مجلة الرسالة/العدد 95/قصة المكروب
→ دار وحبيب. . .! | مجلة الرسالة - العدد 95 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
موعد ← |
بتاريخ: 29 - 04 - 1935 |
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: اثبت بستور إن الذي يحيل السكر إلى كحول في صناعة المشروبات الروحية إنما هو الخمائر. وهي أحياء غاية في الصغر، شكلها كري، تتوالد وتتزايد بالتنبت فالتقسم. واثبت إن عملية التخمر عند ما تفسد فلا تنتج من السكر كحولاً، فإنما يكون ذلك بسبب مكروبات اصغر من الخمائر، شكلها كالعصى، تسطو على محاليل السكر فتذهب بخمائرها، وتقوم بعملية جديدة مفسدة هي تحويل السكر إلى حامض اللبن الزبادي بدلاً من الكحول
وبينا هو في هذا، وبينا هو مستقر بأسرته في (ليل) إذ جاء زوجه يوماً يقول لها: (نحن ذاهبون إلى باريس فقد ولوني في مدرسة النرمال إدارة أبحاثها. وهذه فرصة عظيمة لا بد من انتهازها)
وانتقلوا إلى باريس. ولما جاء بستور مدرسة النرمال لم يجد بها مكاناً يشتغل فيه. وجد قليلاً من معامل للطلبة ووجدها سيئة قذرة. أما الأساتذة فلم يجد لهم شيئاً. وأسوأ من هذا أنه ذهب إلى وزير المعارف يستوضح الحال، فقال له الوزير إن الميزانية ليس بها قرش واحد ينفق على تلك القوارير والأفران والمجاهر التي لا يستطيع الحياة إلا بها. وما رجع حتى اخذ يدور في المكان القديم القذر يبحث في أسافله وأعاليه عن ركن يعمل فيه وهداه البحث أخيراً إلى سلم هداه في مشقة إلى حجرة صغيرة عند سطح البناء كانت ملعباً للفئران فطرد الفئران منها واستولى عليها وصاح: هذا معملي. ولم يلبث أن وجد مالاً لشراء مكرسكوباته وأنابيبه وقواريره - ولكن من أين لا يدري أحد يقيناً. كان لا بد له من المال فأعتزم أن يجده فكان. لا بد أن تعلم الدنيا خطورة خمائره هذه في الحياة. ولم تلبث الدنيا أن علمت بخطورتها
استيقن من تجاربه السابقة إن تلك العصى الصغيرة تحيل الكسر إلى حامض اللبن وعندئذ قام في نفسه إن الدنيا لا بد بها الألوف من أشباه هذه العصى تجري ألوفاً من أشياء هذه التحويلات وتأتي بأمور أكبر وأخطر من هذه منها الضار ومنها النافع. (إن هذه الخمائر التي أرانيها مجهري في أحواض البنجر السليمة، هي هي التي تخرج من السكر كحولاً. وإنها لخمائر كذلك تلك التي تخرج من الشعير جعة. وإنها لا شك خمائر تلك التي تخرج من عصير العنب خمراً. أنا بالطبع لم أثبت هذا بعد ولكني أعلم أنه صواب سيأتي إثباته). ومسخ نظارته في سرعة وصعد إلى معمله في بشر وخفة. فلا بد له من تجارب ليثبت لنفسه صدق الذي يقول لا بد من تجارب ليثبت للدنيا صدق ما يزعم. فالعالم لم يكن أمن بعد بالذي قاله
وكان ممن عارضه الألماني ليبج شيخ الكيمياء وسيدها وأميرها: (. . . ليبج يقول إن الخمائر لا دخل لها في تحويل السكر إلى كحول. ليبج يدعى أنه لا بد من وجود زلال في السائل وان هذا الزلال ينحل ويتهدم فيهدم السكر معه فيتكسر إلى كحول). واعتزم بستور أن يدحض رأي ليبج وفي ساعة برقت في خاطره بارقة، حيلة ماكرة تجربه بسيطة واضحة تقهر ليبج وكل من يشد أزره من هؤلاء الكيميائيين الذي يسخرون من هذه الخلائق المكرسكوبية الصغيرة ويهزؤون بما تقوم به من عظائم الأمور
