مجلة الرسالة/العدد 955/أبو الثناء الألوسي الكبير
→ في الأدب المفارق: | مجلة الرسالة - العدد 955 أبو الثناء الألوسي الكبير [[مؤلف:|]] |
صالح علي شرنوبي ← |
بتاريخ: 22 - 10 - 1951 |
بمناسبة مرور مائة عام على وفاته
للأستاذ محمود العبطة
- 3 -
عزلة من الإفناء:
بعد سنين حافلة بجليل الأعمال، يانعة بنهضة العلم وتقدم الأدب ورقي المعارف، يرعاها الألوسي الكبير بعلمه الوافر وأدبه الثر، وشخصه اللامع. . . بعد هذه السنين التي هي بمثابة ضوء لامع ساطع يمده شهاب الدين الألوسي بالقوة والحياة، في تلك السنين المظلمة المعتمة، وبعد تلك السنين الخصبة صدرت إرادة الخليفة العثماني بنقل الوالي المصلح علي رضا من ولاية بغداد وتعيين الوالي نجيب باشا مكانه (كانت ولايته عام 1842م) ولم يكن الوالي الجديد يقل عن الوالي القديم حبا للإصلاح وإيثارا للأمن والسلام، وإن كان يفرق عنه في إيثار القوة حين ينقع العقل، والتصرف الصحيح، ويفرق عنه أيضا في عنجهيته وكبريائه، وعذره في الخيلاء والكبرياء أنه من بيت السلاطين، ويجري في عروقه الدم الملوكي! وكما كانت بداية علي رضا دليل شؤم ونحس على الألوسي، إذ سجن فيها وعذب، فقد كانت نهاية ولايته دليل شؤم ونحس على الألوسي بالذات وعلى (بغداد) التي وجدت فيه خير باعث لاسمها ومجدها أخيرا. . جاء محمد نجيب للولاية، ولم يكن يعلم حالة أهلها وما هم عليه من تحزب وشقاق، وحسد ونفاق، وبعد أن استقر به المقام وتسلم زمام الولاية، تحركت جيوش البغي والنفاق، التي أخرسها عدل علي رضا، إذ تمكن أعداء الألوسي الكبير أن يفهموا الوالي الجبار أن مفتي بغداد يكره ويكيد له، وأثر ما تمكن هذا القول من قلب الوالي، تجمع الأعداء وعددهم أكثر من مائتين تبعهم جمع كبير من السوقة والرعاع ثم قصدوا قصر الوالي نجيب الواقع في خارج بغداد القديمة وعلى شاطئ دجلة. وعندما قربت الجموع من قصر الوالي اندهش مما رأى وقال في سره إن ثورة حدثت، أو انقلابا يهدد ولايته وخليفته بالويل والثبور، وعندما استطلع الخبر أخبره زعماء المظاهرة أن سبب البلاء ورأس الفتنة هو أبو الثناء الألوسي مفتي الحنفية الذي يشاركه فيها واعظ الجيلي، وأن من الخير وقطعا لدابر الفساد عزل المفتي الألوسي من الفتوى ونفي الواعظ إلى مدينة البصرة! فأجاب الوالي طلب المتظاهرين وأصدر حالا أمره بعزل الألوسي من الإفتاء، وذلك عام 1263هـ وقد سبقت هذه الحادثة، حادثة أخرى تصور درجة حقد الوالي على اللألوسي ودرجة لؤمه أيضا، وتلك الحادثة الأخرى هي أن كتابا ورد اللألوسي المفتي من قصر السلطان في الآستانة، يطلب فيه رجال القصر حضور مفتي بغداد إلى العاصمة العثمانية للاشتراك في ختان أبناء السلطان عبد المجيد؛ فطلب الوالي من المفتي الاعتذار عن حضور الختان، فأجاب المفتي اللألوسي طلب وأرسل رسالة يعتذر فيها عن الاشتراك في الحفلة والوالي الذي يطلب من الألوسي عن السفر يقوم بدور الثعلب المراوغ فيرسل إلى القصر العثماني رسالة يتقول فيها ما يشاء ويتهم الألوسي بأنه لم يحضر الحفلة إلا كبرياء واحتقارا!
