الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 957/المسرح والسينما

مجلة الرسالة/العدد 957/المسرح والسينما

بتاريخ: 05 - 11 - 1951


نقد مسرحية

مسمار جحا

للأستاذ أنور فتح الله

افتتحت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها التمثيلي هذا العام بمسرحية (مسمار جحا). واختيار هذه المسرحية يعد نقطة تحول في اتجاه هذه الفرقة، فقد بدأت تتجه نحو المسرحية التي تستجيب لواقع الحياة المصرية، فتعالج مشاكلها، وتصور آمالها وآلامها

فالمسرحية تدور حول قضية البلد الأولى. . . قضية الحرية والاستقلال. وقد اختار المؤلف جواً أسطورياً ليبرز فيه الموضوع، ولجأ إلى الرمز للقضية المصرية، بقضية (مسمار جحا) الساخرة ليعبر بلسانها عن آلام المجتمع وأمانيه، وليبين بمنطقها القوى الساخر وجه الحق ووجه الباطل في قضية الحمل والذئب

ولم يتخير المؤلف شخصية معينة لجحا. . بل اختار شخصية خيالية ليتحرر من النطاق التاريخي الضيق. ومع هذا فإن شخصية جحا التركي كانت أقوى الشخصيات الجحوية تأثير عليه

ويجدر بنا - قبل أن نعرض للمسرحية - أن نبادر فنسجل للأستاذ باكثير فضل السبق في إبراز شخصية جحا الساخرة في عمل فني. وكذلك نسجل له توفقيه في اختيار الموضوع الحي الذي تتحرك فيه هذه الشخصية، وبهذا توافر له ما لم يتوافر من عوامل النجاح، وهو الشخصية الروائية المحبوبة من الشعب، والموضوع الحي الذي يشغل الأذهان، وخاصة في هذه الأيام

والمسرحية تصور حياة جحا من جانبين: الجانب العام، والجانب الخاص

أما الجانب العام، فيصور الصراع بين جحا والشعب من ناحية، وبين المستعمر ممثلاً في الوالي والحاكم من ناحية أخرى. وأحداث المسرحية الرئيسية تسير في هذا الخط لتحقيق الغرض الأول الذي يهدف إليه المؤلف؛ وهو علاج القضية التي تتصل بصميم الواقع المص أما الجانب الخاص، فيصور الصراع بين جحا وامرأته، ومن وراء جحا ابنته ميمونة، وابن أخيه حماد. وتسير أحداث هذا الخط لتحقيق الغرض الثاني من المسرحية، وهو تصوير الجانب الإنساني في حياة جحا. ويبدو لنا أن المؤلف قد اعتمد على هذا الجانب ليستغل هذه الشخصية المرحة الساخرة في أثار الضحك وسنستعرض المسرحية، ونتتبع المؤلف في هذين الخطين لنرى إلى أي حد وصل إلى تحقيق غرضه

. . . ففي مدينة الكوفة. . . نرى (جحا) يعظ الناس أمام أحد المساجد. . وعندما يتبين للوالي أنه يبصر الناس بما هم فيه من بؤس، يغزله من عمله. . ويعود جحا إلى داره خائفاً من زوجته السفيهة. . . السليطة اللسان. . فيقابله ابن أخيه حماد ويشير عليه بأن يعمل في زراعة الأرض، وعندما يوافق جحا على ذلك، يسمع دق الطبول. . . وإذا بالجراد قد سندت أرجاله الأفق. . . وأني على زرع البلاد!

. . . ويثور الفلاحون على الملاك، ويقود حماد الثورة، ويفاوض جحا الحاكم المستعمر، فيخلص الثوار من ظلم الملاك، ويعينه الحاكم قاضياً لقضاة بغداد. . ونرى زوجته (أم الغصن) وقد صارت أخلاقها أسوأ مما كانت، وأفسدها البطر، وقد جمعت الخاطبات لابنتها عن زوج ثرى. . . ويأتي حماد، فيخبره جحا بأنه قد عزم على أن يقوم بعمل خطير من شأنه أن يجلى المستعمر عن البلاد، وذلك بأن يهيئ السبيل لتعرض أمامه قضية تشبه قضية البلاد، فيشغل بها الرأي العام، ثم يفصل فيها بما يبطل حجة الغاصب الدخيل، ويتفقان على أن يهب جحا داره لحماد، فيبيع حماد الدار، ويشترط على مشتريها أن يبقى له حق التمتع بمسار في جدارها!. . . .

وتعرض على جحا قضية المسمار، ويشهد الحاكم الأجنبي المحاكمة. . . ويثور الشعب على صاحب المسمار، وينتصر لصاحب الدار فيصبح حماد في الناس قائلاً (ويلكم، ترون المسمار الصغير، ولا ترون المسمار الكبير!. هذا صاحبه فيكم، مروه بنزعه أو فانزعوه بأيديكم!.) وهنا، يأمر الحاكم بالقبض على حجا، ويفر حماد

. . . . ويذهب الحاكم إلى السجن، ليطلب من جحا إخماد الثورة، ودعوة الشعب إلى السكينة، فيطلب منه جحا أن يجلو وجنوده من البلاد، فيأتي الحاكم. . .

