مجلة الرسالة/العدد 95/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 95 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 29 - 04 - 1935 |
المختار من شعر بشار
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
بشار بن برد شاعر مطبوع خلاق، نقل الشعر العربي من جفوة البداوة إلى رقة الحضارة، فنهج به في الأداء منهجاً مطرد القياس، سهل المخرج، وحمله من المعاني كل بديع مخترع، فسمي لذلك أبا المحدثين وشيخهم. ولقد كان فوق ذلك ثرّ القريحة، فياض الشاعرية، واسع المجال، حدث عن نفسه قال: لي اثنا عشر ألف بيت عين، فقيل له هذا ما لم يكن يدعيه أحد سواك!! فقال: لي اثنا عشر ألف قصيدة لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت فرد
ولكن هذه الثروة الشعرية الضخمة ضاعت في أجواء العصور الخالية، وذهبت بين سمع الأرض وبصرها، ولم يصلنا منها إلا نتف قصيرة جاءت في الأغاني وفي غيره من كتب الأدب والتراجم. ولقد اخبر العلامة المرحوم أحمد تيمور باشا منذ سنين بأن نسخة خطية من ديوان بشار موجودة في تونس لدى الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب عضو المجمع العلمي بدمشق وانه شارع في طبعه واخراجه، فتلهفت نفوس الأدباء على تحقيق هذه الأمنية العزيزة، وكتب بعضهم في مجلة المجمع العلمي يستحث همة الأستاذ حسن حسني على الإنجاز، وتقدم السيد بدر الدين العلوي بكلمة قال فيها أنه وجد نسخة عنوانها: المختار من شعر بشار في حيدر آباد بالهند، وهي من اختيار الخالديين أبي بكر وأبي سعيد شاعري سيف الدولة وخازني دار كتبه، وعليها شرح من عمل أبي الطاهر إسماعيل بن احمد بن زيادة من أدباء القرن الرابع، ثم ذكر أنه يستعد لطبع هذا المختار وإخراجه في اقرب نهزة بمساعدة الأستاذ عبد العزيز الميمني المدرس بجامعة عليكرة، ثم ناشد الأستاذ حسني عبد الوهاب أن يعينه وان يخبره عن النسخة الموجودة لديه فلعلها تكون نسخة أخرى من المختار، ولكن الأستاذ حسني ضجع في الأمر ولم يسعف، وبقى الأستاذ بدر الدين عند وعده ومازال حتى أدى الأمانة ووفي دين العربية فدفع بالمختار منذ حين إلى (لجنة التأليف والترجمة والنشر) فجلته للناس في ثوب قشيب، صقيل الورق، جيد الطبع، دقيق التصحيح، مستوفي البيانات والتعاليق، مذيلاً بالفهارس الكاملة، والفوائد المتممة. .
ولقد قرأت الكتاب فرأيته لا يشتمل على مقدار كبير من شعر بشار، ولكن اكثر ما به من القصائد والمقطوعات لا يوجد في غيره من كتب الأدب المعروفة. ويبدو لي أن الكتاب لا يشتمل على كل ما اختاره الخالديان بدليل قول الشارح: (ورأيت بعد نظري في اختيار الخالديين وما اخترته منه. . ص8)، وقوله في النهاية (انتهى اختيارنا فيما وجدناه من المختار من شعر بشار. .)، فكأنه قد اختار بعض ما اختاره الخالديان، بل إن كلمة (وجدناه) تدل على أن ما اختاره الخالديان لم يقع جميعه بالشارح
أما الكتاب من حيث هو فروض أدب حافل، يأتي عليه القارئ بلذة وشغف؟ فقد نهج الشارح في شرحه منهج الاستطراد، يذكر أبيات بشار ثم يشرحها شرحاً لغوياً وافياً إن كان بها من الألفاظ ما يستغلق على القارئ، ثم يذكر ما لها من الأشباه والنظائر لفظاً ومعنى في شعر المتقدمين الذين اخذ منهم بشار، أو المتأخرين الذين اخذوا عن بشار؛ والرجل يطيل كثيراً في سرد الأشباه والنظائر كأنه يباهي بكثرة محفوظة، وقد يذكر ما يتصل بذلك من أخبار الشعراء ونوادرهم مما جعل الكتاب حافلاً ممتعاً، تظن وأنت تقرأ فيه انك تقرأ في (البيان والتبيين) أو في (زهر الآداب) أو في غير ذلك من الكتب التي تشتمل على أمشاج من الأدب، وصنوف من المعارف. .
وقد يكون من الإنصاف أن نذكر بالثناء المجهود الكبير الذي بذله الأديب الناشر في إخراج الكتاب وضبطه وتصحيحه وتعليق الفوائد عليه وتخريج أبياته، كما لا يفوتنا أن ننبه إلى بعض هفوات قد ندت عن خاطره اليقظ، فمن ذلك أنه نظر في قول الشارح: (ولكنه لتراخي الحالب وتضجيعه ص112) فلم يطمئن لكلمة تضجيعه وقال لعلها تضييعه، وكلمة التضجيع اصح وأدق وهي التي أرادها الشارح، فإنه يقال ضجع فلان في الأمر إذا تراخى فيه وأهمله
ومن ذلك أنه قيد كلمة (الحبوة) بالضم في قول الشارح (فما حل حبوته ولا كلمهم حتى قضى سبحته ص193) وإنما هي بالكسر، أما بالضم فمعناها العطاء ولا يصح هذا المعنى في هذا التركيب
ومن ذلك أنه علق على قول عدي بن الرقاع (ص216) فكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جآذر (عاسم) فقال يروي عاسم وجاسم، وذكر أن عاسماً اسم موضع، قلنا وقد جاءت الكلمة في الشعر والشعراء بالغين المعجمة، وحقيقتها جاسم بالجيم اسم قرية بالشام قريبة من دمشق وقريبة من موطن الشاعر وقد وردت في قول حسان:
فالمرج مرج الصفرين (فجاسم) فديار سلمى درساً لم تحلل
ومن ذلك أنه أورد قول ابن الرومي (ص235) وما تعتريها آفة بشرية من النوم إلا (إنه تتحير) فأثبت (أنه) بالهاء كما في الأصل، ورأى أن كلمة تتحير تصحيف تتخثر، وهذا تخريج يفسد معنى البيت ويتجه به إلى الهجاء وما أراد ابن الرومي إلا وصف محبوبته بالحسن، وإنما صحة القول (إلا أنه تتحير)
ومن ذلك أنه حسب كلمة الحضر محرفة عن الخفر في قول الشارح: (فهذه القبنة من أهل الكفايا والترفة والحضر ص257)، وعندنا أن كلمة الحضر هي المتعينة في هذا المقام فقد عقب عليها الشارح بما يعينها فقال (وليست ممن يمتهن ويبتذل في رعي الغنم والإبل أي إنها من أهل الحضارة لا من أهل البداوة) وهذا ما يريده بشار في البيت الذي يتولى الشارح تفسيره بهذه الكلمات
على أن هذه هنات طفيفة خفيفة لا تغض من قيمة كتاب قل أن تخرج المطابع مثله دقة في التصحيح والتنقيح، فالشكر الجزيل للأستاذ الناشر على جهده واهتمامه، وللجنة التأليف والترجمة والنشر على عنايتها بإخراج هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه أديب. . .
محمد فهمي عبد اللطيف