ومهما كان السبب فقد عزل الألوسي من الإفتاء، وانصرف بكليته إلى إتمام تفسيره وتعليم تلاميذه ومنادمة خلانه. وقد قابل أمر العزل برباطة جأش معهودة فيه بكل أطوار حياته مترقبا الأيام، وتقلب الأحوال. . كل هذا والوالي يتحين الفرص للقضاء عليه، والفتك به، ولما لم يجد سبيلا لذلك فقد قطع عليه مصدر رزقه الوحيد، وهو ما تدره عليه تولية جامع مرجان من مال قليل يقتات به وأهله الكثيرون، فأصدر الوالي نجيب أمره بعزله من التولية بعد أن عزله من الإفتاء وصادر وظائفه الأخرى، وذل بعد عزله من الإفتاء بخمسة أيام مع أنه عين متوليا على جامع مرجان قبل تعيينه مفتيا على مدينة بغداد، هكذا تقول المصادر التاريخية، وقولها الصدق، ولكن للجبروت والاستبداد صولة وسلطة في عهد لم تقيد فيه سلطة الحاكمين بالقوانين والأنظمة والعرف المستقر.
وبرفع الفتوى والتولية عن الألوسي الكبير توالت النكبات عليه، وعضه الفقر بنابه حتى باع كتبه وأثاثه وحاجاته البيتية ليقتات أهله وعائلته الكبيرة بثمنها. وهو مع هذه المصائب منصرف إلى إنجاز التفسير والقيام بواجب الدراسة ومجالسة الإخوان. ويقول اللألوسي في مقاماته التي هي منبع غزير وصور صادقة لحياته وعصره، خصوصا وأنه كتبها في سنيه الأخيرة. يقول واصفا وظيفة الإفتاء وتدخل الحكام في شؤون المفتي (وقد كنت أرى أمر الإفتاء، أمر من القضاء حيث مزقت الشورى أذاك أديمه، وأسقمه أعضاء المجلس ذوو الآراء السقيمة، أعضاءه السليمة، فلم يكن يختاره إلا ذو جهالة، قد جعل والعياذ بالله تعالى دينه لدنياه حباله، وحاشاني أن أكون كذلك.) وبقي في حاجة ملحة إلى المادة، وفي قلق نفسي لا يزيله إلا مجالسة إخوان الصفاء ومدارسة التلاميذ والطلبة. وعند وصول أحمد أبن الوالي بغداد، عرض شكواه عليه، ووصف سوء حالته له، فوجد منه أذنا صاغية، وقلبا رحوما، أزال منه بعض بلواه.
ورحلته إلي الأستانة:
مضت السنة الأولى والثانية والثالثة والألوسي يتحمل ضربات القدر، بعد أن سد باب رزقه، وبعد أن لم يبق في بيته من أثاث وأشياء ما يباع، حتى كاد - على ما يقول أن يأكل الحصير على مداد التفسير، وقد وجد - وهو الخبير بتقلب الأحوال وطباع الناس - أن خير مخرج له هو أن يشد الرحال إلى العاصمة العثمانية: خصوصا وحالته المعاشية تزداد في الهبوط، إذ لا مصدر للرزق له، ثم إن دروسه التي يلقيها في بيته تلقى مجانا على سنة علماء بغداد. . عزم الألوسي على السفر إلى أستا نبول، ليعرض شكا يته إلى أولي الأمر، ويرفع ما بقلوبهم من كراهية وحقد. فشد رحاله في غرة جمادى الثانية عام 1267هـ (1845م) وكان معه في قافلته المؤرخ سليمان والوالي عبد الكريم ومصطفى الربعي وإقبال الدولة الهندي. . تحركت القافلة ضحى جمادى، تحمل كبار القوم ومعهم الألوسي وولد عبد الباقي، وكان لسان حاله يردد قول الأمير الحميري:
ففيم الإقامة في بلدة ... تناكرني بعد عرفانها
