الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 96/في الأدب الفرنسي المعاصر

مجلة الرسالة/العدد 96/في الأدب الفرنسي المعاصر

مجلة الرسالة - العدد 96
في الأدب الفرنسي المعاصر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 06 - 05 - 1935


رومان رولان

بقلم كامل

يطلع علينا رومان رولان بين وقت وآخر من أعماق عزلته في سويسرا بعيداً عن وطنه فرنسا بكتاب أو مقال جديد فيشعر من قرأ هذا الأديب العظيم بحنين زائد إلى قراءة هذا الكتاب أو هذا المقال. ذلك أن رومان رولان كاتب عالمي الفكر والعاطفة لا يكتب لأمة معينة ولا لشعب خاص، بل يكتب للعالم أجمع ناظراً إليه كأسرة إنسانية واحدة لا تمزقها حدود، ولا تفرقها لهجات، ولا تبذر بذور الحقد والضغينة في قلوب أعضائها فكرة الأجناس. لذا كان رومان رولان من أحب الكتاب المعاصرين إلى كل قلب رحيم ونفس واسعة الآفاق. وكتابه عن (مهاتما غاندي) يقربه إلى قلوبنا نحن الشرقيين لأنه وقف فيه موقف المدافع القوي عن الحركة الهندية وشعبها المجيد المهضوم، كاشفاً القناع عن فضائح الغرب وآثامه في قتل أمة عظيمة بلغت مئات الملايين والوقوف في وجهها بالالتجاء إلى البطش الخسيس حين تنهض مطالبة بحقها في الحياة

ولا عجب أن يبدو ذلك من رجل مثل رومان رولان لم تكد تعلن الحرب الكبرى - وكان وقتذاك في جنيف بسويسرا - حتى أخذ يكتب سلسلة مقالات ملتهبة بالعاطفة الإنسانية، مطالباً فيها بالمبادرة بحقن الدماء وعودة السلام وإنقاذ أرواح الشباب البريء الذي يلعب بعقله خطباء الشوارع مستغلين حرارة قلبه وسمو نفسه في سبيل جشع أصحاب مصانع السلاح ودجل رجال الحكومات. ولقد آثر رومان رولان عداء الرجعيين من أبناء وطنه والصحافة المادية المغرضة التي أثارت عليه الرأي العام الساذج في كل أمة مهما بلغ رقيها، آثر ذلك عن أن يتنازل عن حريته في الفكر والقول، عن إنسانيته التي هي ثروته الكبرى

ولد رومان رولان في بلدة كلاميسي في اليوم التاسع والعشرين من شهر يناير عام 1866 من أسرة ريفية برجوازية عريقة القدم. وتعلم أولاً في البلدة التي ولد بها. ثم أنتقل إلى باريس عام 1886 حيث التحق بمدرسة النرمال العليا وفي عام 1889 نجح في امتحان (الأجريجاسيون) في التاريخ والفلسفة، وفي عام 1895 حصل على شهادة الدكتوراه في الآداب برسالة قدمها عن (أصول المسرح الغنائي الحديث) وعين بعد ذلك أستاذاً لتاريخ الفن في مدرسة النرمال العليا، ثم عين أستاذاً في السربون حيث أدخل مادة (تاريخ الموسيقى) وبقي فيها حتى عام 1911.

ابتدأ رومان رولان حياته الأدبية بكتابة عدد كبير من القصص المسرحية، ولم يكن ذلك منه عفواً بل كان تنفيذاً لفكرة مختمرة في نفسه عن وجوب تجديد الفن المسرحي بالطريقة التي شرحها في سلسلة مقالاته التي كتبها بعنوان (مسرح الشعب) (1900).

كتب رومان رولان من هذه القصص المسرحية (1897) - (1898) - (1898) - (1899) - (1900) - 14 (1902) - (1902) - (1904) (1905) (1917) - (1919).

