مجلة الرسالة/العدد 948/النسيان في نظر التحليل النفسي
→ الملك الشهيد | مجلة الرسالة - العدد 948 النسيان في نظر التحليل النفسي [[مؤلف:|]] |
الواقعية الفنية ← |
بتاريخ: 03 - 09 - 1951 |
للآنسة فائزة علي كامل
- 2 -
وقنا مع فرويد في المقال السابق على تفسير جديد للنسيان بناء على دراسته لبعض الأفعال التي تحدث في حياتنا اليومية كنسيان اسم شخص أو موضع شيء. . . الخ، وسنعرض هذه المرة لعملية النسيان في المجال المرضى. فهنا نجد أن فرويد قد نسب إلى هذه العملية أهمية بالغة إذ تبين إنها العلة لبعض الأمراض النفسية كالهستيريا. فما الذي أدى به إلى هذه النتيجة!
فيما قبل فرويد كانت توجد بديهية طبية هي (فكر تفكيرا تشريحيا) فكانت فكرة المرض مرتبطة بفكرة الإصابة. فمعنى أن نفكر تشريحيا هو أن ننظر إلى الإنسان من ناحية بناء جسمه ونتناسى الناحية الوظيفية للأعضاء. فنعتقد بوجود (أشياء) لا (أفعال). ولكن اتضحت مضار الأخذ بهذا الرأي إذ كان له أسوأ النتائج من الناحية العلاجية إذ ساد الأيمان بأن ما هدم أو فقد فلا أمل في برئه. فكان الأطباء يقفون مكتوفي الأيدي أمام مرض (الأفازيا) أي اختلال الوظائف اللغوبية) بناء على ذلك الأساس.
ثم عدل عن هذه البديهية وأخذ ببديهية أخرى هي (فكر تفكيراً فسيولوجيا) أي يجب ان نراعي الأفعال فلا نهمل ما تقوم به الأعضاء من وظائف. ولكن جاء فرويد وأظهر ان التفكير الفسيولوجي لا يكفي أيضاً، ويجب ان نفكر تفكيرا سيكلوجيا، ففي كثير من الحالات التي ترددت عليه وجد أن العلة مشكله سيكلوجيه. هذا بالإضافة إلى أبحاث (بروير التي ساعدته الى حد كبير على الوصول إلى ما وصل إليه خاصاً بالهستيريا.
فقد حدث أن جاءت (لبروير) فيما بين سنة 1880 وسنة 1881 فتاة تدعى تعاني حاله هستيرية. كانت في العشرين من عمرها، على جانب من الذكاء، طيبة القلب، تبالغ في مرحها وتفرط في حزنها. كانت تعيش في عالم من أحلام اليقظة إذ لم تشأ الظروف أن تجعلها تقع في شراك إحدى تجارب حب الشباب. وكانت أعراضها الهستيرية تنحصر في شلل الذراع الأيمن بصفة خاصة. وبعد أربعة شهور من ظهور هذه الأعراض توفى والدها فأصابها (التجوال النومي عقب ذلك عد (بروير) فترة حضانة المرض من بداية مرض والدها إذ كانت متعلقة به تعلقاً شديداً وتمضي كل وقتها في القيام بتمريضه. فبعد وفاته ازدادت حالتها سوءاً فاشتدت هلوستها التي كانت تدور حول الأفاعي ووصلت الى حد مرعب شنيع. وصارت تراودها فكرة الانتحار من حين لآخر وتصيبها غيبوبات في ميعاد واحد كل يوم. كذلك فقدت معرفتها للغتها الأصلية وهي الألمانية، وأصبحت لا تستطيع إلا تكلم اللغة الإنجليزية وأخيراً تكلمت الفرنسية والإيطالية.
