مجلة الرسالة/العدد 96/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 96 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 06 - 05 - 1935 |
كتاب المواقف والمخاطبات للنفري
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
الأستاذ نيكلسون أستاذ الأدب العربي بجامعة كمبردج، أحد العلماء الأوربيين الذين عنوا بدراسة التصوف الإسلامي، وبلغوا في درسه والعلم بتاريخه درجة عالية
وللأستاذ نيكلسون أياد مشكورة في ترجمة كتب التصوف الفارسية والعربية إلى الإنكليزية، ونشر نصوصها، والكتابة في كثير من مباحث التصوف. وأعظم مآثره في ذلك ترجمته الكتاب الخالد، كتاب المثنوي إلى الانكليزية، ونشره الاصل الفارسي في طبعة مرتبة مصححة، لا تقاس بها طبعة أخرى؛ ولا ريب أن الأستاذ بعد اليوم من أئمة هذا الشأن في المشرق والمغرب
- 2 -
وللأستاذ نيكلسون تلاميذ نهجوا نهجه واقتفوا أثره في العناية بالتصوف الإسلامي، والاهتمام بأحياء كتبه ونشرها
ومنهم صديقنا النابغة العلامة اربري الذي سعدنا بصحبته حينا في كلية الآداب، ثم شقينا بفراقه هذا العام، إذ ولى منصب في المكتبة الهندية بلندن
وكان صديقنا اربري، زمان إقامته بالقاهرة، دائب البحث عن المخطوطات الصوفية، يواصل الجهد في تصحيحها ومقابلة بعضها ببعض، ونسخها بخطه العربي الجميل، وقد يسر له أن يجمع جملة نادرة من رسائل التصوف وكتبه، منها: رسائل المحاسبي والسلمي من متقدمي الصوفية
ثم بدأ ينشر ما جمعه وصححه، فطبع في القاهرة كتابي المواقف والمخاطبات اللذين نكتب عنهما اليوم، وترجمهما إلى الإنكليزية، ثم نشر الأصل والترجمة في كتاب واحد، وكتب له مقدمة نفيسة
- 3 - محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، أحد صوفية القرن الرابع الهجري، توفي سنة 354 أو بعدها بقليل. وينسب إلى قرية نفر إحدى قرى العراق، وهي مدينة نبور البابلية القديمة
ويقال إن أبا الشيخ كان جوالا في البراري لا يستقر في مكان، ولا يسكن إلى إنسان، وأنه توفي بإحدى قرى مصر
ولم ينبه ذكر الشيخ بين رجال الصوفية، ولم تذع كتبه بين الناس. وقد ذكره محي الدين بن العربي في كتاب الفتوحات، والشعراني في الطبقات الكبرى، ولكن المأثور من أخباره قليل
وللشيخ النفري كلمات في التصوف، طائفة منها تبدأ بقوله: أوقفني على كذا، والأخرى تبدأ بقوله: خاطبني. وقد جمع ابن بنته كلماته في كتابي المواقف والمخاطبات اللذين نشرهما صديقنا العلامة اربري
وخير تعريف للكتابين أن اعرض على القارئ بعض كلماتهما، فهذه شذرات من المواقف، وفي العدد الآتي ننقل شذرات من المخاطبات
وسيرى القارئ إن هذا الكتاب بدع من كتب التصوف، وأنه من الأدب الصوفي الذي لا يعرف نظيره:
موقف العز
أوقفني في العز وقال لي:: لا يتسقل به من دوني شيء، ولا صلح من دوني لشيء، وأنا العزيز الذي لا يستطاع مجاورته، ولا ترام مداومته. أظهرت الظاهر وأنا اظهر منه، فما يدركني قربه، ولا يهتدي إلى وجوده. وأخفيت الباطن وأنا أخفى منه، فما يقوم عليّ دليله، ولا يصبح إليّ سبيله
وقال لي: أنا اقرب إلى كل شيء من معرفته بنفسه، فما تجاوزه إليّ معرفة، ولا يعرفني أين تعرفت إليه نفسه
وقال لي: لولاي ما أبصرت العيون مناظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها.