وفي مقالاته عن (مسرح الشعب) نادى رومان رولان بان يكون المسرح متحرراً من برجوازيته أي من اقتصاره على رسم ألوان الحياة الدائرة بين الطبقات الوسطى والغنية، لأن هذه الطبقات لا تكون إلا جزءاً ضئيلاً من الأمة. فاقتصار موضوعات الكتاب المسرحيين عليها يحرم المسرح من أن يكون معبراً عن روح الشعب الحقيقية وآماله التي لا نلمسها إلا في الطبقات الفقيرة وهي الكثرة في كل شعب. كذلك هاجم رومان رولان المسرح الكلاسيكي والمسرح الرومانتيكي داعياً إلى أن يكون الفن المسرحي صدى لتفكير العصر الذي نعيش فيه، وأن يكون ممهداً الطريق لمجتمع جديد. وبرغم أن رومان رولان بقي حتى الحرب الكبرى لا يعلن فكرته السياسية المحددة، فإن كل كتبه كانت تفيض بتمجيد الحرية والأحرار وبنزعة إنسانية عظمى. ولقد كان هذا المجتمع الجديد الذي يرمي إلى التمهيد له هو ذلك الذي تحيا فيه الطبقات الفقيرة المهضومة حياة حرة كريمة، ونجد بين أحضانه أكبر قدر من الحنان والتقدير.

على أننا ونحن في انتظار ذلك اليوم المطوي في ثنايا الغيب يرى رومان رولان وجوب أن نعد الشعب لنقبل ذلك المجتمع الجديد، وما ذلك إلا بأن نهيء الفرد لبلوغ أعظم درجة مستطاعة من الكمال الإنساني حتى يقابل كل تطور جديد بقلب مفتوح وصبر جميل. ولذا نرى رومان رولان (أخلاقيا) يطالب الفرد بأن يكون قوي الخلق عظيم النفس، حنون القلب محبا لكل الناس، راغباً في معرفة كل شيء، مستعذباً التضحية في سبيل الفكرة السامية. فبهذا وحده نستطيع أن نقبل راضين مجتمعاً جديداً مترفعاً عن الدنايا كارهاً لضروب الرياء الذليل، بعيداً كل البعد عن الأنانية الحيوانية. ولهذا أيضاً كان رومان رولان يهيم بحياة الأبطال الذين يرى فيهم مثلا أعلى لما يجب أن يكون عليه الفرد من الفضائل. فنراه يكتب - كما ذكرنا - قصتيه المسرحيتين (سان لويس) و (دانتون). ثم نراه بعد ذلك يكتب ثلاث تراجم بعنوان (حياة الرجال المشهورين) أولاهما عن (حياة بيتهوفن) (1903) والثانية عن (حياة ميشيل آنج) (1906) والثالثة عن (حياة تولستوي) (1913)، ثم أخيراً يصدر كتابه الشهير عن (مهاتما غاندي) (1926).

ويرى رومان رولان أننا في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى دراسة أولئك الأبطال (لأن أوربا الآن يغشاها جو خانق مفعم بالرذيلة. إذ طغت المادية الوضعية على الفكر. . . . إن العالم يختنق. فلنفتح النوافذ حتى يدخل الهواء الطلق العليل. فلنستنشق نفثات الأبطال) وما هؤلاء الأبطال إلا أولئك الذين نرى فيهم - كما يقول رومان رولان - (روح البطولة. ورجاحة العقل والابتسامة الدائمة، وشهوة النور والمعرفة. تلك الصفات التي نراها في فرنسا في رابليه وموليير وديدرو، وبين الموسيقيين نستطيع أن نقول بيرليوز وبيزيه لأنه لا يوجد خير منهما).