(يجب علي أن أزرع هذه الخمائر في محلول من السكر لا زلال فيه. فإذا هي أحالت السكر إلى كحول إذن فعلى ليبج وعلى نظرياته العفاء). وامتلأ عناداً وامتلأ تحديا فقد كادت تنقلب هذه الخصومة العلمية إلى خصومة شخصية. جاءته الفكرة الجميلة للرد على خصيمه ولكن الفرق واسع بين الفكرة تخطر في الرأس وبين الفكرة تنفذ في المعمل فأنى له بطعام خلو من الزلال وهذه الخمائر اللعينة شبت على النعمة واعتادت مذاق كل لذيذ مرئ. أخذ بستور يدور في معمله ثم يدور يبحث عن طعام يطيب لهذه الخمائر وقضى على هذا أسابيع حتى فرغ جهده وضاق صدره. وفي ذات صباح وقع له حادث غير منظور فتح له ما استغلق عليه كان قد وضع بالمصادفة شيئا من ملح النشادر في مرق الزلال وضع فيه خمائر لتتزايد وتتكاثر. (ما هذا؟ إن ملح النشادر يتناقص من المرق كلما تزايدت تلك الخمائر فيه! ما معنى هذا؟) وأخذ يفكر. (نعم. نعم. إن الخمائر تعيش على النشادر. إنها تعيش من غير زلال!). ورد الباب رداً عنيفاً فاهتز البناء، فلا بد له الآن من الوحدة وقد أراد العمل، كما كان لابد له من الناس إذا أراد المتعة بالإفاضة بنتائجه الباهرة إلى الجماهير المعجبة المتحمسة. وتناول قبابات نظيفة وصب فيها ماء مقطراً نقياً؛ ووزن في دقة مقداراً من السكر النقي، وزلقه إلى الماء، وأضاف إليه ملح النشادر، وكان نشادر الدردي. ثم غاص في القارورة التي تنغشت بالخمائر الصغيرة المتنبتة، وأخرج منها شيئا وضعه في القبابة مع السكر وملح النشادر. ثم وضع القبابة في محضن دافئ ثم تركها
وفي هذه الليلة أخذ يتقلب في مضجعه، يطلب النوم فلا يؤاتيه. وأسر رجياته ومخاوفه إلى مدام بستور، فهدأت من روعه، ولكنها لم تستطع نصحه. نبض قلبها بنبض قلبه، وضاق صدرها بمثل الذي ضاق به صدره، ولكنها لم تقدر على مطارحته العلم وتأميله في النجاح القريب. كانت خير عون لخير زوج
وما كاد الصباح يهم بالشروق حتى كان إلى جانب قارورته، تلك القارورة التي خبأت له من صروف المقادير ما خبأت. لم يدر كيف صعد السلم إليها. لم يدر ما الذي أكله في إفطاره. كل الذي أحس به أنه واقف إلى قارورته قد احتواها هذا المحضن الترب، حتى لكأنما طار في الهواء إلى حيث كانت. فتح القارورة واخذ منها قطرة عكرة، فوضعها بين قطعتين رقيقتين من الزجاج، وضعهما تحت عدسة مجهره، ثم نظر. وعندئذ علم إن الدنيا أسلمت إليه القياد
(هاهي! هاهي! جميلة في تنبتها، جليلة في صغرها وكثرتها. مئات الألوف في احتشاد بديع. وهاهي وحدات من أمات الخمائر الكبيرة التي بذرتها في القارورة بالأمس). وامتلأ صدره فهم بالخروج ليفيض على الخلائق بالذي ملأه، ولكنه رجع فكبح جماح شهوته، فلا بد له من علم شيء آخر خطيراً جداً. واخذ شيئا من سائل القارورة ووضعه في معوجة، وأخذ يقطره على النار ليرى هل أنتجت تلك الخلائق من السكر كحولاً. (ليبج مخطئ في زعمه، فالزلال لا ضرورة له، فتلك الخلائق النامية هي التي تخلق من السكر كحولاً).
