الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 942/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 942/تعقيبات

بتاريخ: 23 - 07 - 1951


للأستاذ أنور المعداوي

المسئولون عن موت الأدب:

هل الأدب فد مات؟ سؤال جعله صديقنا الأستاذ سيد قطب عنوانا لمقاله الذي ظهر في العدد (939) من الرسالة، أما الجواب الذي يحمل وجهة نظره فقد بدأه بهذه الكلمات: (يقول لك الكثيرون: أن نعم! ويمصمصون شفاههم أسفا وحسرة، وهم يعدون لك شواهد الموت، ويصفون لك أعراض الوفاة، ويترحمون على الأيام القريبة التي كان للأدب فيها صولة وجولة، يوم أن كان حياة في ذاته، وكان مبعث حياة!

وما أريد أن أدفع عن الأدب تهمة الموت، فقد تكون حقيقة؛ ولكني أريد أن ابحث عن القتلة! القتلة الذين فعلوا هذه الفعلة، والذين هم ماضون فيها للقضاء على الأنفاس الأخيرة التي تتردد في تلك الجثة المسجاة! إنهم في بظري ثلاثة:

الأدباء أنفسهم بمعرفتهم الشخصية وعلى عهدتهم!

والمدرسة المصرية بمعرفة وزارة المعارف العمومية!

والدولة كلها بمعرفة وزارة المالية ووزارة المواصلات!

هؤلاء هم المتهمون الثلاثة الذين خنقوا ذلك الأدب المسكين، حتى سقط جثة هامدة، والذين لا يزالون يخنقونه ليلفظ الأنفاس الأخيرة التي ما تزال تتردد في خفوت! فكيف كان ذلك؟

فأما الأدباء فهم الذين انصرفوا كلهم أو معظمهم عن الإخلاص للأدب وللعمل الأدبي؛ لأن هذا الإخلاص يكلف جهدا ومشقة، ويكلف عزوفا عن شيء من الكسب المادي وعن فرقعة الشهرة الكاذبة. . إنه يكلف صبرا على التجويد، وجهدا في الإخراج، ومعظم الأدباء - وبخاصة الذين كانوا يسمون الكبار - قد جرفتهم الحرب وما كان في إبانها من رواج في النشر، فانهالوا على السوق بإنتاج سريع (مسلوق) لأن هذا الإنتاج السريع يحقق لهم أرباحا عادية وعاجله، ويعفيهم من جهد البحث وأمانة العمل، ويضخم في الوقت ذاته قائمة مطبوعاتهم في نظر الجماهير!

وقد أقبلت الجماهير عليهم في أول الأمر. . . ولكنهم شيئا فشيئا جعلوا يكررون أنفسهم، بل يهبطون عن مستواهم. إنهم راحوا يجترون ما اختزنوه، ولا يضيفون إليه شيئا، ول يضيفون للحياة الأدبية ولا للحياة الإنسانية جديدا

وكان الكثيرون من أدباء الصف الثاني قد أخذوا ببريق الشهرة التي ينالها المشهورون المكثرون، فركضوا كذلك في الطريق، وباتت المطبعة وأصبحت فإذا هي تساقط على رءوس القراء كتبا أقلها قيم ومعظمها هراء. . .

واستيقظت فطرة القراء القلائل بطبيعتهم في العربية، فإذا الإعراض والجفاء عن هذا المكرور المعاد من أعمال الأدباء، وعن الأدب كله عند كثرة القراء. . . وصاحب هذا ركود حركة النقد الأدبي، النقد الذي يزيف الزائف، ويستبقي الصحيح، والذي يخلق في الجو الأدبي حيوية ونشاطا وتطلعا وأخذا وردا ودفعة إلى الأمام

والذي بقى من النقد الأدبي انتهى إلى أن يكون أضحوكة ومهزلة، فلقد تألفت شبه نقابات أو عصابات، كل نقابة منها أو عصابة. وكلة بالدعاية (لمنتجات الشركة) التي تنتمي إليها بطريقة مفضوحة مكشوفة، لا تخفى على ذوق القارئ ولا تزيد على أن تقتل الثقة في نفسه بما يكتب وما يقال!