ابتدأ (بروير) في تطبيق طريقته العلاجية مع هذه الفتاة فلاحظ إنها تعود الى حالتها الذهنية العادية عندما يساعدها أثناء التنويم المغناطيسي على تذكر الموقف والأشياء المرتبطة به مع إفساح المجال للانفعالات التي قد يثيرها هذا التذكر. فهذا التنظيف الروحي أدى الى اختفاء كثير من الأعراض، وكانت هي نفسها تسمي هذه الطريقة أو وقد كان ذلك تشجعاً (لبروير) على الاستمرار إذ كانت تصرح له المريضة بأن يدعها تتحدث لأنها تجد في ذلك شفاء.
ومن حديثها استطاع (بروير) الوصول إلى كيفية تكون العرض الخاص بشلل ذراعها. ففي ذات ليله كانت المريضة تجلس إلى جوار سرير والدها المريض واضعه ذراعها اليمنى على ظهر الكرسي. وفي حلم يقظة رأت أفعى سوداء تخرج من الحائط وتسعى للدغ والدها وهنا حاولت أن تبعدها ولكنها لم تستطيع. إذ شعرت بشلل في ذراعها الأيمن الذي كانمنملا) بحكم وضعه. وفي هذه اللحظة حاولت أن تصلي ولكنها وجدت أنها لا تعرف شيئاً من الألمانية ولم تجد في ذهنها إلا دعاء الإنجليزية فرددته.
وحدث أثناء العلاج أن ظهر عرض جديد. فكانت المريضة تأخذ كوب الماء في يدها ولكن ما كاد يلمس شفتيها حتى تدفعه بعيدا كما لو كانت تعاني مرض الهيدروفوبيا الخوف المرضي من الماء) فكانت لا تستطيع الشرب على الرغم من شدة الحر في تلك الأيام، وكانت تلجأ إلى أكل الفواكه مثل البطيخ لتخفيف من شدة عطشها. استمر الحال كذلك لمدة ستة أسابيع وفي ذات تحدثت أثناء نومها المغناطيسي عن مربيتها الإنجليزية التي كانت تكرها. ثم ذكرت حادثه مؤداها أن هذه المربية سمحت لكلب ذات مره أن يشرب من كوب كانت تشرب منه المريضة فتضايقت أشد المضايقة ولكنها اضطرت الى قمع اشمئزازها تأدبا. بعد أن سردت هذه الواقعة وعبرت تعبيراً قوياً عما سبب غضبها وأثار اشمئزازها طلبت كوبا من الماء وشربته، وأفاقت من غيبوبة التنويم المغناطيسي وكوب الماء على شفتيها. ومنذ هذه الجلسة زال خوفها من الماء وبالمثل اختفت كل أعراضها الهستيرية والقليل الذي بقي كان عضوي المنشأ.
انتهى (بروير) من هذه الحالة إلى نتيجتين: الأولى، وهي خاصة بالناحية العلية، ومجملها أن بعض الأعراض المرضية سببها ذكريات لا يستطيع الشخص استحضارها إراديا. . أي أنها على أنها ذكريات لا شعورية. الثانية، وتتعلق بالطريقة العلاجية، وهي تبين أن مجرد استكمال الذكرى المؤلمة المنسية في الشعور مع التصريف الانفعالي يؤديان إلى الشفاء. وقد قام التحليل النفسي على هاتين النتيجتين اللتين توصل إليهما (بروير) إذ اتخذ منهما (فرويد) بداية في أبحاثه في (العصاب العظيم) وهو الهستيريا. ففي عام 1895 ظهر لهما هما الاثنان بعنوان (دراسات في الهستيريا).
في هذا الكتاب أتى (فرويد) بآراء جديده على جانب من العمق فأظهر أن الهستيريا مرض نفسي يمتاز بضيق في ميدان الشعور. وكان (جانيه) يرجع ذلك الضيق إلى أسباب عضويه. . أما (فرويد) فإن كان لم يستبعد تلك الأسباب كليه إلا إنه أعلن أنها لا تعد تعليلا كافيا. ففي نظر (فريد) أن فشل بعض التصورات في شق طريقها الى الشعور إنما يرجع إلى استبعادها نتيجة لانعكاس دفاعي، فهذه التحولات محملة بشحنه مؤلمة لتعارضها مع الميول الرئيسية الموجودة في الشعور. ولذلك فإنها تكبت ومن ثم فالهستيريا تقوم على الكبت. وهذه أول إضافة فرويد إلى آراء (بابنسكي) و (جانيه).
