الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 958/إلي أخي في الجنوب

مجلة الرسالة/العدد 958/إلي أخي في الجنوب

مجلة الرسالة - العدد 958
إلي أخي في الجنوب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 11 - 1951


للأستاذ أنور المعداوي

(يا أخي؛ يا أخي في الله والدين والوطن. . إن الأرض التي جمعت بين قلبي وقلبك لتجمع بين جراح وجراح، وإن النيل الذي ربط بين روحي وروحك ليربط بين كفاح وكفاح. . أنا هنا وأنت هناك؛ ويا بعد الشقة في منطق الظلم البغيض ويا قربها في منطق الحب المتغلغل بين طوايا الوجدان. . نحن يا أخي في ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة!

من الحق أن ننعت بالإنجليز بأهم مثاليون في بلادهم؛ مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق وموازين الضمير. . ومن الحق أيضاً أن ننعتهم بأنهم مثاليون في غير بلادهم؛ مثاليون في الأنانية والجشع، وضيعة الضمير والخلق، وانحطاط الشعور والإنسانية، وانتفاء العدل والإنصاف. . وتلك هي العناوين الضخمة التي يسطر تحتها التاريخ كلماته الخالدة، حين يعرض للحكم البريطاني في كل أرض سكنها الأحرار في كل زمان ومكان!

يا أخي، يا أخي في الله والدين والوطن. . إن الأنشودة الرائعة التي بدأناها في شمال الوادي، أنشودة الجهاد التي انطلقت من قيثارة الأحرار، قد أذن الله أن ترسل أنغامها في جنوبه، وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . ولكن أنغامنا ستظل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن، ولكن نارنا ستظل إلى الأبد تضيء الطريق للحائرين، ولكن ذكرانا ستظل إلى الأبد قصة تروى وعطرا يفوح!

ولا علينا يا أخي من تلك القيود. . إن معدنها الرخيص سيذوب يوما تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع! ألا ليت الطغاة قد جعلوا شعار حكمهم هذه الكلمات التي انطلقت من أعماق بطل الحرية إبراهام لنكولن: (إن ضوء الشمس لا يفرق في يد الله بين أحرار وعبيد، فلم يفرق ضوء الحرية في أيدينا بين أنصار وخصوم)؟!

ومع ذلك فسنمضي اليوم وغدا جنبا إلى جنب، وقلبا إلى قلب، وعيوننا أبدا إلى الأفق البعيد)!

هذه كلمات وجهتها بالأمس على صفحات الرسالة، إلى كل سوادني كريم على نفسه وكريم على وطنه؛ كل سوداني أنزله من نفسي منزلة الود الخالص والأخوة المتسامية، الأخوة التي استروحت أنسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد. . واليوم ومعاول الاستعمار تحاول أن تهدم صرح الوحدة المقدسة، يطيب لهذا القلم أن يقطف من روضة الشعور تلك الكلمات، أو تلك الزهرات التي يدعو الله مخلصا أن يتضرع منها العبير ويعبق الأرج؛ عبير الوطنية المتدفقة وأريج الوفاء الخالد، هناك في أقصى الجنوب حيث تخفق للدعاء قلوب وقلوب. .

إن الشمل لن يتفرق، وإن البناء لن يتصدع، ما دامت هذه القطرات الأبية من الدم المسفوك على ضفاف القناة وفوق ثرى الخرطوم، قد ألقت على الطغاة أروع الدروس في التضحَية والبذل والفداء، وأقلقت منهم المضاجع وهي سارية في العروق وهي جارية على الأرض، وهي في حركة الحياة الطليقة وهي في سكون العدم. . وحسبها من قداسة الوحدة أن يثيرها هناك عدو واحد، وأن يريقها هنا سلاح واحد، وأن ترتد في نهاية المطاف إلى موضعها من هذا الثرى الحبيب!

يا أخي في الجنوب، يا أخي في الله والدين والوطن. . بيننا وبينك هذه الكلمات، أو بيننا وبينك هذه الأبيات، إنها لشاعر لم يعرف في حياته غير الصدق والوفاء، حين يكون الصدق مترجما عن خفقة القلب، وحين يكون الوفاء معبرا عن يقظة الضمير. . ولقد أهداها إليك بالأمس وما أشبهه باليوم، حين مضت طلائع المرجفين تبذر بذور الفرقة بين الصفوف وتترك كلمة الله لتتبع خطوات الشيطان. . إن على محمود طه لا يزال يرفع صوته من وراء الأبد، ليقدم إليك لوعة الشعر في محنة الشعور:

أخي! إن وردت النيل قبل ورودي ... فحي ذمامي عنده وعهودي

وقبل ثرى فيه امتزاجنا أبوة ... ونسلمه لابن لنا وحفيد

أخي! إن أذان الفجر لبيت صوته ... سمعت لتكبيري ووقع سجودي

وما صغت قولا أو هتفت بآية ... خلا منطقي من لفظها وقصيدي

أخي! إن حواك الصبح ريان مشرقا ... أفقت على يوم أغر سعيد

أخي! إن طواك الليل سهمان سادرا ... نبا فيه جنبي واستحال رقودي

أخي! إن شربت الماء صفوا فقد زكت ... خمائل جناتي وطاب حصيدي

أخي! إن جفاك النهر أو جف نبعه ... مشى الموت في زهري وقصف عودي فكيف تلاحيني وألحاك. . إنني ... شهيدك في هذا. . وأنت شهيدي!