وقال لي: لو أبديت لغة العز لخطفت الإفهام خطف المناجل، ودرست المعارف درس الرمال عصفت عليها الرياح العواصف وقال لي: لو نطق ناطق العز لصمتت نواطق كل وصف، ورجعت إلى العدم مبالغ كل حرف
وقال لي: إن من اعد معارفه للقائي لو أبديت له لسان الجبروت، لأنكر ما عرف، ولمار مور السماء يوم تمور مورا
. . . وقال لي: طائفة أهل السماوات وأهل الأرض في ذل الحصر. ولي عبيد لا تسعهم طبقات السماء، وتقل أفئدتهم جوانب الأرض. أشهدت مناظر قلوبهم أنوار عزتي فما أتت على شيء إلا أحرقته. فلا لها منظر في السماء فتثبته، ولا مرجع إلى الأرض فتقر فيه. الخ
موقف البحر
أوقفني في البحر، فرأيت المراكب تغرق، والألواح تسلم، ثم غرقت الألواح
وقال لي: لا يسلم من ركب
وقال لي: خاطر من ألقى بنفسه ولم يركب
وقال لي: هلك من ركب وما خاطر
وقال لي: في المخاطرة جزء من النجاة
وجاء الموج فرفع ما تحته وساح على الساحل
وقال لي: ظاهر البحر ضوء لا يبلغ؛ وقعره ظلمة لاتمكن، وبينهما حيتان لا تستأمن
وقال لي: لا تركب البحر فأحجبك بالالة، ولاتلق نفسك فيه فأحجبك فيه
. . . وقال لي: الدنيا لمن صرفته عنها، وصرفها عنه، والآخرة لمن أقبلت بها عليه وأقبلت به علي
موقف المطلع
أوقفني في المطلع وقال لي: أين اطلعت رأيت الحد جهرة، ورأيتني بظهر الغيب
وقال لي: إذا كنت عندي رأيت الضدين والذي أشهدتهما فلم يأخذك الباطل ولم يفتك الحق
وقال لي: الباطل يستعير الالسنة، ولا يوردها موردها. كالسهم تستعيره ولا تصيب به
وقال لي: الحق لا يستعير لسانا من غيره وقال لي: إذا بدت أعلام الغيرة ظهرت أعلام التحقيق
. . . وقال لي: يا عالم اجعل بينك وبين الجاهل فرقا من العمل وإلا غلبك. واجعل بينك وبين العلم فرقا من المعرفة وإلا اجتذبك
وقال لي: اليقين طريقي الذي لا يصل سالك إلا منه
وقال لي: من علامات اليقين الثبات. ومن علامات الثبات الأمن في الروع
وقال لي: إن أردت لي كل شيء علمتك علماً لا يستطيعه الكون، وتعرفت إليك معرفة لا يستطيعها الكون
وقال لي: يا عارف أرى عندك قوتي، ولا أرى عندك نصرتي. أفتتخذ إلهاً غيري؟
وقال لي: يا عارف أرى عندك حكمتي، ولا أرى عندك خشيتي. أفهزئت بي؟
وقال لي: يا عارف أرى عندك دلالي ولا أراك في محجتي
وقال لي: من لم يفر إلى لم يصل إلى. ومن لم أتعرف إليه لم يفر إلي
وقال لي: إن ذهب قلبك عني لم أنظر إلى عملك
وقال لي: إن لم أنظر إلى عملك طالبتك بعلمك. وإن طالبتك بعلمك لم توفي بعملك
وقال لي: من عبدني وهو يريد وجهي دام، ومن عبدني من أجل خوفي فتر، ومن عبدني من أجل رغبته أنقطع
وقال لي: العلماء ثلاثة، فعالم هداه في قلبه، وعالم هداه في سمعته، وعالم هداه في تعلمه
وقال لي: القراء ثلاثة فقارئ عرف الكل، وقارئ عرف النصف، وقارئ عرف الدرس
وقال لي: الكل الظاهر والباطن، والنصف الظاهر، والدرس التلاوة
وقال لي: إذا تكلم العارف والجاهل بحكمة واحدة، فاتبع إشارة العارف؛ وليس لك من الجاهل إلا لفظه
موقف الموت
أوقفني في الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات. ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء، ورأيت الغني قد صار نارا ولحق بالنار. ورأيت الفقر خصما يحتج، ورأيت كل شئ لا يقدر على شئ. ورأيت الملك غروراً. ورأيت الملكوت خداعا. وناديت يا علم فلم يجبني. وناديت يا معرفة فلم تجبني. ورأيت كل شيء قد أسلمني، ورأيت كل خليقة قد هربت مني. وبقيت وحدي. وجاءني العمل فرأيت فيه الوهم الخفي والخفي الغابر. فما نفعني إلا رحمة ربي. وقال لي أين عملك؟ فرأيت النار
وقال لي: أين عملك؟ فرأيت النار
وقال لي: أين معرفتك؟ فرأيت النار، وكشف لي عن معارفه الفردانية فخمدت النار
وقال لي: أنا وليك فثبت
وقال لي: أنا معرفتك فنطقت
وقال لي: أنا طالبك فخرجت
عبد الوهاب عزام