وامتدت هذه النقابات إلى دور الصحف والمجلات، فعسكرت كل منها في مجلة أو صحيفة، وأصبح محرما على أي كتاب لا ينتمي صاحبه إلى (شلة) معينة أن يجد له من صفحات تلك المجلات والصحف نصيبا. . . وبهذا أطبق البلاء على النقد وعلى الأدب سواء!)

هذه فقرات مما كتبه الأستاذ الصديق في عدد مضى من الرسالة. فقرات فيها الحق، وفيها اصدق، وفيها العرض الموفق لجانب من جوانب المشكلة التي نضعها اليوم على بساط البحث والمناقشة، نقول اليوم ونعني بقولنا الوقت الذي أثيرت فيه ودفعنا إلى شيء من التعقيب، ونعود إلى الأمس القريب الذي عرضنا فيه للمشكلة قبل أنيعرض لها الأستاذ قطب، هناك حيث قلنا في مقدمة كتابنا الذي سيكون بين أيدي القراء بعد أيام:

(في حياتنا الأدبية ظواهر تستوقف النظر، وتغري بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة. . وتستطيع أن تسمي كل ظاهرة من هذه الظواهر مشكلة؛ مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج. . . ولك أن تضع مشكلة النقد الأدبي في مقدمة المشكلات التي تعانيها الحياة الأدبية في هذه الأيام!

أول زاوية يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة، هي أن أكثر الذين يتولون صناعة النقد لا يصلحون لها على التحقيق؛ فبعضهم تنقصه الثقافة الرفيعة فهو من أنصاف المثقفين، وبعضهم تنقصه التجربة الكاملة فهو من المبتدئين، وبعضهم ينقصه الذوق المرهف فهم من ضعاف الملكة وقاصري الأداة! هذه الأركان الثلاثة من أركان النقد الأدبي نضعها مجتمعة في كفة، لنضع في الكفة الأخرى ذلك الركن الخطير الرابع ونعني به الضمير الأدبي وهو وحده مشكلة المشكلات. . . وماذا تجدي الثقافة، وماذا تجدي التجربة، وماذا يجدي الذوق، إذا كان الضمير الأدبي لا وجود له؟ لا شيء يجدي على الإطلاق! لأن الضمير يوجه الثقافة فلا تجور، ويهدي التجربة فلا تضل، ويرشد الذوق فلا ينحرف. . وماذا نفعل وكتاب النقد الأدبي في مصر هم فئة من ذوي الأهواء والأغراض، يسيرون في ركاب هذا وذاك، يصفقون وليس هناك ما يدعو إلى التصفيق، ويهتفون وليس هناك ما يبعث على الهتاف!؟ الضمير الأدبي عندنا هو مشكلة المشكلات، وأعجب العجب أن الذين يتولون صناعة النقد في هذه الأيام لا يشعرون بأنهم معرضون لميزان فيرهم من النقاد، وانهم حين يظفرون بثناء بعض الناس يفقدون من الكثرة الغالبة كل احترام وتوقير، لا يشعرون بشيء من هذا لأنهم أغمار، ولأنهم أصحاب أهواء وأغراض!

النقد الأدبي في مصر تنقصه هذه الدعائم الأربع مجتمعة: الثقافة، والذوق، والتجربة، والضمير. . . ونقول مجتمعة لأن هناك المثقف المحروم من الذوق؛ ذلك الذي يوفق حين يقدم إليك نظرية في النقد ويخفق إذا ما وصل إلى مرحلة التمثيل والتطبيق. وهناك المثقف الذي لم يمد ثقافته بروافد من التجربة الكاملة؛ ونعني بها معالجة الكتابة في النقد الأدبي على هدى الإحاطة التامة بأصوله ومناهجه. وهناك المثقف الذي تجتمع له الثقافة والذوق والتجربة ولكنه يتخلى عن الضمير؛ حين يدفعه الهوى إلى أن يهاجم الخصم ويجامل الصديق!

