الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 953/القصص

مجلة الرسالة/العدد 953/القصص

بتاريخ: 08 - 10 - 1951


قانصوه الغوري

سلطان مصر الشهيد

للأستاذ محمود رزق سليم

الفصل الخامس

يوم استقبال

برح السلطان الغوري قصره الكبير عدة مرات إلى ناحية النيل، ليراقب نشاط العمل في بناء السواقي التي أمر بإنشائها لتمد حدائق الميدان بالمياه العذبة المتدفقة في القنوات الخاصة بين النيل والقلعة.

وفي أحد أيام 915هـ كان العمل في السواقي والقنوات قد تم، وأنسلت مياه النيل جارية تسعى إلى البساتين السلطانية. فأشاعت فيها حياة جديدة، ضحكت بها الأرض عن زرع نضر ونبات وسيم، واهتزت الأشجار وتثنت غصونها تثنى الساكر النشوان، ودبت بشاشة الحياة في الأعواد، فاخضر يابسها وانبسط عابسها، وتجمع نوارها وأشرقت أزهارها، ودنت قطوفها، وألقت على الأرض ظلا ممدوداً.

وكان كل بناء في الميدان قد أخذ سمته إلى الكمال كما شاء السلطان: من قصور غضة إلى غرف بضة، ومن مقاعد وثيرة إلى سلالم مدرجة، ومن جداول رقراقة إلى برك مموهة، إلى غير ذلك مما ينم عن ترف أصيل وعز أثيل، فيه للعين جلوة، وللنفس سلوة، وللأحبة دعاء، وللمسرة نداء. .

وأراد السلطان أن يكتمل أنسه، ويبتهج مجلسه، بالعلية من أمراء دولته، والجلة من أعيان مملكته، والصفوة من رجال سلطنته، ليقضي معهم يوم فرح وليلة سرور، ويتذاكرون بعض الشؤون؛ ويزيدون في المودة رباطاً؛ وفي المحبة وشيجة، وليقاسموه المتعة بما بناه، واللذة بما شاده، وليسمع منهم أحاديث الثناء عليه، وأناشيد الدعاء له. .

أنتشر الخدم ورجال القصر، منذ هذا اليوم في أرجاء الميدان، ينظفون وينظمون ومعهم البستانيون، فجنوا من الفواكه، ومن الأزهار ما ابتسم، وفرشوا المقاعد بحشياتها الثمينة الوثيرة، وفصلوها بالوسائد الحريرية، ونشروا أمامها البسط الهندية النفيسة، ثم زينوا ما بين فرجها بطاقات من الورود والرياحين، ونثروا من فوقها حمائل القناديل الزيتية الفنية البديعة، وفي الصدر كنت ترى مقعد السلطان يمتاز عن غيره بعلو يسير مجملاً من الممتاز من الحشيات والوسائد، وقد نصبت من فوقه قبة مدورة كبيرة من حرير خالص ذات أهداب ذهبية منتظمة.

وقد أمر السلطان أن تملأ البركة الكبرى من ماء النيل عن طريق قناتها الخاصة، وبث مماليكه وغلمانه بين أسواق القاهرة وحدائقها ليجمعوا ما يستطيعون جمعه من الورد. .

ثم نثروه في البركة؛ فاختلط شذاه بعنبر مائها، وغام على سطحها وعام، وابتل وجهه منها واخضل، وفتح فمه فنهل من مائها وعل، فدار على قدمه ساكراً، وانطلق لسانه شاكراً، وبنى للسلطان عرشاً على الماء، وعطر بذكره الأنجاء.

وحول هذه البركة أجتمع قراء المدينة ووعاظها يقرءون ويذكرون، حتى دنا منهم الليل، فانصرفوا في هداة منه بعد ما أصابوا من الطعام والشراب ما لذ وطاب، ولبثوا زمناً حالمين بما رأوا من لذة ونعيم.

