الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 946/عبد الرحمن بن الأشعث

مجلة الرسالة/العدد 946/عبد الرحمن بن الأشعث

مجلة الرسالة - العدد 946
عبد الرحمن بن الأشعث
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 08 - 1951


للأستاذ حمدي الحسيني

لم يكن في العراق رجل أبغض إلى الحجاج من عبد ارحمن ابن الأشعث لخيلائه وزهوه وطموحه وعلو همته. ولم يكن في العراق رجل أبغض إلى أين الأشعث من الحجاج لقوته وحزمه ويقظة عينه وقلبه. كان الحجاج يقول: (والله ما رأيت ابن الأشعث قط إلا أردت قتله. وقد رآه ذات يوم يختال في مشيته مزهوا فقال لبعض أصحابه: انظر إلى مشيته والله لهممت أن أضرب عنقه. فنقلت هذه القولة إلى ابن الشعث فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه فأجهد الجهد إذا طال بي وبه بقاء. ولكن كره الحجاج لابن الشعث هذا الكره ومجدته عليه كل هذه الموجدة لم تمنع الحجاج من انتدابه للأمر الخطير، وتوجيهه إياه للتغلب على الصعوبة العظيمة والخطب الجسيم

نقض روتبيل ملك الترك شروط الصلح بينه وبين المسلمين فساء ذلك الحجاج وكربه فامر عامله علي سجستان أن يغزو روتبيل فيستبيح أرضه ويهدم قلاعه ويقتل مقاتلته ويس ذريته فصدع بالأمر وغزا فتظاهر الترك أمام الغزاة بالهزيمة وما كاد المسلمون يوغلون في البلاد حتى أطبق عليهم أهلها إطباقه محكمة، فذعر المسلمون ذعرا شديداً واضطروا أن يطلبوا الصلح من رتبيل ولكن أي صلح؟ طلبوا من رتبيل أن يصلاحهم على أن يدفعوا له مبلغا عظيما من المال لقاء أن يفتتح لهم طريقا للانسحاب فانسحب المسلمون وهم في أسو حال. وصل خبر الهزيمة إلى الحجاج فقام له وقعد وبرق ورعد، فكتب إلى عبد الملك يقول إن جند أمير المؤمنين الذين بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل. وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم وغلبوا على حصونهم وقصورهم. وقد أردت أن أوجه إليهم جهدا كثيفا من أهل المصرين فأحببت أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك فإذا رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده مع إني أتخوف إن لم يأت روتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك القطر كله. فأجابه عبد الملك: أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان وأولئك قوم كتب اللع عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وعلى الله ثوابهم. وأما ما أردت أن يأتيك فيه رأي من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك القطر إلى أصيب فيه المسلمون أو كفها فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشداً موفقاً

ما كاد يصل أمر الخليفة إلى الحجاج بالتعبئة العسكرية حتى عبأ أربعين ألفا من أهل الكوفة والبصرة، أعطاهم أعطياتهم كاملة وسلحهم بأحسن السلاح وحملهم على أروع الخيول وأخذ يستعرضهم استعراضا عسكريا فلا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، ولكن من لهذا الجيش (جيش الطواويس) كما كان يسميه الحجاج يقوده فيؤدب به أولئك المشركين الغادرين ويسترجع بلادا إسلامية تكاد تطير من حظيرة الإسلام؟ ليس لهذا الأمر العظيم غير عبد الرحمن بن الأشعث. فولاه الحجاج على قيادة هذا الجيش العظيم برغم نصيحة إسماعيل بن الأشعث له بعدم تولية عبد الرحمن إذ قال للحجاج: لا تبعثه فإني أخاف خلافه والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطاناً

طار عبد الرحمن إلى سجستان فما كادت قدمه تطأ أرضها حتى جمع الناس فصعد المنبر ثم قال: أيها الناس إن الأمير الحجاج ولاني وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم. فإياكم أن يختلف منك رجل فيحل بنفسه العقوبة. اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس. فعسكر الناس كلهم في معسكرهم فبلغ ذلك روتبيل فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره بأنه كان لذلك كارها الصلح عليه ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج. ولكن عبد الرحمن عرف أن روتبيل يخادعه فلم يعبأ بقوله وسار بجيشه الجرار حتى دخل بلاد المشركين فانكمش المشركون أمامه انكماش هزيمة، وأخذوا يحلون له بلادهم بلدا بلدا وحصونهم حصناً. . حصناً، فأخذ عبد الرحمن كلما حوى بلدا بعث إليه عاملا وبعث معه أعوانا، ووضع البرد بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على المرتفعات والشعاب، ووضع المخافر المسلحة في كل مكان مخوف. حتى إذا حاز من أرض المشركين قسطاً عظيما وملأ يديه من الغنائم والأموال وقف الزحف وقال: نكتفي بما أصبناه هذا العام من بلادهم حتى نجيبها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم تحتل في العام المقبل ما ووراءها، ثم لم نزل تنتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذر أريهم وممتع حصونهم ثم لا تزال بلادهم حتى يهلكهم الله