هذه هي بعض الزوايا التي ننظر منها إلى من يتولون صناعة النقد في هذه الأيام. . . وتبقى بعد ذلك زاوية لا تقل عن سوابقها خطورة؛ وهي أن هؤلاء الناس تنقصهم صنعة التخصص: فبعضهم يتحدث عن القصة وهو لا يعرف شيئا عن الخطوط الفنية التي تكون الهيكل العام للقصة، وعن المسرحية وهو لا يدرك على أي الدعائم يقوم البناء الفني للمسرحية، وعن أدب التراجم وهو لا يستطيع أن يفرق بينه وبين غيره من ألوان الدراسة الأدبية، وعن الشعر وهو محروم من نعمة الشعور. ومما يبعث على الأسف أن الذين أجادوا التحليق يوما في أفق النقد قد هجروه إلى غيره من الآفاق، دون أن يقدروا مدى الفراغ الذي تحسه المكتبة العربية في هذا المجال!

نظرت إلى النقد الأدبي في مصر فوجدته على تلك الحال: يغلب عليه طابع الغفلة والبلادة والجهل والمجاملة. . . ونظرت إلى أدبنا في محيط الدراسة الفنية فوجدته في أكثر حالاته أدب المحاكاة الناقلة لا أدب الأصالة الخالقة؛ أدب الترديد والتقليد لا أدب الإبداع والتجديد: ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان. . لماذا لا تكون لنا آراؤنا الذاتية ونظراتنا الخاصة وأذواقنا المتميزة؟ لماذا لا نحاول أن نقف على أقدامنا دون أن يساعدنا أحد على الوقوف، وأن نسير دون أن يدفعنا أحد إلى السير أو يحدد لنا معالم الطريق؟ لماذا نجبن في أكثر الأحيان عن القيام بمثل هذه المحاولة؟ أهو ضعف في الشخصية الأدبية يحول بيننا وبين الكرامة العقلية، أم هو نقص في الوسائل وقصور في الأدوات؟! أغلب الظن أن للناحيتين أثرهما البعيد في صبغ الأدب المصري بصبغة الجمود والركود، وفي الوقوف به عند تلك المرحلة التي وصفناها بأنها مرحلة المحاكاة الناقلة لا الأصالة الخالقة

إنني أتحدث هنا عن أدبنا المصري في نطاق الدراسة الأدبية والنقدية. . . الدراسة التي تضع تحت المجهر نظرية في الأدب أو مشكلة في الفن، أو شخصية كان لها في محيط الفكر الإنساني مكان ملحوظ. إننا إذا تحدثنا مثلا عن نظرية أدبية ظهرت في أفق غير هذا الأفق الذي نعيش بأفكارنا فيه، كان كل صنيعنا أن ننقلها كما وعيناها فإن زدنا عليها شيئا فهو من أقوال غيرنا بلا مراء. . . وقل مثل ذلك إذا عرضنا في ميدان الفن لمشكلة من المشكلات أو لشخصية من الشخصيات، سواء أكانت المشكلة تتصل بكياننا الأدبي أم كانت الشخصية من تراث الغرب أو من تراثنا العربي القديم. لا نحاول مخلصين أن يكون لنا رأي مبتكر يضارع هذا الذي قرأناه. أو مذهب مبتدع ينافس هذا الذي نقلناه، أو تعقيب جديد يعترض في جرأة وشعور بالشخصية على وجهة نظر خرج بها كاتب غربي على جمهرة القراء. . . ومن هنا مات أدبنا وانصرف عنه الذين أقبلوا عليه في يوم من الأيام!!)