وأخذ يرقب قطرات الكحول وهي تسيل من عنق المعوجة. وقضى ماثلا من أسابيع في تكرار تجربته، ثم تكرارها، ليؤكد إن الخمائر لا تني تتكاثر، وأنها لا تني تخرج كحولاً. ونقلها من قبابة إلى قبابة، ومن مرق إلى مرق، فوجدها تتنبت دائماً، وتتزايد دائماً وملا رقاب القبابات دائما برغاء من أكسيد الكربون المتصاعد من التخمر. ووجد الكحول دائما بالقبابات. كان عملاً جد عسير، حدا به إليه زيادة الحرص على صدق نتائجه، وخشية الخدعة فيما يتراءى له أنه الحق
استوثق من خمائره، واصبح أمرها لديه معروفاً مألوفاً، ولكنها لم تزد في عينه على الأيام إلا جدة، ولم تزده الفته إياها إلا إعزازاً لها. كان يرعاها كالأم الرؤوم، يطعمها ويحبها ويعجب بمجهودها الهائل في قلب السكر الكثير إلى كحول. وفوت على نفسه بذلك وجبات الطعام، حتى اعتل مزاجه وفسدت صحته. ذكر أنه جلس إليها ذات مساء في الساعة السابعة - وهي الساعة التي يحرص فيها كل فرنسي محافظ على إجابة دعوة المائدة - وأخذ يتجسس عليها وهي تتقسم فتتزايد، واخذ يحدق فيها، ولزمت عينه المجهر حتى منتصف الساعة العاشرة. وعندئذ، وعندئذ فقط، آمن بأنه رآها تتقسم فعلا، فتتزايد من جراء ذلك. وأجرى تجارب واسعة النطاق، بعيدة الأمد، تجارب امتدت من يونيو إلى سبتمبر، ليرى متى يفرغ صبر هذه الخمائر فتنكص عن تحويل السكر. فلما علم من هذا ما علم صاح يقول: (أعط خمائرك سكراً، تظل تعمل أشهراً ثلاثة أو فوق ذلك عدداً)
وعندئذ انقلب البحاث إلى دعاء. انقلب العالم إلى تاجر بارع يعنى بعرض بضاعته للناس، فيثير إعجابهم ويبعث الحمية فيهم. وذلك في سبيل الدعوة للمكروبات. فالدنيا يجب أن تعلم حقيقة أمرها، والناس يجب أن تنقطع أنفاسهم من الدهشة إذا أتاهم نبؤها - إذا هم أنبئوا أن ملايين الجالونات من خمر فرنسا، وبحار البيرة التي تصنع في ألمانيا، لا يصنعها الرجال كما يحسبون، ولكن جنود مجندة تعمل ليل نهار من المخلوقات لا تبلغ عشرات البلايين منها حجم طفل صغير من بني الإنسان والق عن أبحاثه محاضرات، وألقى في الناس خطابات.
