مجلة الرسالة/العدد 954/بمناسبة ذكرى شوقي
→ على هامش النكبة | مجلة الرسالة - العدد 954 بمناسبة ذكرى شوقي [[مؤلف:|]] |
رسالة المربي ← |
بتاريخ: 15 - 10 - 1951 |
المرأة في شعر شوقي
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
شوقي قمة من القمم الشوامخ في تاريخ الأدب في العصر الحاضر، فهو من شعراء الطليعة، يضطرك بروعة بيانه وقوة عارضته واتساع أفق خياله وغزارة مادته، وما تلمس في آياته الشعرية من جزالة وسهولة، أن تضعه في مقدمة الصفوف.
وهو أقوى دليل وأكبر برهان على ما وصل إليه الأدب المصري الحديث من نهضة وتقدم، فقد جمع شوقي في شعره بين القديم والجديد في أسلوب بليغ يتمشى مع جزالة الأدب العربي القديم، والتفكير العصري والذوق الحديث، فتراه يعمد إلى الألفاظ اللغوية القديمة التي نسبها الناس وصاروا لا يستسيغونها ولا يقوون على سماعها لأنهم لا يعرفون معانيها فيبعثها في شعر يحيط فيه بما في الغرب من صور بديعة ومعان رائعة وخيالات واسعة واضحة ترضاها الحضارة الشرقية ويستسيغها الطبع الشرقي.
فقد كان يعتبر أن البعث للألفاظ الدارسة وسيلة من وسائل التجديد، وسبيلاً من السبل التي تصل بين مدنية قديمة بائدة ومدنية حديثة طارقة، يجب ألا تنقطع الصلة فيهما بين السلف والخلف، وقد كفل لهذه الألفاظ حياة جديدة بما أفاض عليها من ثوب شعري جميل جعلها تتسع لما ظنها الناس أنها لم تتسع له من الصور والأخيلة والمعاني.
وشوقي كغيره من الشعراء طرق أبواب الشعر القديم ثم زاد عليها ما استجدت به الأيام من الاجتماعيات والحوادث التي عاصرها وما أحدثت في نفسه من آثار بالغة، ومن هذه الحوادث البالغة الأهمية، الضجة التي قامت حول تحرير المرأة وإعطائها نصيباً موفوراً من الحرية التي حمل لواءها قاسم بك أمين.
وقد شارك شوقي في هذه الدعوة بنصيب لا بأس به، ولكنه كان كغيره من الشعراء والكتاب يخضع لقانون البيئة الاجتماعية الذي تفرضه على الألسنة فلا تنطق إلا بحذر، وعلى الأقلام فلا تكتب إلا بمقدار، وعلى الجوارح فلا تتحرك إلا في تلصص، وعلى القلوب فلا تنبض إلا في خوف ووجل، لأنهم كانوا يخشون أن يكون في شيء من هذا ما يثير سخط المحافظين الذين يعتبرون - في ذلك الوقت - السواد الأعظم الذي يسيطر عل الجانب الخلقي من الحياة المصرية فكان على شوقي بحكم هذه الاعتبارات، ولأنه لا يريد أن يباعد بينه وبين محبيه أو ينفر منه القلوب التي أجلسته على عرش الإمارة، وزانت جبينه بتاجها، ألا يعرض لهذا الموضوع فيما ينشر على الناس إلا مترفعاً متأنياً حذراً غاية الحذر.
