الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 950/في شعر عائشة التيمورية

مجلة الرسالة/العدد 950/في شعر عائشة التيمورية

مجلة الرسالة - العدد 950
في شعر عائشة التيمورية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 09 - 1951

1840 - 1902

للأستاذ محمد سيد كيلاني

بقية ما نشر في العدد القادم

هذه الأبيات التي سردانها من قصيدتها في رثاء ابنتها هي أروع ما في القصيدة. وهي تصور شعوراُ داخلياُ لحالة فتاة قد أيست من شفائها وأيقنت بهلاكها، فهي تودع أمها الوداع الأخير وترجوا أن يترفق بها اللحاد حين يوسدها الثرى ويهيل عليها التراب. وتسأل أمها أن تصون جهاز عرسها تذكاراُ لها. واسمع إلى أمها حين تجيب ابنتها:

فأجبتها والدمع يحبس منطقي ... والدهر من بعد الجوار يجور

بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي ... قد زال صفو شأنه التكدير

لا توصي ثكلا أذاب وتينها ... حزن عليك وحسرة وزفير

هكذا ردت عائشة على ابنتها. وهو رد ضعيف، وكان ينبغي أن يكون أقوى من ذلك بكثير والمعاني في هذه الأبيات تافهة. ثم تأخذ قيمة القصيدة بعد ذلك في الانحدار، ويختفي الشعور الداخلي بيتا ُبعد بيت حتى ينعدم تماماُ وتنقلب إلى نوع من النظم الذي لا رائحة فيه للشعر. وهذا دليل على ضعف الشاعرة وضيق افقها. ولو أنها وهبت حظاُ من الشاعرية لاستوحت من المقام جملة قصائد مبكية لا قصيدة واحدة، وبخاصة أن بنتها ماتت وهي في فجر شبابها. وقد قيل أنها انقطعت عن قول الشعر بعد وفاة بنتها هذه لمدة سبعة أعوام

ولعائشة قصيدة رثت بها والدها ومطلعها:

عز العزاء على بني الغبراء ... لما توارى النجم بالظلماء

وقد ذكرت في هذه القصيدة مجئ الطبيب إلى والدها، ثم أنطقت أباها بعد أبيات مؤثرة. ثم شرعت بعد ذلك تندب وتنوح فقالت:

يا حسرة ابنته إذا نظرت لها ... بمماته عين من البأساء

قالت وحق سنا أبوتك التي ... كانت ضياء الأمن للأبناء مذ ما فقدتك والحشا متسعر ... والجسم منتحل من الضراء

ياكنز آمالي وذخر مطالبي ... وسعود إقبالي وعين سنائي

يا طب آلامي ومرهم قرحتي ... وغذاء روحي بل ونهر غنائي

أبتاه قد جرعتني كأس النوى ... يا مر جرعته على أحشائي

أبتاه قد حش الفراق حشاشتي ... هل يرتضي الشفوق جفائي

فإذا قرأت هذه الأبيات شعرت بأن امرأة تقف أمامك وقد تدفقت منها الدموع. وهي تتحسر وتتوجع وتئن وتتألم لما أصابها من خطب وحل بها من كرب

ورثت شقيقتها بقصيدة مطلعها:

يا من أتى للقبر يقرأ طرسه ... مهلا فليس كتابه بمداد

وقد ذكرت كذلك في هذه القصيدة عيادة الطبيب لأختها ونظمت على لسان تلك الأخت ابياتاُ مؤثرة إلى حد بعيد فقالت:

جاء الطبيب يجس نبض ذراعها ... فرأى التأثر ليس كالمعتاد

فتنفس الصعداء مرات وقد ... أعيي، وقال اليوم ضل رشادي

فتنهدت جزعاُ، وقالت سيدي ... أأموت قبل الترب والأنداد

وأسير من دون الأنام وكم أرى ... للدهر قبل الموت من رواد

ثم انتقلت بعد هذا إلى تصوير شعورها الفياض بالحزن على ما أصابها من موت أختها

والملاحظ في رثائها لبنتها ووالدها وشقيقتها أنه تضمن صورة واحدة، تلك هي مجيء الطبيب ويأسه من شفاء المريض وعجزه عن علاجه. ثم تأتي بعد ذلك محاورة بين المريض والطبيب أو بين المريض والشاعرة كما حدث لها مع بنتها، ونرى في هذه المحاورة شعراُ رائعاُ يترجم عن إحساس عميق ويعرب عن شعور متقد بين الجوانح. وهذا شيء لا نراه عند غيرها من الشعراء. فهي قد انفردت به وتميزت عن سواها ممن يقولون الشعر. وذلك راجع إلى طبيعتها الأنثوية، فإن المرأة التي تشرف على علاج المريض وتسهر الليالي في خدمته وتسمع شكواه وأنينه فكان لها من طبيعتها ما جعلها تأتي بهذه الصورة الجديدة. ولم نر شاعراُ في عصرها وفق إلى مثل هذه الصورة غير صالح مجدي في رثائه لزوجته، وذلك لأنه كان يعالجها بالبخور والتمائن والرقي فلما ماتت صور هذا كله في رثائه لها

