مجلة الرسالة/العدد 947/ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 947 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين [[مؤلف:|]] |
الملك الشهيد عبد الله بن الحسين ← |
بتاريخ: 27 - 08 - 1951 |
للأستاذ سيد قطب
ما أحوج المسلمين اليوم إلى من يرد عليهم إيمانهم بأنفسهم، وثقتهم بماضيهم، ورجائهم في مستقبلهم! ما أحوجهم لمن يرد عليهم إيمانهم بهذا الدين الذي يحملون اسمه ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة أكثر مما يتخذونه بالمعرفة!
وهذا الكتاب الذي بين يدي: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لمؤلفه (السيد أبي الحسن علي الحسن الندوي) من خير ما قرأت في هذا الاتجاه، في القديم والحديث سواء
إن الإسلام عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة في غير كبر، وروح الثقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تواكل. وأنها تشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبعة القيادة للقطعان الضالة، وهدايتها إلى الدين القيم والطريق السوي، وإخراجها من الظلمات إلى النور بما آتاهم الله من نور الهدى والفرقان: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). . (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً.
وهذا الكتاب الذي بين يدي، يثير في نفس قارئه هذه المعاني كلها، وينفث في روحه تلك الخصائص جميعاً. ولكنه لا يعتمد في هذا على مجرد الاستثارة الوجدانية أو العصبية الدينية بل يتخذ الحقائق الموضوعية أدانه، فيعرضها على النظر والحس والعقل والوجدان جميعاً؛ ويعرض الوقائع التاريخية والملابسات الحاضرة عرضاً عادلاً مستنيراً؛ ويتحاكم في القضية التي يعرضها كاملة إلى الحق والواقع والمنطق والضمير، فتبدو كلها متساندة في صفه وفي صف قضيته، بلا تمحل ولا اعتساف في مقدمة أو نتيجة.
وتلك مزية الكتاب الأولى
انه يبدأ فيرسم صورة سريعة - ولكنها واضحة - لهذا العالم قبل أن تشرق عليه أنوار الإسلام الأولى. يرسم الصورة لهذا العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً من الهند والصين إلى فارس والروم، صورة المجتمع وصورة الضمير في هذه الدنيا العريضة في الجامعات التي تضلها الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية والتي تضلها الديانات الوثنية كالهندوكية والبوذية والزرادشتية وما إليها. . .
إنها صورة جامعة تعرض رقعة العالم وتصفها وصفاً بيناً، لا يتعسف المؤلف فيه ولا يستبد؛ إنما يشرك معه الباحثين والمؤرخين من القدامى والمحدثين، وممن يدينون بغير الإسلام، فلا شبهة في أن يكونوا مغرضين له، وللدور الذي أداه في ذلك العالم القديم
إنه يصف العالم تسيطر عليه روح الجاهلية، ويتعفن ضميره، وتأسن روحه؛ وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية؛ وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التعس؛ وتغشاه غاشية من الكفر والظلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة لا حياة فيها ولا روح؛ وبخاصة المسيحية التي يصورها مستر (ج. هـ. دينسون) صورة دقيقة في كتابه فيقول:
(في القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى؛ لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يكن ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها، وكان يبدو إذ ذاك أن المدينة الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال، وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام
أما النظم التي خلفها المسيحية، فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلا من الاتحاد والنظام. وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله. . واقفة تترح، وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب. . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه
. . . فإذا فرغ المؤلف من رسم صورة العالم في جاهليته هذه بدأ يعرض دور الإسلام في حياة البشرية، دوره في تخليص روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال، ودوره في تخليص المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات واستبداد الحكام واستذلال الكهان، ودوره في بناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة
كل أولئك في أبان الفترة التي كانت القيادة فيها للإسلام في أي مكان، والتي كان الإسلام فيها يعمل. وهو لا يستطيع أن يعمل إلا أن تكون له القيادة، لأنه بطبيعته عقيدة استعلاء، ومنهج قيادة، وشرعة ابتداع لا اتباع
ثم تجيء التي فقد الإسلام فيها الزمام، بسبب انحطاط المسلمين وتخليهم عن القيادة التي يفرضها عليهم هذا الدين، والوصايا التي يكلفهم بها على البشرية، والتبعات التي ينو طها بهم في كل اتجاه