ويتخذ شعر شوقي عن المرأة صورتين. منفصلتين لا تقارب بينهما: أما الصورة الأولى فهي تقليده لمن سبقه من الشعراء، إذ يفتتح قصائده بالنسيب الذي اعتاده الشعراء القدامى، كما في قوله من قصيدته (لبنان)
السحر من سود العيون لقيته ... والبابلي بلحظهن سقيته
الفاترات وما فترن رماية ... بمسدد بين الضلوع مبيته
الناعسات الموقظات على الهوى ... المغريات به وكنت سليته
القاتلات بعابث في جفنه ... ثمل الغرار معربد أصليته
الشاهرات الهدب أمثال القنا ... يحيى الطعين بنظرة ويميته
الناسجات على سواء سطوره ... سقماً على منوالهن كسيته
ثم يقول فيها:
إن قلت تمثال الجمال منصباً ... قال الجمال براحتي مثلته
دخل الكنيسة فارتقبت فلم يطل ... فأتيت دون طريقه فزحمته
فازور غضباناً وأعرض نافراً ... حال من الغيد الملاح عرفته
فصرفت تلعابي إلى أترابه ... وزعمتهن لبانتي فأغرته
فمشى إلى وليس أول جؤذر ... وقعت عليه حبائلي فقنصته
في هذه الأبيات الأخيرة بين لنا شوقي طبيعة المرأة عندما يتقرب منها الرجل طالباً ودها فتتمنع وتظهر الإعراض والصد حتى إذا رأته ينظر إلى غيرها أو يحادث إحدى صويحباتها ثارت غيرتها، وطامنت من كبريائها، وحاولت هي التقرب منه حتى لا تظفر به غيرها.
وشيء آخر يظهر لنا من هذه الأبيات، وهو معرفة شوقي لمواطن الضعف عند حواء، وكيف أنه يعرف متى يقبل عليها ومتى يعرض عنها.
وفي سنة 1919 ثارت البلاد على مختلف طبقاتها تطالب باستقلالها، وسافر الوفد المصري لغرض قضية البلاد على مؤتمر السلام في فرساي وهناك تلقى دعوة من لورد (ملنر) وزير المستعمرات الإنجليزية إذ ذاك ليتفق مع الوفد على مركز البلاد وتحديد علاقة إنجلترا بها. وتمخضت المحادثات عن مشروع قدمه لورد (ملنر) واتفق مع الوفد على عرضه على البلاد لأخذ رأيها فيه مع التزام الحيدة، فأنتدب الوفد أربعة من أعضائه للقيام بهذه المهمة، وقد اختلف القوم في صلاحية المشروع أو عدم صلاحيته.
وقد شارك شوقي في هذه الحركة وعبر عنها أصدق تعبير في قصيدة طويلة بدأها بالنسيب فقال:
أئن عنان القلب واسلم به ... من ربرب الرمل ومن سربه
ومن تثنى الغيد عن بأنه ... مرتجة الأرداف عن كثبه
ظباؤه المتكسرات الظبا ... يغلبن ذا اللب على لبه
بيض رقاق الحسن في لمحة ... من ناعم الدر ومن رطبه
إلى قوله:
يا ظبية الرمل وقيت الهوى ... وإن سعت عيناك في جلبه
ولا ذرفت الدمع يوماً وإن ... أسرفت في الدمع وفي سكبه
هذى الشواكي النجل صدن امرأ ... ملقى الصبا أعزل من غريه
صياد آرام رماه الهوى ... بشادن لا برء من حبه
قد شاب في أضلعه صاحب ... خلو من الشيب ومن خطبه
واه بجنبي خافق، كلما ... قلت تناهى، لج في وثبه
فأنت ترى بالرغم من أن الموضوع الذي نظم فيه القصيدة موضوع سياسي بحت، إلا أنه سار على سنن من قبله من الشعراء الأقدمين؛ فبدأ قصيدته بهذا النسيب مهد لموضوعه الذي نظم من أجله القصيدة فقال:
ما بال القوم اختلفوا بينهم ... في مدحة المشروع أو ثلبه
كأنهم أسرى، أحاديثهم ... في لين القيد وفي صلبه
يا قوم هذا زمن قد رمى ... بالقيد واستكبر عن سحبه الخ. . .
