الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 949/النسيان في نظر التحليل النفسي

مجلة الرسالة/العدد 949/النسيان في نظر التحليل النفسي

مجلة الرسالة - العدد 949
النسيان في نظر التحليل النفسي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 09 - 1951


للآنسة فائزة علي كامل

- تتمة -

عرضنا نظرية (فرويد) الخاصة بالنسيان في المقالين السابقين وهي كما شاهدنا مملوءة بالآراء التي لا يستطيع أحد أن ينكر ما تمتاز به من الجدة والعمق. فقد طبعت النسيان بطابع ديناميكي وأقامته على أسس نفسية لم تخطر ببال أحد من قبل، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون موضع نقد، فالدراسة الدقيقة لها تبين أنها تثير مشكلات كثيرة اعترف بها أنصار فرويد أنفسهم.

لقد كان فرويد متطرفا في قوله: كل تلك الأفعال البسيطة التي تأتيها كفلتات اللسان وأخطاء السمع ونسيان الأسماء. الخ تقوم على الصراع النفسي والكبت. إنه بذلك جعل علتها هي علة الأمراض النفسية. فإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يتساءل الفرد: كيف يمكن أن تكون العلة واحدة وتؤدى إلى حالة مرضية مرة ولا تؤدى إلى ذلك مرة أخرى؟! واجه (رولاند دالبيز) هذه المشكلة، ووجد انه لا بد من تعديل نظرية فرويد فقال إن تلك الأفعال تحتل المستويات السطحية من البناء النفسي. . . فقالت تعرف الإثارة المكبوتة وهي شاعرة بنضالها ضدها. بعبارة أدق تستطيع أن تقول إن هذه المؤثرات التي تكون الصراع موجودة في مستوى (ما قبل الشعور) وهي في حالة (قمع) (رفض إيرادي شعوري) اكثر منها في حالة (كبت) (كيف لا شعوري أتوماتيكي).

كذلك أوضح (إرنست جونز) أنه ستنتج نتيجتان بناء على آراء فرويد: الأولى أنه لن يكون ثمة وجود للحالة العقلية العادية بمعنى أن كل فرد يصدر عنه ما يدل على نقصان في الوظيفة العقلية يتجلى في مادة مفصولة مكبوتة: وهذه العملية هي واحدة سواء لدى الأفراد الأقوياء أو المرضى بأمراض نفسية. وإذا أنعمنا النظر وجدنا أن تلك المادة المكبوتة هي نفسها التي ينتج منها العصاب. الثانية: أنه لا يوجد كما يجب حد فاصل بين الصحة العقلية والحالة المرضية. وسيكون التمييز بين هاتين الحالتين قائما على أساس اجتماعي، فإذا أدى الصراع إلى تعطيل القدرة الاجتماعية فإن الحالة تكون عصابا، أما إذا لم يحدث هذا فتكون بازاء شذوذ أو خلق شخصي. . . الخ.

في الواقع أن تفسير فرويد للنسيان في المجال العادي لا يمكن قبوله بسهولة. فمثلا يذكر (بير أنه نسى مرة مظلته بعد أن ألقى محاضرة في بلدة ما، ولم يجد أي تفسير شخصي لذلك النسيان كأن يقال تبعا لفرويد إنه كان مكرها على إلقاء هذه المحاضرة. . الخ إن السبب الوحيد هو عدم الانتباه. ويعترف (بير) بأنه أن كان حقا هذا التفسير لا يوضح لنا العلة في نسيان المظلة وعدم نسيان أي شئ آخر إلا أنه لا يمكن إنكار أن هذه العمليات الذهنية من عدم انتباه وتشتت الفكر. . الخ تساعد على النسيان كما تشجع الظلمة والوحدة اللص على السرقة.

وبالمثل يفند (دوجاس أقوال فرويد فيتذكر أن (نيوتن) نسى لزمن معين اكتشافه الخاص بحساب التفاضل، وكان (لينيه ينسى أحيانا أنه المؤلف أثناء انهماكه في قراءة مؤلفاته فكان يصيح قائلا: (ما أجمل هذا. .! ليتني أستطيع كتابة شئ مثله. .! ويقول (بسكال) إننا لو أجرينا له امتحانا فجأة دون سابق إنذار في محتوى مؤلفاته فإنه ربما يفشل في الإجابة. فلو أخذنا برأي (فرويد) فإن مثل هذا النسيان سيرد إلى عقدة مهنية ولكنه واضح أنه تفسير غير مقنع. فهنا كما يقول (دوجاس) يجب الرجوع إلى طبيعة الأشياء، فالنفس تستبعد منتجاتها الناضجة أو الأفكار والمشاعر التي لا تجد فيها ما يثير اهتمامها. إنها تنساها ولا تبالي بها، فهي تحاول التحرر من الأفكار كما تتحرر من الأهواء، ويقول (جتيه) إنه لا يكترث بالمؤلف الذي انتهى، فهو لا يشغله بعد ذلك لأنه ستوق إلى شئ جديد. فالمؤلف يصطنع حالة عقلية معينة لكل مؤلف من مؤلفاته. فطبيعي أن يترك هذه الحالة بانتهاء موجبها. ومثله كمثل الذي يتقمص شخصيات مختلفة تبعا للأدوار التي يقوم بها. فما لا شك فيه أن هذا النسيان أمر طبيعي. أما النسيان الذي يكون فيه فقدان دون تعويض، فتختفي الأفكار اختفاء تاما وتعرض وحدة الذات للخطر، ويحطم الاتزان العقلي. . ويكون هذا بداية لاضطراب نفسي. . فهنا هو النسيان المرضي.

في الواقع إن تطرف (فرويد) يرجع إلى أنه يقيم آراءه على حتمية صارمة. فما يحدث في النفس ليس بظواهر سابقة عليها وأخرى لاحقة بها. إنه لا يوجد محل للصدفة في المجال الجسمي؛ وكذلك يجب أن يكون الحال في الميدان العقلي. لهذا لا يقتنع فرويد برد بعض الأفعال إلى العادة؛ ولا يعترف بعلل عدم الانتباه والسهو وما شابه ذلك. ولكننا شاهدنا ما يثيره هذا المبدأ من اعتراضات وما يؤدي إليه من مآخذ.

وهكذا إننا لا نستطيع أن نتغاضى عن أنه يوجد نسيان يعد تبسيطا للشعور أو تقليلا من محتويات الذات، وهو نسيان عادي مفيد لأنه يصون النفس ويحميها من تعدد التأثيرات ويقيها شر التشتت فيجعلها تحافظ على وحدتها. فليس كل نسيان اسم أو كلمة يرجع إلى الكبت، وليست كل فلتة لسان ناتجة عن صراع نفسي دفين إن النسيان والتذكر وجهان لوظيفة عقلية واحدة، فالنسيان هو الذي يسمح بالانتقال من حالة ذهنية إلى أخرى. فإن أنفسنا تتبلور في أنظمة مختلفة من الأفكار والتصورات فينتج النسيان عند استبدال نظام بآخر. فإذا اختفت ذكرى معنية فإنما تختفي باعبتارها مجموعة من الأفكار ليس لها ضرورة. . ومن ثم انسحبت من الطريق لتفسح المجال لذكرى أخرى. إن الفكر العادي الكامل هو الذي لا ينسى شيئا يجب أن يحتفظ به، ولا يحتفظ بشيء يجب أن ينساه.

فائزة علي كامل