قلنا هذا في مقدمة الكتاب الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب، ونخرج من هذا الذي قلناه بأننا متفقون مع الأستاذ قطب في هذا الجانب الأول من جوانب المشكلة، ونعني به نصيب الأدباء في جريمة قتل الأدب كما عبر هو وأصاب في التعبير. ولعلك تلاحظ أن الاتفاق هنا قد تم في ميدانين هما ميدان الأدب وميدان النقد، بالنسبة إلى ما يتصف به كلاهما من أسباب النقص وعوامل القصور. . . وإذا كان هناك اختلاف فهو في طريقة العرض واتجاه خط السير الذي لم يحل مع ذلك بيننا وبين اللقاء في نهاية الطريق!

ومرة أخرى نتفق مع الأستاذ قطب في نظرنه إلى الشعر حيث يقول: (ونسيت الشعر المسكين، وما رزأتنا به المطبعة في هذه السنوات الأخيرة من ركام يتفاخر أصحابه بضخامة الحجم وكثافة الوزن، ويستعينون بصداقاتهم وبوسائلهم الخفية على الخروج به على الناس في غير ما خجل ولا حياء!

لقد نظر أحد أصدقائنا إلى ديوان من هذه الدواوين، وقد اكتنز شحما ولحماً، وهزل معنى وروحا، ثم قلبه في يديه وقال: قديما كان يقال: حمار شغل. فها نحن أولاء قد عشنا لنرى: حمار شعر!

وفي هذا الجو تختنق روح الشعر، أو الأنفاس المترددة في جوه الكظيم. ويكره الناس الشعر والشعراء، وينفرون من مجرد رؤية الدواوين، فضلا عما تحتويه من نظيم!)

كلمات قالها الأستاذ الصديق وهو يشير إلى ديوان كبير الحجم أخرجته المطبعة منذ شهور، ولا أظن أن ذلك الديوان بعد هذه الإشارة قد خفي على فطنة القراء. . . ولقد قلنا مثلها ونحن نتحدث عن الشعر المصري في الأعوام الأخيرة عارضين ومعترضين هناك في الصفحة الحادية عشرة بعد المائتين من كتابنا الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب: (حياتنا الأدبية تعاني تخمة في الشعر وأزمة في الشعور. . . إن نظرة واحدة إلى ما تخرجه المطبعة من دواوين الشعر في هذه الأيام، تنتهي بك إلى الإيمان بهذا الحكم؛ الإيمان به كحقيقة ملموسة. ونظرة فيها التذوق والتمعن تسلمك إلى حقيقة أخرى لا تقل عن الأولى صدقا وأصالة وهي أنك لو رحت تبحث وسط هذه التخمة الشعرية عن آثار فنية ترضي الذوق حين تحفل بصدق الشعور، لما وجدت غير بضعة دواوين لقلة من الشعراء المطبوعين. ونظرة ثالثة فيها التأمل والنفاذ تقنعك بأن أزمة الشعور عند الكثرة الغالبة من شعرائنا مرجعها إلى أن التجربة النفسية قد تمر بهم فكأنما ثمر بفراغ موحش، لا تلقي فيه إلا مجموعة حواس معطلة لا تستجيب لأحداث النفس والحياة)!

نحن هنا أيضا متفقون مع الأستاذ الصديق، فإذا اختلفنا فهو الاختلاف الذي يتمثل في طريقة العرض واتجاه خط السير الذي لا يحول بيننا وبين اللقاء في نهاية الفريق!

هذا الأدب المصري الذي شهدت موته على يد الأدباء المصريين، هو الذي أحال القلم يوما في يدي إلى معول ثائر معول تنصب ثورته على بعض القيم والأوضاع. . ومن هنا قيل عني أو قيل لي: إنك عامل هدم في الحياة الأدبية ولست عامل بناء! ولم أضق بهذا الاتهام السافر الذي وجه إلي على صفحات (الرسالة)، لأنني قد طبعت على ألا أضيق بأي اتهام ما دمت قادرا على الدفاع!