كتب عبد ارحمن بن الأشعث إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو وبخطته العسكرية التي وضعها للاستيلاء التدريجي على بقية البلاد المغزوة فأجابه الحجاج: إن كتابك أتاني وفهمت ما ذكرت فيه وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة. قد صانع عدوا قليلا ذليلا قد أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا وغناؤهم في الإسلام عظيما. لعمرك إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لتحي النفس عمن أصيب من المسلمين

إني لم أعد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأي مكيدة ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك والثياث رأيك فامض لما أمرتك به الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلهم وسلب ذراريهم ثم أردفه كتابا آخر قال فيه: مر من قبلك من المسلمين فليحرثوا ويقيموا فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم أردفه كتابا ثالثاً قال فيه: امض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم وإلا فإن إسحاق بن محمد أخاك أمير الناس فخله وما وليته. بمثل هذه اللهجة القاسية المذلة يخاطب الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث الحاقد الطموح القابض على زمام أكبر جيش مؤلف من أهل البصرة والكوفة الحاقدين على الحجاج وبني أمية. في حين أن ابن الشعث قد عمل عملا حربيا صحيحا أنتج طيبة وارتأى رأيا عسكريا فيه الشيء الكثير من الحكمة والحزم، فكان على الحجاج إما أن يقره على رأيه ويناقشه مناقشة تقوم على حفظ الكرامة وعدم إثارة كوامن الحقد في نفسه. ولننظر الآن الأثر الذي أحدثته كتب الحجاج لابن الأشعث

جمع ابن الأشعث الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني لكم ناصح ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم وأولي التجربة في الحرب منكم فرفضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، وقد كتب إلى أميركم الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو وهي البلاد التي هللت إخوانكم فيها بالمس وإنما رجل منك أمضي إذا مضيتم وأبي إذا أبيتم وماك ينتهي ابن الشعث من خطابه حتى هب الجيش محتجا على الحجاج ثم أفضى الأمر إلى خلع الحجاج وإعلان العصيان له والخروج عليه، وهذا ما أراده ابن الأشعث الطموح المزاحم للحجاج على إمرة العراق. خلع جيش العراق الحجاج وبايع ابن الأشعث فهب عبد الرحمن يقود الجيش إلى العراق ليحتله ويتربع على كرسي الحكم فيه. وكان ابن الأشعث يضمر أكثر من هذا فقد كان يضمر خلع عبد الملك وانتزاع الخلافة منه. وصل خبر انتفاض إلى الحجاج فأبلغه الحجاج في الحال إلى عبد الملك فكان وقع الخبر على الحجاج وعبد الملك عظيما جدا لأنهما كانا يقدران لابن الشعث قدره ويعرفان مبلغ حقد أهل العراق على الحجاج والأمويين كل المعرفة، ولكنهما استعدا لمقاومة ابن الأشعث بجيوش هل العراق فتولى الحجاج القيادة بنفسه وسار بجيشه يستقبل ابن الأشعث في طريق للأهواز فوقعت بين الفريقين معركة دامية انهزم فيها الحجاج فاستولى ابن الأشعث على البصرة فبايعه أهل البصرة جميعهم على حرب الحجاج وخلع عبد الملك، ولكن الحجاج لم يضعف أمام هذه الصدمة فاستعد لمعركة أخرى وقعت بينه وبين أبن الأشعث في الزاوية التي دارت فيها الدائرة على الحجاج أيضاً فاستجابت مدن العراق لابن الأشعث بعد هذا النصر فتزجه إلى الكوفة فخرج إليه أهلها يستقبلونه استقبال المنقذ لهم من براثن الحجاج فأصبح الحجاج ولا أثر لسلطانه على البصرة والكوفة، فاتصل الخبر بعبد الملك ففزع له وتوقع أسوأ العواقب فبعث بأخيه وابنه إلى أهل العراق الثائرين يعرض عليهم شروطا للصلح تقوم على عزل الحجاج عن العراق وتولية ابن الأشعث مكانه فرفض الثوار شروط الصلح رفضا باتا، فأخذ الحجاج يقاتل الثوار برغم ما تركته محاولة عبد الملك الصلح مع الثوار في نفسه من الألم

جرت بين الفريقين حروب كثيرة ومعارك حامية الوطيس في دير الجماجم بالقرب من الكوفة كانت نتيجتها انهزام جيش ابن الأشعث ففر ابن الشعث إلى بلاد روتبيل فدخلها لاجئا وعاد الحجاج إلى ما كان له سلطان في العراق وكان من أمر ابن الأشعث أن قبض عليه روتبيل وقتله وقبض على أهل بيته أرسلهم مع رأس عبد الرحمن إلى الحجاج كسبا لمرضاته

حمدي الحسيني