ولعائشة قصيدة مطلعها:

بيد العفاف أصون عز حجابي ... وبعصمتي أسمو على أترابي

وهذه القصيدة جديدة في موضوعها، فريدة في بابها. تأمل في قولها:

فجعلت مرآتي جبين دفاتري ... وجعلت من نقش المداد خضابي

كم زخرفت وجنات طرسي أنملي ... بعذار خط أو إهاب شبابي

منطقت ربات ألبها بمناطق ... يغبطنها في حضرتي وغيابي

وحللت من نادي الشعور ذوائبا ... عرفت شعائرها ذوو الأنساب

ما ضرني أدبي وحسن تعلمي ... إلا بكوني زهرة الألباب

ما ساءني خدري وعقد عصابتي ... وطراز ثوبي واعتزاز رحابي

ما عاقني خجلي عن العليا ولا ... سدل الخمار بلمتي ونقابي

أنت تقرأ هذه الأبيات فتشعر بأنك تقف أمام امرأة. وليست هذه المرأة الخنساء، ولا ليلى الأخيلية، ولا غيرهما من شاعرات العرب، وإنما هي امرأة تعيش في العصر الحديث. اتخذت من الدفتر مرآة، ومن المداد خضابا. ولو كان هذا المداد أسود لأضحت الصورة كريهة قبيحة. فلعلها أرادت المداد الأحمر فإن صح هذا فالصورة مقبولة. وهي تقول بعد ذلك إن كونها امرأة لم يمنعها أن تنزل إلى ميدان الأدب جنباُ إلى جنب مع الرجال. وهي في دفاعها عن هذا الرأي تعبر عن شعور صادق وتنطق عن ثقة واطمئنان إلى نفسها، وهذه الصيحة بداية للمطالبة بحقوق المرأة؛ ومساواتها بالرجل وتحريرها من الرق والإسار وفي الأبيات صورة لما كانت عليه المرأة في ذلك الوقت وهذه الصورة تستوحيها من ذكر الخدر والعصابة والثوب المطرز والخمائر، فلو أن الشاعرة عاشت معنا في هذه الأيام لما ذكرت شيئاُ من ذلك، ولما أتت بهذه الصورة التي لا وجود لها بين الطبقات الغنية

ومن شعرها المتكلف قصيدة في ذكر الخمر

لاح الصبوح وبهجة الأوقات ... فاشرب وعاط الصب بالكاسات

ومنها:

ودع الوشاة وما تقول عواذلي ... فالعين عيني والصفات صفاتي فأنا الأسير بظل روض كرومها ... ولو أن في عنقي شهى حياتي

وليس هذا مما تقوله النساء، ولكن عائشة تريد أن تنظم الشعر ولا تجد أمامها ميداناُ للقول، فماذا تصنع؟ نظمت في ذكر الخمر كما نظمت في الغزل من قبل

وليس لها في باب المدح سوى قصيدة واحدة هنأت بيها الخديوي توفيقا عقيب القضاء على الحركة العرابية

وكانت الشاعرة تستوحي من أنوثتها كثيراُ من الصور، ومثال ذلك قولها:

ولكني أرى في الصبر طبي ... ومكحلة الجلا حسن امتثالي

وقولها:

فدعني يا خل والخل نخلو ... ونكحل بالثنى جفن الأماني

وقولها:

مرآته طمست وأصدأ وجهها ... من بعد ما سعدت بطول جلاء

ولطالما اكتحلت عيون أولى النهى ... من غدره بمصائب وبلاء

فأنت ترى أن الشاعرة تكثر من ذكر الكحل والمكحلة والمرآة، وهذه كلها من مستلزمات المرأة

وقد استخدمت التورية باسم عائشة في عدة مواضيع. فمن ذلك قولها:

إن قيل عائشة أقول لقد فنى ... عيشي وصبري والإله خبير

وقولها:

ولى التقلب في سمير تحرقي=ما دمت عائشة ليوم فنائي

محمد سيد كيلاني