ورمى في وجه ليبج حججاً تدمغ مزاعمه. ولم تلبث دولة العلم على الشاطئ الأيسر لنهر السين في باريس أن تحركت، فشمله أساتذته الأقدمون بالثناء. وأكاديمية العلوم التي رفضته بالأمس عضواً، جاءت اليوم تمنحه جائزة الفسلجة. وكلود برنارد رب الفسلجة ذاتها، قام يصوغ لها المدائح عقوداً. ودوماس، أستاذه القديم، أستاذه الذي أصعد بمحاضراته الدمع إلى عينيه وهو صبي أبله، قام في جمع عام يطرى بستور بحديث رائع، حديث جدير بإخجال رجلنا. ولكن رجلنا لم يخجل، لأنه أستيقن أن دوماس إنما يقول الحق. كتب بستور إلى أبيه: (وقام دوماس يتمدّح استقصاءاتي واستطراداتي، ثم وجه الخطاب إلي فقال: قد إجازتك الأكاديمية يا سيدي منذ أيام على أبحاث بارعة أخرى. واليوم يصفق لك هذا الحشد اعترافاً بأنك أستاذ في أساتذتنا عظيم مجيد. نطق دوماس بهذه الألفاظ ذاتها يا والدي، وتبع هذا تصفيق كان له دوي بعيد)
وبين هذا التصفيق كان من الطبيعي أن تسمع هسيساً من خصوم لا يرضون عما يقول. خصوم من خلق بستور نفسه. خصوم لم تخلقهم كشوفه الجديدة، وتخطيئه لنظريات قديمة وعقائد عتيقة، ولكن خصوم خلقهم سوء تحديه للناس. كان يكتب فتقرأ بين اسطره إعجاباً بنفسه، وتحقيره لكل من يتلكأ فلا يؤمن بالذي يأتيه تواً. كان يحب حوار الكلم، ويغرم كالديك بالمناقرة لأتفه الأمور. كان يغضب ويدمدم لكل نقد، حتى للتعليقة الساذجة يلفظ بها امرؤ عن اجروميته، أو تنقيطه لكلماته. انظر إلى صورته في هذا العهد. عام 1860 على التقريب - تقرأ في كل شعرة من حاجبه اعتداده بنفسه، وتحفزه للحرب دون يقينه. وطالع أبحاثه الشهيرة في هذا الوقت، تجد فيها الشموس والأباء، حتى في مصطلحاته العلمية وفرمولاته الكيمياوية
أثار بستور الخصومات حوله لتحديه الناس وازدرائه إياهم، ولكن كان من بينهم من خاصموه بسبب اختلاف برئ على تجاربه. كانت تجاربه بديعة مدهشة، ولكنها لم تبلغ دائماً الغاية والكمال. كانت عليها مأخذ وبها ثغرات. مثال ذلك أنه كان يبذر في محلول السكر بعض تلك العصى القصيرة التي تحيله إلى حامض اللبن، فكان أحياناً يشم رائحة كريهة تخرج من القارورة هي رائحة الزبد إذا فسد، ثم ينظر بمجهره فلا يرى للعصى أثراً. ويمتحن السائل فلا يجد به من حامض اللبن الذي أراده شيئاً. فهذه الخيبات التي اعتورت تجاربه كان يتخذ منها خصومه قذائف يحاربونه بها. وكانت تقض مضجعه فلا ينام ليله. ولكن لم يدم ارقه طويلاً. كان بستور غريب الأطوار عجيب المسالك، ولم يكن بأقلها مسلكه إذا هو خاب. لم يستطع أصلاً أن يعلل لِمَ تحيط تخميراته أحياناً عن الطريق السوي المعروف، إلى طريق معوج غير مألوف، ومع هذا لم يظهر عليه أنه اهتم لهذا أبداً. كان ماكراً ذا حيلة، فإذا انسد في وجهه الطريق لم يحاول فتحه بنطحه، فقد علم أن هذا لا يجديه إلا تحطيم رأسه، فكان يدور حول المشكل دوراناً، ويزوغ من ورائه زوغاناً، فيلويه ويثنيه حتى يصبح له بعد أن كان عليه
لِمَ هذه الرائحة الكريهة رائجة الزبد الفاسد؟ لِمَ لا ينتج حامض اللبن أحياناً؟! وفي ذات صباح حدق في قطرات السائل، فرأى حياً جديداً يعوم حول تلك العصى المتخاذلة المتناقصة. (ما هذه الأحياء؟ إنها أكبر من العصى كثيراً، وهي تعوم كالسمك عوماً، هي إذن حيوانات صغيرة)، وأخذ يلحظها لحظات الكاره لها، الضائق بها، المتبرم منها، فقد عرف بالسليقة أنها دخيلة، إنها زورة الضيف الثقيل لا أهلاً به ولا سهلاً. وكانت تتقاطر كالإبل، ولكنه إبل كريهة المنظر، شوهاء الوجوه. أو هي كالأفعى تنسل انسلالاً. وأحياناً كانت توجد فرادي، وكان يدور الفرد منها دوراناً رشيقاً، أو يتزن على عقبه ثم ينفلت انفلاتاً بديعاً. وكان منها الرعاد والرقص.
