مجلة الرسالة/العدد 943/الكتب
→ رسالة النقد | مجلة الرسالة - العدد 943 الكتب [[مؤلف:|]] |
من هنا ومن هناك ← |
بتاريخ: 30 - 07 - 1951 |
نظرات في إصلاح الريف
تأليف الأستاذ عبد الرزاق الهلالي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(143 صفحة، مطابع دار الكشاف ببيروت - الطبعة الثانية)
والمياه النقية، لا تزال بعيدة عن (88) قصبة وقرية، يتراوح عدد السكان في كل منها من ألف إلى ألفين.
وأما التعليم في الريف فلا يزال في مراحله الأولى، إذ تبلغ نسبة الأميين في العراق اثنتين وتسعين في المائة، وأكثرهم يعيشون في الريف.
والجهود التي بذلت لنشر التعليم هناك تتضاءل إذا ما قورنت بما يبذل في سبيل التعليم في المدن، ومراكز الأقضية، ومرد ذلك إلى عدم وجود سياسية تعليمية خاصة بنشر التعليم بين أبناء الريف، وموقف بعض الشيوخ، ورؤساء العشائر، ومقاومتهم رسالة المدرسة والمعلم، لرغبتها الشديدة في بقاء القديم على قدمه، وترك الناس في الريف كالأنعام، في ضلالهم يعمهون.
يقول بول منرو في تقريره عن إصلاح المعارف في العراق، (والمشكلة التي تستوجب اهتمامنا هي مشكلة القرية الزراعية. إن منهج المدارس المعمول به في القوت الحاضر، منهج مدني، يتضمنن على الأكثر، درس اللغات بصورة مشددة، وهو ما لا تحتاج إليه الحياة الريفية، وليس منهج المدرسة محشوا بإفراط فحسب، بل إنه لم يؤسس على أسس رشيدة، إذ لا يتلاءم والاحتياجات الريفية. . .)
ويعاني معلم القرية في مشاكل العيش، وما لا يجده أمثاله في غير الأرياف، فوسائل الراحة مفقودة، ذلك إلى جانب ما يجده من مقاومة الشيوخ والرؤساء الأقطاعيين، كتهديد حياته، ونهب أمواله، وسرقة أمتعته.
والذي يحول بين الفلاح وبين تعليم أبنائه، اضطراره إلى النقل من مكان إلى آخر، جري وراء الرغيف، غير مستقر في مكان، لأنه لا يملك أرضا يستقر عليها.
هنالك في أرياف العراق (449) مدرسة للبنين، عدد طلابها (82128)، وعدد معلميها (1489)، وفي ذلك أيضا مدارس للبنات عددها (24) مدرسة، وعدد طالباتها (1408) ومعلماتها (79) معلمة.
وفي المدن العراقية مدارس للبنين والبنات يبلغ عدد طالباتها وطلابها (78118)، وعدد المعلمات والمعلمين (3030)
ونحن إذا ألقينا نظرة دقيقة على هذه الأرقام، وجدنا أن مدارس القرى تزيد في عددها على مدارس المدن بمقدار (82) مدرسة، ووجدنا طلاب المدن وطالباتها يزيدون على القرى بمقدار (34482)، وأن زيادة عد المعلمات والمعلمين تبلغ (1517) أيضا.
ونخلص من هذه المقارنة بنتيجة تهز مشاعرنا هزا عنيفاً شديدا، ذلك أننا نجد سبعين في المائة من سكان يملئون ريف العراق لا يقام لهم وزن، ولا يحسب في توزيع عدالة التعليم بين أبناء الشعب، وإنما على النقيض من ذلك يعطى الاهتمام لمن يعيشون في المدن وعددهم اثنتان وعشرون في المائة من السكان، وذلك يستدعي من المسئولين تبديل نظراتهم إلى التعليم الريفي، وإعطاء ما يستحق من الاهتمام، لأن الفلاحين يؤلفون هيكل الأمة العظمى، ولا حياة لجسد هيكله العظمى غير سليم.
والمساكن في الريف تتألف من بيوت حقيرة صغيرة مبنية من القصب، أو اللبن أو الطين، بغير ترتيب، فهي ضيقة لا يدخلها النور والهواء، يعيش فيها الإنسان جنبا إلى جنب مع الحيوان، طرقها معوجة تكثر فيها الحفر والأكوام الأوساخ، والبرك التي تنتشر منها الروائح الكريهة، وعلى الرغم من سعة الأراضي في العراق، فإنها متلاصقة، دون نظام وخالية من المرافق
العامة.