وهنا يستعرض المؤلف أسباب هذا الانحطاط الروحي والمادي ويصف ما حل بالمسلمين أنفسهم عندما تخلوا عن مبادئ دينهم ونكصوا عن تبعا تهم؛ وما نزل بالعالم كله من فقدان لهذه القيادة الراشدة، ومن انتكاس إلى الجاهلية الأولى. ويرسم خط الانحدار الرهيب التي ترتكس فيه الإنسانية في ذات الوقت التي تفتح فيه آفاق العلم الباهرة. يرسم هذا الخط رسماً حياً مؤثراً عن طريق التأمل الفاحص، لا بالجمل النارية والتعبيرات المجنحة. فالحقائق الواقعة كما عرضها المؤلف فنية عن كل بهرج وكل تزويق
ومن خلال هذا الاستعراض يحس القارئ بمدى الحاجة البشرية الملحة إلى تغيير القيادة الإنسانية، وردها إلى الهدى الذي انبثق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى المعرفة. ويشعر بالقيمة الكلية لوجود هذه القيادة في الأرض، وبمدى الخسارة التي حلت بالبشر جميعاً، لا بالمسلمين وحدهم في الماضي والحاضر وفي المستقبل القريب والبعيد. . كذلك يثور في نفس المسلم بصفة خاصة روح الندم على ما فرط، وروح الاعتزاز بما وهب، وروح الاستشراف إلى القيادة التي ضيع
ولعله مما يلفت النظر تعبير المؤلف دائماً عن النكسة التي حاقت بالبشرية كلها منذ أن عجز المسلمون عن القيادة بكلمة (الجاهلية)
وهذا تعبير دقيق الدلالة على فهم المؤلف للفارق الأصيل بين روح الإسلام، والروح المادي الذي سيطر على العالم قبله، ويسيطر عليه اليوم تخلى الإسلام عن القيادة. . إنها (الجاهلية) في طبيعتها الأصيلة: فالجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة، ولكنها طابع روحي وعقلي معين. طابع يبرز بمجرد أن تسقط القيم الأساسية للحياة البشرية كما أرادها الله، وتحل محلها قيم مصطنعة تستند إلى الشهوات الطارئة، والنزعات الهابطة. وهذا ما تعانيه البشرية اليوم في حالة الارتقاء الآلي، كما كانت تعانيه من قبل في أيام البربرية الأولى
(فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله، والإيمان باليوم الآخر. وجائزته هي الخروج من الظلمات إلى النور ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر، فقد افتضحت الجاهلية، وبدت سوأتها للناس، واشتد تذمر الناس منها. فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام، لو نهض العالم الإسلامي، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماسة وعزيمة، ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تقف العالم من الانهيار والانحلال. . .) كما يقول المؤلف الفاضل قرب نهاية الكتاب
وأخيراً فإن الخصيصة البارزة في هذا الكتاب كله هي الفهم العميق لكليات الروح الإسلامية في محيطها الشامل. وهو لهذا يعد نموذجاً لا للبحث الديني والاجتماعي فحسب. بل نموذجاً كذلك للتأريخ، كما ينبغي أن يكتب من الزاوية الإسلامية
لقد مضى الأوربيين يؤرخون للعالم كله من زاوية النظر الغريبة، متأثرين بثقافتهم المادية، وفلسفتهم المادية؛ ومتأثرين كذلك بالعصبية الغريبة؛ والعصبية الدينية - شعروا بذلك أم لم يشعروا - ومن ثم وقعت في تأريخهم أخطاء وانحرافات، نتيجة إغفالهم لقيم كثيرة في هذه الحياة، لا يستقيم تاريخ الحياة ولا يصح تفسير الحوادث والنتائج بدونها، ونتيجة تعصبهم الذي يجعل أوربا في نظرهم هي محور العالم ومركزه دائماً؛ ولإغفالهم العوامل الأخرى التي أثرت في تاريخ البشرية، أو التهوين من شأنها إذا لم يكن مصدرها هو أوربا
ولقد درجنا نحن على أن نتلقف التاريخ من أيدي أوربا كما نتلقف كل شيء آخر، نتلقفه بأخطائه تلك، وهي أخطاء في المهج بإغفال قيم كثيرة وعوامل كثيرة، وأخطاء في التصوير نتيجة النظر من زاوية واحدة للحياة البشرية، وأخطاء في النتائج تبعاً للأخطاء المنهجية والتصويرية
وهذا الكتاب الذي بين يدي نموذج للتاريخ الذي ينظر للأمور كلها، وللعوامل جميعها، وللقيم على اختلافها. ولعل القارئ لم يكن ينتظر من رجل مسلم واثق بقوة الروح الإسلامي متحمس لرد القيادة العالمية إليه. . أن يتحدث عن مؤهلات القيادة، فلا ينسى بجوار (الأستعداد الروحي) أن يلح في (الاستعداد الصناعي والحربي) و (التنظيم العلمي الجديد) وأن يتحدث عن الاستقلال التجاري والمالي
انه الإحساس المتناسق بكل مقومات الحياة البشرية. وبهذا الإحساس المتناسق سار في استعراضه التاريخي، وفي توجيهه للأمة الإسلامية سواء. ومن هنا يعد هذا الكتاب نموذجاً للتأريخ كما يجب أن يتناوله المسلمون، مستقلين عن التأثر بالطريقة الأوربية، التي ينقصها هذا التناسق، وهذه العدالة، وهذا التحقيق
وانه ليسعدني أن أتحدث عن هذا الكتاب بذلك الإحساس ذاته، وأن أسجل هذه الظاهرة وأنا مغتبط بهذه الفرصة التي أتاحت لي أن أطلع عليه في العربية. . اللغة التي أثر صاحبه أن يكتبه بها، وأن ينشره في مصر للمرة الثانية: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد)
سيد قطب