مناظر ممتعة حقاً، ولكن ما دخولها إلى ماء السكر بغير دعوة ولا استئذان! وحاول بستور مائة مرة أن يسدّ عليها السبيل كي لا تدخل إلى القوارير. وسلك لذلك سبلاً لا تروق لنا اليوم. وكان كلما ظن أنه قطع دابرها، إذا بها تنط له في القوارير من جديد. وذات يوم خطر له أن هذه الأحياء ذات صلة بالرائحة الكريهة التي كان يجدها ببعض القوارير
وبهذا أثبت؛ في نوع من التحقيق، إن هذه الأحياء صنف جديد من الخمائر تحيل السكر إلى حامض الزبد الفاسد. أقول في نوع من التحقيق، لأنه لم يكن موقناً يقيناً تاماً بخلو قواريره من أنواع أخرى من الأحياء غير التي رآها. وبينما هو في خبلته، ساهم في حيرته، تراءى له أن يخرج النجاح من خيبته، ويطلب الفرج من أزمته. نظر إلى بعض السائل بأحيائه الجديدة فوجد أن أوسط القطرة يتنغش بها، ويعج بحركاتها. ودار بمنظاره قليلاً قليلاً غير قاصد حتى جاء إلى حرف القطرة، فوجد تلك الأحياء فاقدة الحراك كجثث الأموات تصلباً وهموداً. وعاد فنظر في قطرة أخرى، فوجد بها ما وجد بالقطرة الأولى، فصاح: (إن الهواء يقتل تلك الأحياء). وأكد لنفسه أنه كشف كشفاً خطيراً. وبعد قليل أخبر الأكاديمية أنه وجد خمائر جديدة، خمائر غريبة، تخرج حامض الزبد من السكر، وأنه وجد فوق ذلك أنها تستطيع العيش والحركة واللعب والعمل بدون هواء. بل إن الهواء يقتلها قتلاً. ثم عقب على هذا يقول: (وهذا أول مثل لحي يعيش بلا هواء)
ولسوء طالع بستور لم يكن هذا أول مثل، بل ثالث الأمثال، فإن لوفن هوك كشف هذا قبله بمائتي عام. واسبلنزاني قبله بمائة عام وجد أن الأحياء المكرسكوبية تعيش ولا تتنفس
يترجح عندي أن بستور لم يعلم بهذين المثلين، بل أنا جازم أنه لم يقصد إلى سرقة مجهود غيره، ولكنه في ثورته لكسب مجده، وتحرقه لتكثير كشوفه، تناقص اهتمامه بما جرى قبله وما كان يجري حوله، ومن هذا أنه كشف من جديد أموراً كشفها غيره، كأن كشف أن المكروبات تفسد اللحم، ونسى أن إشفان سبقه إلى ذلك، ونسى أن يؤدي إليه حقاً وجب.
على أنه يحسن بنا ألا نحرج بستور هذا كثيراً، ونعد سيائته في هذا الصدد عداً، ونحاسبه حساب الملائكة الشّداد. ذلك إن خياله، وهو من خيال الشعراء، كان قد بدأ يثبت الوثبة الأولى فيخال إن هذه المكروبات أعداء الإنسانية وقتلة الرجال. ففي مقال هذا كان يتحدث حديث الحالم فيقول: كما أن اللحم يفسد، فكذلك قد تفسد الأجسام، فتعتري الناس الأمراض. وتحدث عما قاساه من اللحم الفاسد وهو يعمل فيه. وتحدث عن كراهته للروائح الكريهة التي ملأت معمله وهو يجري هذه التجارب. (إن تجاربي في التخمر ساقتني بطبيعة الحال إلى هذه الدراسات فتقبلتها على ضرها وخطرها وبرغم الكراهة التي تبعثها في نفسي). ثم حدث الأكاديمية عما سيلقاه في سبيل هذه الأبحاث، وذكر لهم أنه لن يحجم عنها. واقتبس قول لافوازيه: (إن أقذر الأشغال وأكثرها حظاً من كراهة النفوس لتهون على المرء النبيل إذا هو توخاها لخير الإنسانية، وهي لا تزيد الرجل إلا قوة على قطع الصعاب التي يلقاها)
(يتبع)
أحمد زكي