سارت القافلة على بركة الله فوصلت الموصل فجزيرة أبن عمر فديار بكر حتى وصلت سامون ومنها ركب الألوسي إلى القسطنطينية. وصل المدينة التي كان يحلم بها والتي كانت المركز العصبي للدولة الواسعة وكانت استنبول في عهده عروس الشرق الأوسط لأن الأموال تجبى من أطراف المملكة لكي تسعد هذه المدينة وتتزين! فأتصل بشيخ الإسلام عارف حكمت الحسيني وقدم له التفسير فقابله الشيخ ببرودة غير معهودة، وأخيرا تمكن الألوسي من إقناعه وإزالة ما في صدره من أقاويل، وجرت بين شيخ الإسلام والمفتي السابق مناضرات ومباحث دلت على سعة اطلاعهما، أعانه شيخ الإسلام للنزول بدار الضيافة في القصر، إذ قدم مذكرة إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) ضمنها مطالبة وشكواه وأردف بهما بيتين من الشعر ضمن بها شطرا لأبي فراس الحمداني:
قصدت من الزوراء صدرا معظما ... وقد سامني ضر وقد ساء ني دهر
فقلت لنفسي والرجاء موقر ... (لنا الصدر دون العالمين أو القبر)
وبعد دراسة المذكرة صدرت إرادة سلطانية بتوجيه رتبة قضاء (أرضروم) له مع إعطاء هدية مالية عظيمة وبقي في العاصمة أشهرا مكرما محاطا بالإجلاء ثم أراد العودة إلى الوطن معتذرا من شيخ الإسلام الذي اقترح عليه الإقامة في العاصمة فتوجه إلى بغداد في 21 شوال عام 1268هـ ومعه في القافلة والي بغداد الجديد رشيد باشا الذي جعله ساعده الأيمن في بغداد، ثم وصلها في 15 من ربيع الأول عام 1268هـ وحين الوصول أجرى له استقبال عظيم من قبل إخوانه، ومدة غيابه في الرحلة الميمونة تقرب السنتين.
والألوسي في أيام الأخيرة:
رجع الألوسي إلى بغداد بعد رحلة طويلة شاقة، ورجع إلى عادته القديمة يحاضر دروسه في بيته وينادم أصحابه وقد يتردد إلى قصر الوالي الذي كان يستعين به، والألوسي قد شاهد في حله في بغداد وترحاله إلى جزء مهم من الدولة العثمانية، وشاهد الانهيار الروحي والمعنوي في الدولة، فأراد أن يبعث الروح الإسلامية حية يقظة تكون مستعدة حيت اعتداء الغربيين على دول المسلمين فألف رسالة مهمة في (الجهاد) وشرح كتبا أخرى قد ألفها قبلا وكأنه كان يعلم بدنو أجله فأراد أن يهدى إلى الأجيال المقبلة تاريخا مفصلا لحياته ولعصره فكتب (مقامات) خالدة هي في مقدمة كتبه الأدبية، وكانت المقامة الأولى إرشادات طيبة إلى أولاده النجباء دلت على نخبة اجتماعية وحس دقيق. والألوسي مع قيامه بهذه الأعمال الجسام كان يتحمل ألم الحمى النافقة التي أصيب بها أثناء رجوعه من الرحلة إلى بغداد، إذ ابتلت جميع ثيابه، وبقى يتحمل هذا المرض الذي كان يعاوده
ز - وفاته:
وهكذا يتم الفصل الأخير من حياة الألوسي الكبير!
حياة كلها كفاح مرير، ورجولة مثلى ورعاية للأدب، وتقديس للعلم
تخدر جسم الألوسي الكبير، بعد أن نحل عظمه، وهزل لحمه، ثم ارتفعت روحه إلى خالقها وذلك في صباح 25 ذي القعدة 1270هـ، وقد شيع جثمانه تشييعا حافلا، سارت به بغداد أجمعها، وبين التأسف والتوجع دفن الألوسي في مقبرة عائلته في مقبرة الشيخ معروف الكرخي. رحم الله الألوسي الكبير!
تمت
محمود العبطة