كان الطهاة قد شمروا منذ الصباح عن ساعد الجد. يطهون الطعام، ويتأنقون في طهيه ما شاء لهم الفن والابتكار، ويبدعون في تنظيم أنواعه وتلفيق صنوفه، وتصفيفها بما يلبي عن ذوق سليم، يناسب هذا الحفل العظيم، وحشدوا لذلك مئات من الدجاج والإوز، وعشرات من الضأن السمين، وشنان من الماء القراح البارد، وجفان الفاكهة اللذيذة ما بين تفاح وكمثرى وأعناب، وهيئت أواني الحلوى التركية والشامية والمصرية، إلى غير ذلك مما أنفق عليه نحو ألف دينار، في ذلك الزمن الرغد الرخي الرخيص.

وما إن انصرف القراء والوعاظ حتى مدت عشرات الأسمطة الحافلة المنمقة، وامتلأت الموائد بالأواني الخزفية وغير الخزفية، ورص فوقها نحو أربعمائة صحن صيني، ثم وزعت المأمونية الحموية كل قطعة منها نصف رطل، وفاضت أطباق الأحمال والطير. . .

وأهل السلطان وفي إثره أقبل الجمع، واتخذ السلطان مكانه في المقعد السلطاني تحت القبة، وعن يمينه جلس قضاة الشرع والعلماء والكتاب والمباشرون ومن على شاكلتهم من طبقة المتعممين، وعن يساره جلس الأمراء في أبهة أزيائهم وروعة أسلحتهم، وبجانبهم عدد من الأعيان.

وأنتشر في الميدان حوله كثير من الجند والمماليك الغورية يحافضون على الجمع الحافل، والعامة عن كثب تروح وتغدو، وتحدس ما يجري في داخل الميدان، ويظنون ما شاءت لهم الظنون.

أكل الأضياف هنيئاً وشربوا مريئاً، وبعد اطمئنانه أنصرف الجمع إلا عدداً من العلماء والأمراء استبقاهم السلطان ليجاذبهم أطراف الأحاديث ويتذاكروا معا شؤون الدولة، ويقلبوا ما مضى من أيامها المجيدة، ويرددوا ما تنشد من أحلامها السعيدة فقال السلطان: إن ليلتنا هذه من أسعد ليالي السلطنة.

فقال أحد القضاة: أجل يا مولانا إنها للعين قرة، وفي جبين الزمان غرة، أدام الله لمولانا الابتهاج والمسرة، وأطال عهد حكمه السعيد. . إن هذا الميدان ليدين بتلك الحياة الجديدة للمشيئة السلطانية الشريفة، الله ما أجمل القصر والبستان! وما أروع البركة والمجرى، وما أبهى الغرف والمقاعد! إن تلك القبة المضروبة فوق المقعد السلطاني الشريف وهذه البسط والوسائد الحريرية وهذه الموائد الشهية، ومن أجتمع حولها من أقذاذ الرجال، لتذكرنا بما يرويه التاريخ عن الملوك الصيد من خلفاء بغداد، أحيا الله بمولانا دولة الإسلام، وأعز به جانب الدين. .

السلطان: الفضل في هذا التنسيق والنظام يرجع إلى ناظر الخاص المقر علاء الدين وأعوانه.

علاء الدين: مولانا! الشكر لله وللمقام الشريف، إنما تم كل شيء بإرشاد مولانا وإشارته.

السلطان: كنا نود أن يشاركنا الخليفة الجديد في ليلتنا هذه. . . ما رأيك أيها القاضي في الخلافة وما قام بسببها من خلاف؟ ألا أننا حسمنا أمرها على خير وجوهه؟

القاضي: أجل يا مولانا! لقد كاد يستشري النزاع بين الخليفة يعقوب وابن عم أبيه خليل؛ فقد أدعى خليل أن يعقوب لا يصلح للخلافة لأنه أعمى، فرد عليه ابنه الناصري محمد قائلاً (وأنت أيضاً لا تحسن قراءة الفاتحة)! فلما أمر مولانا باختبار خليل وجدناه وهو يقرأ الفاتحة قد تعثر فيها وتلعثم، ولم يكمل قراءتها، وذلك للثغة في لسانه، وقد كنت عادلاً يا مولانا حينما وكلت الخلافة إلى الناصري محمد وأقررت عهد أبيه بها إليه، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعل عهدكما عهد يمن وإقبال ورخاء للمسلمين أجمعين.