قالت وثيقة الاتهام بعد كلام طويل: إننا نفخر بك ككاتب له رسالة، وهدف يحاول أن يحققه عن طريق النقد والتوجيه. . . غير أن آراءك ونقدك تتسم غالبا بطابع العنف والقسوة، ولذلك فأنت في نظرنا عامل هدم ولست عامل بناء. وفرق كبير بين كاتب يحاول أن يضيء شمعة وسط الظلام، وآخر يسعى إلى ذبالة النور التي يتلمسها كل حائر ليطفئها! أنت كاتب طويل اللسان من أول يوم خطوته في طريق المجد؛ المجد الأدبي الذي يهيب بك أن تبقى على الشموع التي تضيء لنا الطريق)!

وقالت وثيقة الدفاع في مجال التفسير والتبرير: (يتهمونني بأنني كاتب طويل اللسان؟ هذا حق لا أجادل فيه! وأزيد عليه أنني واحد من الذين جبلوا على الصراحة وفطروا على الشجاعة، حتى لتدفعهم صراحتهم وشجاعتهم إلى أن يقولوا عن أنفسهم ما قد يشفق منه غيرهم من الناس. ولولا هذا الذي فطرت عليه وجبلت، لم وافقت متهمي على أنني كاتب طويل اللسان! أوافقهم على هذه المقدمة وأختلف معهم حول ما انتهوا إليه من نتيجة، محورها أنني عامل هدم في الحياة الأدبية ولست عامل بناء. . . هنا شيء من الظلم للحقيقة والمجافاة للواقع، لأنني ما استخدمت طول لساني في هدم قيمة من القيم إلا إذا كانت بالية، ومتداعية وينبغي أن تزول. أعني أنني لا أهدم إلا ونصب عيني هدف واحد هو أن أقيم البناء الموطد الأركان على ركام الأنقاض! أقول هذا ولا أريد أن أذكر أسماء من هاجمت من الأدباء. حسبي أنني آمنت وما زلت أومن، بأن الحياة الأدبية في مصر محتاجة إلى حركة تطهير يقوم بها لسان طويل! ذلك لأن الأدب هنا، في هذا البلد، أشبه برجل كريم النفس سمح الخلق مضياف: يفتح بابه لكل طارق، ويهيئ مائدته لكل عابر، ولو اندس بين جموع الطارقين والعابرين من هم خلاصة الأدعياء والمتطفلين! هذا الرجل، الذي هو الأدب في حاجة إلى صديق طويل اللسان ينهر تلك الجموع المتطفلة، الدخيلة، التي استغلت سماحة رب البيت ونبل محتده وكرم ضيافته، فاندفعت من أبوابه وجلست إلى موائده، في غير ما خجل ولا حياء. . . هذا الصديق الطويل اللسان هو كاتب هذه السطور، ولا ضير عليه أبدا إذا ما أنقذ الرجل الكريم المضياف من هؤلاء الضيوف الثقلاء، وألهب ظهورهم بالسياط!

وليصدقني أصحاب الاتهام أنني أضيق بأضواء الشموع؛ هذه الأضواء الضئيلة، الهزيلة، التي لا تستطيع أن ترد عادية الظلام. وإذا كنت قد دأبت على إطفائها فلأنني أوثر أن أحدق في أضواء المصابيح الضخمة، المتوهجة، التي يغمر شعاعها كل حنية وكل ركن وكل تعريجة في منعطف الطريق. فلتبق هذه ولتذهب تلك ما دمنا نريد للنور أن يقوى على مواجهة العواصف والأعاصير؛ هدم للقيم البالية المتداعية يعقبه بناء على ركام الأنقاض، وإخماد للأضواء الضئيلة الهزيلة يشع على أثره كل نور وهاج. . أهذا هو ما ألام عليه وتوجه إلي من أجله فنون الاتهام؟ أن الصورة التي نستمد أضواءها وظلالها من هذه الكلمات لجديرة بتأمل العاتبين)!