حياتك في الوادي حياتي، فإنما ... وجودك في هذي الحياة وجودي

أخي! إن نزلت الشاطئين فسلهما ... متى فصلا ما بيننا بحدود؟

رماني نذير السوء فيك بنبأة ... فجلل بالأحزان ليلة عيدي

وغامت سمائي بعد صفو وأخرست ... مزاهر أحلامي ومات نشيدي

غداة تمنى المستبد فراقنا ... على أرض آباء لنا وجدود

وزف لنا زيف الأماني علالة ... لعل بنا حب السيادة يودي

أخوتنا فوق الذي مان وادعى ... وما بيننا من سيد ومسود!

إذ قال (الاستقلال) فاحذره ناصبا ... فخاخ (احتلال) كالدهور أبيد

وكم قبل مناني على وفر ما جنى ... بحربين، من زرعي وضرع وليدي

فلما أتاه النصر هاجته شرة ... فهم بنكراني ورام جحودي

ألا سله، ماذا بعد سبعين حجة ... أأنجز موعودي؟ أفك قيودي؟

يبدلني قيدا بقيد كأنه ... مدى الدهر فيها مبدئي ومعيدي

أخي! وكلانا في الإسار مكبل ... نجر على الأشواك ثقل حديد

إذا لم تحررنا من الضيم وحدة ... ذهبنا بشمل في الحياة بديد

وما مصر والسودان إلا قضية ... موحدة في غاية وجهود

سئمنا هتاف الخادعين بعالم ... جديد، ولما يأتنا بجديد

وجفت حشاشات وعدن بمائه ... فلما دنا ألفت سراب وعود

وطال ارتقاب الساغبين لناره ... على عاصف يرمي الدجى بجليد

إذا يدنا لم تذك نار حياتنا ... فلا ترج دفئا من وميض رعود

إذا يدنا لم تحم نبع حياتنا ... سرى ربه سما بكل وريد

سيجربه ما شاءت مطامع قومه ... ويحبسه ما شاء خلف سدود

وكيف ينام المضعفون وحولهم ... ظماء نسور أو جياع أسود؟

أخي! هل شهدت النيل غضبان ثائرا ... يرج من الشطئان كل مشيد!

جرى من مصبيه شواظا لنبعه ... على نفثات من دم وصديد وجنات نخل واجمات كواسف ... وأسراب طير في الفلاة شريد

لدى نبأ قد ريع من حمله الصدى ... وضج له الموتى وراء لحود

جنوبك فيه والشمال تفزعا ... لتشتيت أهل وانقسام صعيد

أحال ضياء الصبح حولي ظلمة ... بها الحزن إلفى والهناء فقيدي

وسعر أنفاسي فأطلقت نارها ... على الظالم الجبار صوت وعيد

أرادك مفصوم العرى وأرادني ... بهدم إخاء كالجبال مشيد

ليأكلنا من بعد شلوا ممزقا ... كطير جريح في الشباك جهيد

يحايل شيطان الأساليب لم يدع ... مجالا لشيطان بهن مريد

على النيل يا ابن النيل أطلق شراعنا ... وقل للياليه الهنية عودي

وأرسل على الوادي حمائم أيكه ... برنة ولهي أو شكاة عميد

وقل يا عروس النبع هاتي من الجنى ... ودوري علينا بالرحيق وجودي

وهبي عذارى النخل فرعاء وارقصي ... بخضر أكاليل وخمر عقود

ألا يا أخي واملأ كؤوس محبة ... مقدسة موعودة بخلود

إذا هي هانت فانع للشمس نورها ... وللقمر الساري بروج سعود

وقل يا سماء النيل ويحك أقلعي ... ويا أرض بالشم الرواسخ ميدي

وغيضي عيون الماء أو فتفجري ... لظى، وإن اسطعت المزيد فزيدي!

يا رحمة الله للشاعر الخالد، أنه في معركة الحرية لا يزال يسمعنا صوته وهو في عالم الفناء. . واليوم حين تبلغ المعركة أوجها يتخلف عن الإنشاد شعراؤنا الأحياء!!

أنور المعداوي