السلطان: إن عامنا هذا عام رخاء، ولنا في وفاء النيل فيه فأل حسن، فقد بلغ نحواً من عشرين ذراعاً، ولا نزال نحتفل بعيد وفائه شكراً لله على نعمائه، ونحن قوم نتفاءل دائماً.

القاضي: إن البلاد جميعها للتفاؤل بسلطنتكم المجيدة، والدين أمرنا - بجانب الحذر والحيطة - أن نتفاءل ونقابل الحياة دائماً بالأمل والرجاء، وكما نعمل للآخرة كأننا نموت غداً، ونعمل للدنيا كأننا نعيش أبداً. . .

السلطان: صدقت! وإن دأبي الانتشاء والبناء، ولن آلو جهداً في أن أترك بكل موضع أثراً مشيداً نافعاً، وأن أسلك سبيلي لإعلان شأن السلطنة وإظهار عظمتها، وللترفيه عن عامة سكانها، وتزويد البلاد بما ينمي ثروتها يوسع نفوذها، إن سلطنة مصر اليوم - بعون الله - أقوى سلطنة إسلامية، وهي من أوسع دول الأرض جاهاً وقوة ومالاً، وستبقى كذلك ولن ينال منها العابثون منالاً. . أين القاضي معين الدين؟

(يأتي القاضي معين الدين بن شمس، وكيل بيت المال ونائب كاتب السر - وكان في وجهه دمامة - ثم يتقدم إلى جانب السلطان من الخلف ليقرأ على مسامعه المراسلات والقصص - المظالم -)

السلطان: ما عندك من أخبار البلسان؟ لقد كانت بلادنا تفخر بزرعه في أرضها لأن له دهناً عجيباً يغالي ملوك الفرنجة في ابتياعه، إذ يستخدم عندهم في ماء المعمودية، ثم أنقطع تبته من بلادنا جملة.

معين الدين: لقد خاطبنا بلاد الحجاز عندما علمنا أن البلسان ينبت في بعض جهاتها، وكلفنا بعض نوابنا فحملوا إلينا شجيرات منه غرسناها بالمطرية، فنبتت نباتاً حسناً يبشر بمستقبل عظيم، فليطمئن بال مولانا.

(يميل السلطان إلى بعض خاصته، ويسر إليه أنه يخجل من مماليكه حينما يرون رجلاً مثل معين الدين يقرأ قصصه ومراسلاته)

السلطان (موجهاً الخطاب إلى معين الدين): وما أخبار الشاه إسماعيل الصوفي؟

معين الدين: يعلم مولانا أن الشاه إسماعيل الصوفي، كان قد تحرك وزحف على الممتلكات الشريفة، وأعد له مولانا تجريدة كبرى لرده وتأديبه. فلما وردت مراسلات الأمير (علي دولات) أمير التركمان، بأنه هزم الشاه هزيمة منكرة، أوقفت التجريدة. وقد أرسل إلينا (علي دولات) عدداً من رؤوس قتلى العجم من جنود الشاه إسماعيل، فعلقت على باب زويلة، ولكن الآن يقال إن جند الشاه يعبثون بأطراف إمارة بغداد.

السلطان: لقد وفد إلينا رسول من لدن الشاه ينبئ أن جنوده زحفوا على ممتلكاتنا خطأ وبغير إذن منه؛ فقبلنا عذره وخلعنا على رسوله. . ولكنه لا يزال في الخاطر من عمله شيء. .

فما الرأي عندك أيها الأمير قرقماس؟

الاتابكي قرقماس: يا مولانا. . الرأي عندي السمع والطاعة لك. إذا أمرت فالسيوف مسلولة، والرماح مشروعه، والنفوس تواقة إلى الجهاد والنصر.

وللفصل بقية

محمد رزق سليم