كل قائد مدحور؛ كل قائد يأخذ مكانه المحدد في مؤخرة الصفوف!!
أنور المعداوى