لقد اتفق (فرويد) مع (جانيه) على أن علة الاضطراب الهستيري هي التأثير اللاشعوري، ولكن فيما عدا ذلك فإنه يوجد تباين شديد بين آرائهما. فالنسبة لجانيه يمكن أن يشبه النشاط النفسي بقاطرة إذا توقفت فذلك يرجع أما إلى كسر أو التواء في بعض أجزائها. وهذا يمثل التوتر. وإما إلى حاجة القاطرة الى ماء أو فحم، وهذا يمثل الاضطراب الديناميكية النفسية أو العصبية التي يمكن إصلاحها. أما فرويد فينظر الى الامر نظرة أخرى. . فهو يمثل النشاط النفسي بقاطرتين إذا سارتا في اتجاهين متقابلين في طريق واحد فإنهما سيتصادمان ولن يستطيعا التقدم، وهذا يمثل نوعا جديدا من الاضطراب لم يقل به أحد قبل (فرويد) وهو الكف فهذا الاضطراب لا يرجع إلى التوتر ولا الى نقص عصبي أو نفسي وإنما يرجع إلى اضطرابات ديناميكية متقابلة. فآراء فرويد مركزة حول فكرة إيجابية هي الصراع بينما آراء (جانيه) تدور حول فكرة سالبة هي النقص
وثمت فكرة اخرى فسرها (فرويد) وهي الاعراض الجسمية الهستيرية كانحباس الصوت او الرجفة او الشلل. وقد اطلق عليها اسم (الهستيريا التحولية) فهذه ليست الا الطاقة المؤثرة المكبوتة المتجمعة في اللاشعور. ولكن كيف يمكن لهذه الطاقة ان تتحول الى اعراض جسمية؟ يجيب (فرويد) بان العرض الهستيري مثله كمثل الحلم. فهو يدل على رغبة مكبوتة يجب الا تظل كذلك لانها ما دامت هي مدفونة في اللاشعور فانها لنتكف عن التعبيرعن نفسها بواسطة اعراض شديدة الاختلاف انه لا يكفي استبعاد الاعراض لان مثل ذلك كمثل من يقطع الاعشاب السطحية ويبقى على الجذور. فالمصابون بالاعراض الهستيرية لم ينتهوا بعد من الموقف المؤلم او الصدمة التي لحقت بهم، انهم يظلون متعلقين بالموقف الماضي ويصبحون غرباء عن الحاضر والمستقبل. ثم يختفي ذلك الموقف في طيات النسيان ويصبح لا شعوريا ويحل محله الاعراض الهستيرية التي ما هي الا الصراع فيصور، مختلفة. ولا يحدث ذلك من صدمة واحدة وانما بعد معاناة عدة صدمات. وهو يعني بالصدمة كا ما يجلب استثارة في الحياة النفسية تبلغ حدا من العنف بحيث يصبح قمعها او التسامي بها امرا مستحيلا بواسطة الطرق العادية. فتلك هي العلة الحقيقية لنشوء المتاعب الهستيرية.
وقد اشار (فرويد) الى نقطة هامة وهي ان كل عرض هستيري يكشف بوجه عام عن مجموعة من التأثيرات حدثت في حياة المريض فيما مضى ويؤكد انه نسبها تماما. وقد ترجع هذه التأثيرات الى السنين الاولى من الحياة. . ولذلك فان (فرويد) ينظر الى حياة الفرد كتيار متصل تترابط فيه الميول والرغبات. وهو يعتقد ان خلق الشخص يتكون قبل نهاية الخمس سنوات الاولى من العمر، ونحن اذا انكرنا ذلك فانما نعلن جهلنا بالعمليات العقلية لمرحلة الطفولة ومالها من تأثير لا شعوري. كذلك قد يرجع ذلك الانكار الى نسيانها لهذه الفترة من الحياة، ذلك النيسان الذي يحتاج الى تفسير لانه ليس عملية فسيولوجية طبيعية في نظر (فرويد).