فقرات أخرى أثبتناها في مقدمة الكتاب الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب. . من هم الذين عنيناهم بتلك الفقرات ونحن في موقف التفسير والتبرير؟ هم أولئك الأدباء المجترون الذين عناهم الأستاذ قطب بكلماته وهو يتحدث عن نصيبهم في جريمة قتل الأدب و (تطفيش) القراء؛ وهم أيضا أولئك المتطفلون على موائد الأدب في غير ما خجل ولا حياء؛ وهم مرة ثالثة أولئك الذين يمثلون العصابات في دور الصحف والمجلات!

هذه العصابات الأدبية قد هاجمت بعضها يوما على صفحات (الرسالة) هجوما لا هوادة فيه. . . من هذا البعض عصابة كان يمثلها ثلاثة: أولهم ينسب جهلا إلى الفلسفة، والثاني ينسب غفلة إلى الشعر، والثالث ينسب ظلما إلى الأدب! وهم بعد هذا كله متطفلون على موائد النقد. . لا يكاد يظهر لأحدهم كتاب حتى يبادر الآخران إلى الكتابة عنه في أكثر من صحيفة، مشيدين بما تزخر به صفحاته من علم، مشيرين إلى ما يتمتع به صاحبه من نبوغ! وتقرأ الكتاب فتضحك، وتقرأ النقد فتسخر

يريد صديقنا الأستاذ قطب أن يحمل الأدباء ووزارة المعارف ووزارتي المالية والمواصلات مسئولية قتل الأدب. . كلا أيها الصديق؛ أن الأدباء وحدهم هم المسئولون! هل وزارة المعارف أو وزارة المالية أو وزارة المواصلات هي التي (طفشت) القراء؟ أن هؤلاء القراء لم يزهدهم في القراءة ولم يصرفهم عنها غير هذا الأدب الهامد الذي لا حياة فيه؛ الأدب الذي ينتجه فريق من المجترين وفريق من الأدعياء والمتطفلين! ترى هل تستطيع تلك الوزارات الثلاث مهما أوتيت من القدرة على إخلاء الطريق أمام أدبنا منا العقبات، ترى هل تستطيع أن تقنع القراء بالعودة إلى هذا الأدب من جديد؟ لا أظن. . لأن هذا الأدب بوضعه الذي تحدثنا عنه وتحدث عنه الأستاذ الصديق، لا يمكن أن يحبب القراءة إلى الجمهور القارئ بعد أن خبره مرة ومرات! لا يمكن أن يحببها إليه ولو رفعت وزارة المالية قيود التصدير ويسرت وزارة المواصلات وسائل النقل وضحت وزارة المعارف فطبعت هذا الأدب على نفقتها ووزعته على الناس بالمجان!

إن المشكلة مشكلة هذا الأدب الهامد الذي لا حياة فيه، ولن تحل هذه المشكلة إلا إذا بعثنا هذا الأدب من مرقده ونفضنا عنه التراب، ولن يتم هذا البعث إلا إذا وجد لدينا عدد من الأدباء المجددين، أولئك الذين يجعلون نصب أعينهم أن ينقلوا الأدب من مرحلة المحاكاة الناقلة إلى مرحلة الأصالة الخالقة. . . عندئذ يمكننا أن نجبر القراء على القراءة بعد أن نعيد إليهم الثقة المفقودة والإيمان المسلوب، وعندئذ يمكننا أن نقضي على البقية الباقية من المجترين المتطفلين، أولئك الذين يتحملون وحدهم تبعة قتل الأدب في وضح النهار. . . مع سبق الترصد والإصرار!

أنور المعداوي