على أن رومان رولان يرى في بيتهوفن وفي ميشيل آنج وتولستوي عبقريةً لم يجدها في أبناء وطنه. فيرى في بيتهوفن الشخص (الذي منه تنتقل عدوى الشجاعة الخارقة. والإحساس بالسعادة في الكفاح، وتغلب الضمير الذي يشعر في نفسه بأنه إله). ويرى في تولستوي (ذلك النور الذي انطفأ، والذي كان لأبناء جيلين أطهر نور أضاء شبابهم) وهو يجد فيه أيضاً (الصديق الحقيقي الوحيد بين كل رجال الفن المعاصر). ولسنا في حاجة إلى تأكيد الصلة الوثيقة بين تولستوي ورومان رولان، إذ أن تولستوي هو الكاتب الوحيد بين الكتاب الحديثين الذي طالب بأن تكون رسالة الفنان أخلاقية ودينية. وهذا هو اظهر ما يميز فن رومان رولان ودعوته.

ونحن إذا نظرنا الآن إلى هؤلاء الثلاثة الذين يمجدهم رومان رولان رأينا أن أولهم ألماني، والثاني إيطالي والثالث روسي. فكأنه لم يجد بين أبناء وطنه مثله الإنساني الأعلى. لذا كان ذلك داعيا إلى أن يجد رومان رولان عددا ليس بالقليل من النقاد الفرنسيين يتهمونه بانتقاص العبقرية الفرنسية والطعن فيها. والواقع أن رومان رولان كان دائم اللوم لأبناء وطنه على (شدة تأثرهم بالأوهام الخداعة التي تصوغها الخطب الرنانة) وكان يصرح دائما (بكرهه لذلك النوع الجبان من المثل الأعلى الذي يدير العيون عن بؤس الحياة وضعف النفس. إن البطولة الكاذبة جبن ونذالة. فليس هناك إلا نوع واحد من البطولة. تلك هي التي ترى الحياة كما هي وتحبها).

والعجيب أن رومان رولان عندما أراد أن يرسم صورة خيالية تتجمع فيها فضائل أبطاله السابقين لم يجعل بطلها فرنسياً بل ألمانيا. فكتب قصة (جان كرستوف) (1904 - 1912) وبطلها جان كرستوف - موسيقي ألماني (تغلغلت فيه نفس بتهوفن العظيمة. فصلبت أعضاءه ونفسه وبدت كأنما جعلت حجمها ضخما هائلاً. لقد كان يتجه نحو العالم. كان كجبل شامخ تدوي بين أرجائه العواصف، عواصف الحرارة والحماسة، عواصف الهم الدفين، آه! ياله من هم! على أن ذلك لم يؤثر بشيء! كان يحس بنفسه وافر القوة!. . . العذاب! العذاب أيضاً!. . . آه! ما أجمل أن يكون المرء قوياً ما أجمل أن يتعذب المرء عندما يكون قوياً!. . .).

وقصة (جان كرستوف) تقع في عشرة أجزاء، وهي في نظر الناقد أندريه بي أقرب إلى أن تكون ترجمة لشخصية خيالية من أن تكون قصة؛ وهي - كسائر أعمال رومان رولان - تفيض بالضمير الحر والحب النبيل والموسيقى الرائعة

وليس إعجاب رومان رولان ببتهوفن قاصراً على كونه نموذجاً للبطل الذي ينشده مما دفعه لأن يرسم شخصية (جان كرستوف) ماثلة له، بل أيضاً لأنه (إمام الموسيقيين)، و (الموسيقى الآلهية) عند رولان كأبطاله بمثابة (الضوء الذي ينير حياته) ولقد رأينا كيف كان له الفضل في إدخال مادة (تاريخ الموسيقى) في السوربون حين عين أستاذاً فيها. كما أنه كتب فضلا عن دراسته الخالدة عن بتهوفن عدة دراسات أخرى في الموسيقى. منها ` (1908) و ` ` (1908) و (1915) ذلك أن رومان رولان يرى - ككاتب أخلاقي - أن الموسيقى خير مهذب للنفوس المريضة، وأعظم حافز للعواطف الخامدة، كما أن الموسيقيّ العبقري يستطيع أن يجعل موسيقاه خير تعبير عن روح العصر وآماله وظروفه الملموسة.

(البقية في العدد القادم)

علي كامل