وتشتد ثورة الشعب، فيضطر المستعمر إلى الجلاء، ويخرج جحا من السجن، ويزوج ابنته من حماد، رغم أنف امرأته

هذا هو الخط الرئيسي للأحداث الذي يصور الصراع الأول في المسرحية

ويتتبع هذا الخط نرى أن المؤلف قد أذاع سر مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار، وبهذا قضى على عنصر التشويق في أهم أحداث المسرحية. فأضاع الأثر القوي لهذا المشهد الذي يرمز لقضية البلاد

كذلك أخمد دخول امرأة جحا في مشهد القضية من حرارة الأثر النفسي، فأبطل فعل الأحداث السابقة لدخولها، وحول انتباه المشاهد عن قضية المسمار، وهي قضية، إلى شكوى أم الغصن من زوجها، فقضى المؤلف بهذا على التركيز الذي يجب أن يوجه انتباه المشاهد إلى القضية

ولقد كان مشهد مقابلة الحاكم لجحا في السجن طويلاً، فطال بذلك حديثهما عن الجلاء حتى أصبح الحوار مباشراً بعد أن كان رمزياً إلى النغمة الخطابية، فقد بذلك الضباب الذي يكسو العبارات الرمزية التي تلمح للواقع فتجذب انتباه المشاهد ليتبين نفسه من وراء هذا النقاب الخفيف

هذا. . وبخروج جحا من السجن، بعد أن جلا المستعمر عن البلاد، تنتهي الأحداث الرئيسية للمسرحية، وبذلك تنتهي المسرحية دراماتيكيا. ولهذا فلا تأثير للأحداث اللاحقة. وكان من الخير أن تنتهي المسرحية في نهاية المنظر الخامس، وذلك لأن الحركة في المنظر السادس بد بطيئة مملة لانعدام ما يشوق المشاهد أو يجذبه

. . . أما الخط الثاني، الذي يصور الصراع بين جحا وامرأته، والذي أراد المؤلف من ورائه أن يثير الضحك فيتلخص في إبراز سفاهة أم الغصن وشراستها في معاملة جحا، وكراهيتها لحماد، واستعانتها بالخاطبات ليبحثن لابنتها عن زوج ثري. وقد استنفذ إبراز هذه النواحي جزاءا كبيراً من المنظر الثاني، والثالث، والرابع، والمنظر السادس بأكمله تقريباً. وقد أدى هذا التكرار في تصوير اللون الواحد في هذه المناظر إلى ركود الحركة المسرحية، وانعدام التأثير على المشاهد، فبدت هذه الأجزاء مملة إلى حد الضيق. وقد خلا أغلب هذه الأجزاء من المفارقات الطبيعية التي تشيع المرح وتثير الضحك، وذلك لأن المؤلف اقتصر على تصوير الشجار بين جحا وامرأته، وتكرار هذا الشجار في صورة واحدة تقوم على الشتائم من ناحية أم الغصن، وردود جحا الفلسفية من الناحية الأخرى

أما شخصية ابن جحا (الغصن) فقد خلقها المؤلف ليثير الضحك أيضاً، وأورد على لسانها بعض نوادر جحا المعروفة، كترغيبه الخاطبات في أخته بقوله إنها حامل في شهرها السادس. . . وقد أبرزه المؤلف أبله في أقواله وأفعاله واقتصر على إبراز هذا اللون الواحد في كل مشهد ظهر فيه، فهو يبحث عن ديكه، ثم يتخيل أنه ذبح فيبكيه، وهو ينقلب ديكاً وبهذا، التكرار أبطل المؤلف الأثر الذي أراده لهذه الشخصية وهو إثارة الضحك

أما النوادر التي أوردها المؤلف على لسان جحا وابنه، والتي استعارها من نوادر جحا التركي. فقد وقف في وضع بعضها في الأحداث التي تجعل لها دلالة واقعية لقضية المسمار، وخطبة اليد، وحديثه عن الجمال، أما قصة القدور، وانقلاب الغصن ديكا، وغير ذلك من النوادر التي فقدت تأثيرها الضاحك لأنها أصبحت (قديمة) بالنسبة للشعب؛ فكنا نرجو أن يستبدلها المؤلف بنوادر أخرى من خلقة تتصل بالأحداث وتسخر من بعض أمراضنا الاجتماعية

وبعد. فقد دفعنا تقديرنا وإعجابنا بهذه المسرحية أن نعدد مآخذها وهي قليلة بالنسبة لمحاسنها. . . وأغلبها يقع في الخط الذي يصور الصراع الثانوي. . أما الخط الذي يصور الصراع الرئيسي فقد كان أغلبه كاملاً من حيث البناء، وإنا لنحمد للمؤلف اتجاهه القومي في عمله الفني. . . .

وقد قام بإخراج هذه المسرحية الأستاذ زكي طليمات. . . وسار في إخراجه على المذهب الإيحائي الذي اتجه إليه في السنوات الأخيرة. . . فكان موافقاً في خلق الإطار المادي. . . وبرزت رمزيته في منظر السجن القائم، الرهيب. . . وقد نجح في تحريك المجموعة، وأحسن استغلالها في إحياء الجو النفسي وخاصة في منظر المحكمة

. . . وقام الأستاذ سعيد أبو بكر بدور (جحا). . . فاستطاع بفهمه العميق لهذه الشخصي، وأدائه الطبيعي، أن يصور الألوان العاطفية المختلفة التي رسمها المؤلف. . . . وقام الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني بدور الحاكم المستعمر فأفصح بحركاته الهادئة الرصينة عن غطرسة الغاصب وتبلد إحساسه وموت ضميره. . . وعبر بعبارته القوية العميقة عن منطق الظالم الذي يصم أذنه عن سماع صوت الحق القوي. . . وقام الأستاذ عبد المنعم إبراهيم بدور (الغصن)، فبعث الحياة هذه الشخصية الخفيفة، واستطاع تجسيم خطوطها الدقيقة بأدائه الطبيعي

أنور فتح الله