بقول (فرويد) ان سبب نسياننا لمرحلة الطفولة الكبت الذي يقوم بدور كبير في مرحلة التعليم المبكرة. فالاطفال يأتون وهذا العالم وهم مزدون بميول ورغبات بريئة تتناسب وسنهم، ولكن هذه الرغبات وتلك الميول لا تتفق وعقلية الكبار الذين يعملون بكل ما في وسعهم لفطم الطفل عنها وتوجيه ذهنه الى ميول اخرى. وهذا ما يسمى (بالتسامي). ومن هنا يضطر الطفل الى قمع ميوله البدائية ودفنها في اللاشعور. ولكن هذه الميول والرغبات المكبوتة لا تفقد شيئا من ديناميكيتها مدى الحياة، فاذا لم تكف طرق التسامي للتخفيف من الطاقة التي تحتوي عليها فان النفس تعمل على تصريف تلك الطاقة بشتى الطرق ولو ادى ذلك الى ظهور اعراضمرضية. فالاعراض العصابية تمثل في صورة مثيرة تحقيق الرغبات المكبوتة.
ان للنسيان اهمية بالغة في الحياة النفسية، ولذلك يقول (فرويد) ان ما يجب عمله ازاء فكرة ينقصها معنى او عمل ليس له هدف هو ان نعثر على الموقف الماضي الذي تحققت فيه الفكرة ووصل العمل الى هدف. (وكان (جانيه) يستخدم التنويم المغناطيسي ليصل الى ذلك الموقف الماضي ثم يهاجم الافكار بعد ظهورها بوسائل مختلفة كالايحاء او ايجاد عناصر منافسة لها او تحل محلها. ولكن تبين (بروير) و (فرويد) انه لا يمكن استعمال التنويم المغناطيسي في جميع الحالات واكتشفا ان اكمال الذكرى المؤلمة باعادة الجزء المنسي منها الى الشعور مع التصريف الانفعالي. . فيهما الكفاية للشفاء وزوال الاعراض. لهذا لم ياخذا بالابحاء المباشر لمحاربة الاعراض ولم يوافقا على استبدال افكار بافكار. لقد حصرا العلاج التحليلي في حل العادات المرضية وذلك باستذكار الحوادث التي نبعث منها. فيجب ملء كل الثغرات التي في ذاكرة المرضى، أي يجب استبعاد (الامنيزيا) وجعل كل ما هو لا شعوري شعوري.
اما سر زوال الاعراض بمجرد استحضار الذكريات المنسية فيرجع الى ان التحليل النفسي يحول العرض الى صورته الاصلية. هذا من جهة. ومن جهة اخرى نلاحظ ان التداعي الحر يسمح للمريض باسترجاع الذكريات المؤلمة على دفعات. فما لوحظ ان الذكرى المكدرة لا تسترجع اولا وانما تأتي الافكار التي ترتبط بهذه الذكرة. . ومنها يتدرج الى الذكرى المؤلمة حقا. وهكذا فان المريض لا يواجه ما ينغصه مرة واحدة. . بل يأخذه جرعة فجرعة، يضاف الى ذلك ان وجود المحلل يشجع المريض ويقوي انيته، فكل اضطراب نفسي له علله مهما كان غموضه في الظاهر، وعمل المحلل الكشف عن هذه العلل. . ولا يستطيع القيام بذلك الا من هيىء ليقابل بهدوء كل محتويات الذهن اللاشعورية. . وكان لديه خبرة بطريقة حل الصراع.
البقية في العدد القادمفائزة علي كامل