وحالة العمال الذين يعيشون في المدن وضواحيها لا يقل في سوئها عن الريف. فإن الزائر الذي يزور بغداد، ويعرج على محلة (الشيخ عمر)، و (باب الشيخ) و (العاصمة)، ووراء سدة (ناظم باشا)، وغيرها من الجهات، يؤسفه اشد الأسف أن يرى هذه الألوف العديدة من أبناء البلاد، في هذا الوضع السيئ على الرغم من أنهم يعيشون ضمن حدود أمانة العاصمة وما يضيق على بغداد يصدق على جميع مدن العراق.
وحاول المسؤولون تشييد قرى حديثة تتوفر فيها الوسائل الصحية في بيوتها، فصدر عام 1926 القانون رقم (70) ولكنه بقي حبرا على ورق، ولو نفذ في حينه، لكان لسكان الأرياف في العراق الآن، قرى صحية نموذجية، تليق بكرامة الإنسان، وتلا ذلك محاولتان فاشلتان في السنتين 1941و1949.
وهجرة الفلاحين من الأرياف إلى المدن، ظاهرة اجتماعية شديدة الخطر على قطر زراعي كالعراق، وسببها انحطاط مستوى المعيشة، وسوء العلاقة بين الفلاحين والشيوخ، وما يثقل كاهلهم من تبعات وأعمال، ثم ما يشعر به شبابهم من غبن، بعد عودتهم من خدمة العلم، حيث لا يجدون وجها للمقارنة بين حياتهم في القرى وبين حياة الناس في المدن.
ولقد ملأ هؤلاء المهاجرون مدينة بغداد، والبصرة، والناصرية، والعمارة، وارتضوا لأنفسهم الحياة في الأكواخ الحقيرة، التي نراها منتشرة في جهات متعددة من بغداد، وفي الفجوات بين قصورها، فتعقدت بهجرتهم مشكلة الفقر في المدن، وازدادت المتاعب الصحية والإدارية، والأمن، لأن الفقر كثيرا ما يدفعهم إلى السرقة، وارتكاب الجرائم، ذلك إلى جانب الارتباك الاجتماعي الذي يحدثه وجود جماعات لا يشعرون برابطة نحو أحد، وأثر ذلك المباشر على كثير من التراخي في الضبط الاجتماعي، وظهور المشاكل الإدارية، والأخلاقية والنفسية، ويزيد في المشكلة، الفيضان السنوي الذي يدمر في العادة، أكواخ هؤلاء التعساء، ومصيرهم بلا مأوى، هائمين على وجوهم، فيولدون ارتباكا لسلطات الأمن. وقد فشلت الحلول التي تفضي بإعادتهم إلى الأرياف التي هاجروا منها.
هذه لمحات عابرة، صور فلم المؤلف حقائقها تصويرا رائعا استمده من قلب ينبض بحب الخير المطلق، وهو في هذا التصوير الدقيق، لا يهدف إلى التجريح والإيلام إلى تشخيص الداء العضال، ليتيح الفرص للمخلصين، فيتقدمون بالعلاج الناجع. وهو في هذا العمل، أشبه ما يكون بالطبيب الحاذق الرحيم، يمد أدواته الجراحية إلى جسم المريض وهي تحمل في أطرافها الحادة، المعاني التي تخفف الألم، وتزيل الأوجاع.
والجرأة على تصوير الحقائق المريرة، التي ينفر الناس من النظر إليها، ولا يقوون على مواجهتها، التي هي بطولة لا يتقدم إلى ميدانها الأصيل، إلا كل مغامر جرئ، لا يخشى الباطل ويقاوم المنكر بأقوى الأيمان.
والرياء الاجتماعي، والنفاق الرخيص الخسيس، والشعور بالحقارة، إنما هي العار الذي قد التصق بجيل العبيد الحاضر، فراح الناس في غمرتها يسمون الأسماء بغير مسمياتها، ويسيرون في ركاب الباطل، ولكن بعض النفوس الأبية في بعض شباب هذا الجيل قد تمردت على هذا الهوان، ولم تسر وراء القطيع في طريق الاستعباد.
والمعجزة التي تنتظر حدوثها الأرواح الخاملة، لترفع مجتمعنا من الهوان الذي تردى فيه، لن تحدث أبدا، ذلك لأن زمن المعجزات قد سار في ركاب الأنبياء. وتوارى في ظلام الزم البعيد. والمعجزة إنما يجب أن ينبثق نورها من إيماننا العميق بالإصلاح الاجتماعي العاجل، ذلك الإصلاح الذي يملأ المعد الجائعة بالخبز، والأدمغة الفارغة بالعلم الصحيح، والنفوس المستغربة الحقيرة الخاملة بالرجولة، وبمعاني الكرامةالقومية والعزة الإسلامية، فتبادر إلى العمل المنتج، وتشيح بوجهها عن التبجح الرخيص بعظام الأبطال من البائدين، ونحن في حقارة القرود بين الأمم المتمدنة.
إن الوطنية المدركة، تتطلب من أفراد الأمة أن يجدوا الحلول العملية لهذه المشاكل، وكل تقاعس عن ذلك، يدفعنا موثقين بها، في تيارات دولية عنيفة، تتربص وتضمر لنا الشر والحقد الدفين.
يجب أن تنتقل ملكية الأرض إلى الفلاحين، وأن تقام لهم المساكن التي تليق بكرامة الإنسان، وأن تكون العناية بصحتهم، وغذائهم، وتعليمهم، شغل القلوب المخلصة الشاغل التي تستطيع - حتى يتساوى الجميع في عدالة اجتماعية - أن تكفل الطمأنينة لكل مواطن في حدود التبعات والواجبات.
والأمة حين تفكر جديا، في حل هذه المشاكل، لا تبصر غير مصلحة الوطن العليا.
ولقد اقترح مؤلف الكتاب حلولا سليمة لكثير من المشاكل التي أثارها، لو أخذنا بها لجعلت الريف جنة وارفة، وجعلته مصدر قوة رهيبة يحسب لها الأجنبي حسابا يحطم أعصابه ويبتعد عنها إلى حيث ذهبت أم قشعم.
ومشروع (الدجيلة) العظيم الذي أتاح الاستقرار لآلاف من الفلاحين في العراق على أرض يملكونها، وبرعن الفلاحون باستتباب الأمن، وخلودهم إلى الاستقرار في بيوت صحية على طمأنينة ووعي عميقين، إنما هو تباشير الفجر الذي سيعقبه إشراق شمس العدالة، فلا يبقى سيد وعبد، وظالم ومظلوم في مواطن العروبة.
وقصة الحاج رويس - التي قصها المؤلف معالي الشيخ علي الشرقي - ذلك المرابي الذي سلف أحد المزارعين مائتي روبية على أساس أن يدفع له الفلاح وزنة من الشعير عن كل روبية وبمرور الزمن أصبح هذا المبلغ ستين ألف روبية دفع الفلاح المسكين نصفها في حياته وبقى ورثته مدينين بنصفها الباقي، إنما هي المثال الصارخ على ظلم الفلاحين واستعبادهم.
يجب أن ترتبط أجزاء الوطن العربي الكبير، بنظام اقتصادي، عميق الجذور، قوي الأركان، يستمد كل جزء من أجزائه، حاجته من أيد عاملة، أو رؤوس أموال، أو خبراء، من الجزء الذي يتوفر فيه ذلك، فتصان الثروة للشعوب العربية. وينبغي أن يسبق ذلك أو يتبعه، تغيير جارف في مناهج التعليم، لتصبح عملية، تواجه مطالب الحياة الحديثة بإعداد جيل قوي من المهندسين، والكيميائيين، والإخصائيين، وعلماء الطبيعة والرياضيين والمخترعين. ولقد آن للشبان في هذا الجيل أن يشيحوا بوجوههم عن دراسة اللغات والآداب والتاريخ، وأن ينصرفوا بشعور وطني عميق إلى التخصص في الرياضيات والطبيعيات والكيمياء والتعدين، والهندسة والزراعة، بكل أنواعها ودقائقها وفروعها، فإننا في حاجة ملحة إليها الآن.
وبعد فإن الأستاذ عبد الرزاق الهلالي، مؤلف هذا الكتاب، يستحق الشكر الجزيل، والتقدير العميق، على هذا الاتجاه الرشيد في معالجة مشاكلنا الاجتماعية، ونحن نرجو أن يكون فاتحة خير للشباب، يخرجهم من عزلتهم، فيظهرون شجاعة أدبية في التوفر على دراسة المشاكل التي يواجهها الجيل الحاضر، تلك المشاكل التي تتعذب في جوها أرواح هي أجزاء من أرواحنا، ونفوس هي نفوسنا، وما أبشع ذنب الذي يقف على طرف الماء فيرى غرقنا ولا يمد يد المساعدة إليه.
وأسلوب المؤلف في الكتاب يغلب عليه تكرار الحقائق، وكأنه يريد أن يبالغ في إظهارها، ولكنه أسلوب متين، سلس، تطل من وراءكلماته حرارة الروح، ووجيب القلب، وأنسام العواطف الرفيقة الرحيمة.
ووسائل الإعجاب التي ألحقتها بالكتاب من بعض أصدقائه، إنما هي أمور شخصية لا شأن للقراء بها، وهي كالقذى في العين الجميلة التي تبعث الفتنة إلى القلوب.
بغداد
دار المعلمات الابتدائية
علي محمد سرطاوي