مجلة الرسالة/العدد 943/ألمانيا
→ رسالة المربي | مجلة الرسالة - العدد 943 ألمانيا [[مؤلف:|]] |
بين المتنبي وكافور ← |
بتاريخ: 30 - 07 - 1951 |
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
أمة من الفرسان تحالف ضدها الإنسان والزمان، ودولة يحتل الأعداء أراضيها وقد كانت تحتل من معظم القارة الأوربية كل مكان، وشعب ينهزم ولكنه لا يلبث أن يقف ناهضاً، ودولة اشد الرهبة، ويرعبهم ذكر اسمها أشد الرعب، وإن كنت غير مصدق فسل فرنسا والفرنسيين، وأنت كفيل بأن تصل حتما إلى الحقيقة واليقين.
وإن أنس لا أنس سيدة فرنسية كانت تقيم في المنزل الذي كنت أقيم به في 1939 أي عند قيام الحرب العالمية الثانية وكان قومها يسكنون على حدود فرنسا الشرقية أي المجاورة لألمانيا، فلما أعلنت الحرب جاءتني فزعة ومضطرة ومعها جريدة فرنسية تحمل النبأ فحاولت أن أهدئ من روعها وأن أطمئنها فقلت لها: (يا سيدتي إن الجنود الفرنسيين البواسل سيصمدون أمام الألمان المعتدين ولن يصيب قومك سوء. .) فكان جوابها: (يا سيدي أنت لا تعرف الألمان؟ سلني عنهم أجبك: إنهم قوة قاهرة غلابة لا قبل لنا بها، وقوم متوحشون لا نعرف الرأفة إلى قلوبهم سبيلا).
في 1943 زارني صديق كان يقيم بمدينة ليون بفرنسا في الفترة من 1938 - 1942 وكان من الطبيعي أن أطلب إليه أن يصف حالة فرنسا والفرنسيين عند قيام الحرب وهن مدى الفزع الذي استولى على الفرنسيين إذ ذاك فأجابني بما يأتي قال: كان لي صديق من الفرنسيين فلما قامت الحرب جنده، فذهبت لأودعه وأبديت أسفي لفراقه وخوفي عليه وإشفاقي من طول غيابه، ولكنه أجابني قائلا (لا يا سيدي لن يطول غيابي فإنني عن قريب عائد). ولا عجب فإن الفرنسيين كانوا لا يثقون بأنفسهم ويؤمنون بأنهم لن يستطيعوا الوقوف في وجه الألمان. وفعلا عندما التقى الفرنسيون - وكانت قلوبهم هواء - بالفرسان الألمان لم يلبثوا إلا عشية وضحاها ثم ولوامدبرين!
ويتجلى مدى وف فرنسا من ألمانيا فيما تقدم به كليمنصو رئيس وزراء فرنسا غداة انتصار الحلفاء 1918 من وجوب تقسيم ألمانيا إلى دولتين حتى تضعف ويزول الخطر عن فرنسا. وقد كان كليمنصو على حق فيما ذهب إليه: لقد احتلت جنود ألمانيا باريس عاصمة فرنسا عدة مرات في خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين: احتلتها1814، 1815، 1870، وكانت تهددها 1915 ثم احتلتها للمرة الأخيرة 1940 - 1945 وقد نزل الدمار بشمال شرق فرنسا وبشرقها وبعاصمتها في كل غارة من هذه الغارات.
ولكن الحلفاء لم يأخذوا بوجهة نظر فرنسا، فإنجلترا رفضت لأنها كانت وما زالت ترى ضرورة قيام ألمانيا كدولة قوية في وسط أوربا حفظا للتوازن الدولي، ففي شرق القارة توجد روسيا وفي غربها توجد فرنسا ومن ثم يجب أن تكون هناك دولة قوية في وسط القارة لتمنع طغيان إحدى هاتين الدولتين (وخاصة روسيا حاليا) على القارة الأوربية. ولعلنا نلمس ذلك بوضوح في السنوات الأخيرة، فقد كان نتائج هزيمة ألمانيا سنة 1945 أن تقدمت القوات الروسية من الشرق واحتلت شرق ألمانيا وتقدم قوات الحلفاء (إنجلترا وفرنسا وأمريكا) من الغرب واحتلت كل دولة جزءاً ثم بان الخطر الروسي فحاول الحلفاء جاهدين توحيد ألمانيا (رغم معارضة فرنسا) ولكن روسيا وقفت في وجههم وبات أعداء ألمانيا بالأمس على أحر من الجمر يحاولون إعادة ما هدموه وما أنفقوا الملايين من الأرواح في سبيل هدمه، ولا ريب أن كل هذا التطور نشأ عن ظهور الخطر الروسي مما دعا إلى ضرورة إيجاد دولة قوية تقف في وجهه، وقد فطنت روسيا إلى أهداف الحلفاء فعارضت في الجلاء عن الأراضي الألمانية التي تحتلها وفي وحدة ألمانيا حاليا.