وعندما أطلق سراح شباب الحركة الوطنية في عهد وزارة سعد زغلول، وأحتفل شباب مصر بنجاة إخوانهم وإخراجهم من السجون، شارك شوقي في تكريمهم بقصيدة عامرة افتتحها بأبيات غزلية رقيقة هي:
بأبي وروحي الناعمات الغيدا ... الباسمات عن اليتيم نضيدا
الرائيات بكل أحور فاتر ... يذر الخلي عن القلوب عميدا
الراويات من السلاف محاجرا ... الناهلات سوالفاً وخدودا
أقبلن في ذهب الأصيل ووشيه ... ملء الغلائل لؤلؤاً وفريدا
يحدجن بالحدق الحواسد دمية ... كظباء وجرة مقلتين وجيدا
حوت الجمال فلو ذهبت تزيدا ... في الوهم حسناً ما استطعت فريدا
لو سر بالولدان طيف جمالها ... في الخلد خروا ركعاً وسجودا
وما أشبه هذا البيت الأخير بقول كثير عزة حيث يقول:
رهبان مكة والذين عهدتهم ... يبكون من خوف العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة راكعين سجودا
في هذه القصائد يظهر تقليد شوقي لمن سبقه، فهو يدفع بالمرأة دفعاً في قصائده وفي مواقف يحسن أن تكون بعيدة عنها كل البعد، إذ أن الغزل والتشبيب الذي يبدأ به قصائده لا يكون إلا في وقت تكون النفس هادئة تنعم بالطمأنينة والأنس، ولكنك لا تملك نفسك من الإعجاب ببراعة الشاعر وافتتانه في الإتيان بروائع المعاني وفخم الألفاظ.
أما غزله الخالص قاله متغزلاً فهو قصير قليل تظهر فيه الصناعة والتأثر في لفظه ومعناه بمن تقدمه من الشعراء. فإذا تصفحت باب النسيب في الجزء الثاني من الشوقيات فإنك لا تكاد تعثر على شعر تستطيع أن تقول عنه بوصال وقرب. مما يجعلنا نعتقد أن الشاعر لم يصب بهذا الداء - داء الحب -، لذلك نجد هذا النوع من شعره أكثر صناعة وتكلفاً، ولولا قوة الشاعر وبراعته لما وجدت في نفسك دافعاً لقراءته. فاسمعه يقول وهو تقريباً أجود ما قاله في هذا الباب:
خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء أتراها تناست اسمي لما ... كثرت في غرامها الأسماء
إن رأتني تميل عني كأن لم ... تك بيني وبينها أشياء
جاذبتني ثوبي العصي وقالت ... أنتم الناس أيها الشعراء
فاتقوا الله في قلوب العذارى ... فالعذارى قلوبهن هواء
وقوله في قصيدة أخرى:
أداري العيون الفاترات السواجيا ... وأشكو إليها كيد إنسانها ليا
قتلن ومنين القتيل بألسن ... من السحر يبدلن المنايا أمانيا
وكلمن بالألحاظ مرضى كليلة ... فكانت صحاحاً في القلوب مواضيا
حببتك ذات الخال والحب حالة ... إذا عرضت للمرء لم يدر ماهيا
وأنك دنيا القلب مهما غدرته ... أنى لك مملوءاً من الوجد وافيا
صدودك فيه ليس يألوه جارحاً ... ولفظك لا ينفك للجرح آسيا
وبين الهوى والعذل للقلب موقف ... كخالك بين السيوف والنار ثاو
وبين المنى واليأس للصبر هزة ... كخصرك بين النهد والردف واهن
وعرض بي قوم يقولون قد غوى ... عدمت عذولي فيك إن كنت غاو
يرومون سلوانا لقلبي يريحه ... ومن لي بالسلوان أشربه غاليا
وما العشق إلا لذة ثم شقوة ... كما شقي المخمور بالسكر صاحيا
على هذا النمط تجد شعره الذي يندرج تحت هذا الباب كله صناعة وتقليداً للسابقين.
هذه هي الصورة الأولى التي ذكر فيها الشاعر المرأة ومنها نرى أن نصيبها من هذا القسم من شعره نصيب لا يساير روح العصر ولا يتمشى مع تطور الزمن ونهضة المرأة في الميدان الاجتماعي وما وصلت إليه.
أما الصورة الثانية فهي التي سنقدمها إلى القراء في العدد القادم إن شاء الله.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