وقد عارضت أمريكا (الولايات المتحدة) طلب فرنسا سنة 1981 لأن رئيس جمهوريتها ولسن كان قد أعلن مبادئه الأربعة عشر، وأهم مبدأ فيها أن لكل قوم الحق في تقرير مصيرهم، فرأى ولسن أنه لا يستطيع أن يعلن عن مبادئ ثم يتنكر لها في نفس الوقت أو بعبارة أخرى أن يؤمن بمبادئ ويكفر بها في نفس الوقت، ولذلك رفض فكرة تقسيم ألمانيا. ومضت السنون، وفي عشرين سنة أعادت ألمانيا قوتها وقواتها. وفي 1939 اشتعلت نيران الحرب الثانية وتحققت مخاوف الفرنسيين وداست ألمانيا على حرياتهم واحتلت عاصمتهم وديارهم 1940 وأقامت إلى أن تعاون الحلفاء وأعدوا قواتهم فنزلوا بأرض فرنسا ثم أجلوا الألمان عنها وتقدموا داخل ألمانيا حتى سقطت في يدهم برلين 1945
وتحتل قوات روسيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا أراضي ألمانيا الآن، ويتمنى الإنجليز على رغم معارضة فرنسا عودة ألمانيا القوية لحفظ التوازن الدولي الأوربي ولكن.
ما كل يتمنى المرء يدركه ... تأتي الرياح بما لا يشتهي السفن
غارة:
في أواخر القرن الرابع الميلادي وفي خلال القرن الخامس تعرضت أوربا لغارة عنيفة جاءت عليها من الشرق، ذلك أن قبائل (الهون) وهي قبائل مغولية كانت تسكن وسط آسيا بدأت تتحرك غربا وتدفع أمامها غربا الشعوب والقبائل التي تصادفها، وقد صادفت في طريقها القبائل التيوتونية أو الجرمانية فدفعتهم أمامها حتى استقروا في المنطقة بين نهري الربن والفستيولا من وسط أوربا. ومنذ ذلك التاريخ استقر الألمان في تلك المنطقة.
كان الجرمان يعيشون قبائل مستقلة، وكان نظام حكمهم ديمقراطيا فكان أحرار كل قرية يشتركون في غدارة شؤونها، وكانوا يمتازون بفروسيتهم وشجاعتهم ويعيشون على الرعي والزراعة والصيد.
وامتاز الجرمان أيضا بضخامة أجسامهم وبقوة بنيتهم وبولعهم بالحرب والخمر والميسر حتى بلغ بهم الأمر أنهم كانوا يقامرون بنسائهم وأولادهم.
وقد ظل الألمان على وثنيتهم فترة طويلة من الزمان ثم دخلوا في المسيحية في بدء العصور المتوسطة.
ولست أحب أن أتعرض بالتفصيل لتاريخ ألمانيا ولكني أحب فقط أن من يدرستاريخ الألمان يشاهد ظاهرتين بارزتين:
أولا: تأخر قيام دولة موحدة في ألمانيا، إذ تم ذلك في سنة 1870 منذ ثمانين عاما تقريباً، ويرجع السر في ذلك إلى أن القبائل الألمانية كونت ولايات مستقلة وظلت هذه الولايات تعمل على المحافظة على استقلالها. صحيح أنه في فترات مختلفة من التاريخ قامت دول وإمبراطوريات تضم جميع ألمانيا بل وكثيرا من الدول الأوربية، ولكن الدولة الألمانية الموحدة توحيداً كاملا لم تقم إلا سنة 1870
ثانيا: امتاز تاريخ ألمانيا بظهور أبطال عظام تقمصت دولتهم في شخصيتهم، وتقمصوا هم في شخصية دولتهم، أمثال فردريك الأكبر، بسمارك غليوم، هتلر.
وإننا ما نزال نذكر أن الناس كانوا يتحدثون عن هتلر كانوا يقصدون ألمانيا فكان اسم هتلر مرادفا لاسم ألمانيا. ولكن أهم من ذلك أن الألمان كانوا ينزلون لهؤلاء الأبطال عن كثير من حرياتهم ويمتحنون سلطة مطلقة فيصبح هؤلاء حكاما بأمرهم. ومع هذا لم يطغوا بل استخدموا هذه السلطة في خدمة الوطن، وكانوا أول خادم للوطن والشعب حتى بلغوا مرتبة التقديس عند شعوبهم.
للكلام صلة
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية