مجلة الرسالة/العدد 941/قانصوه الغوري سلطان مصر الشهيد
→ الشر الطريف | مجلة الرسالة - العدد 941 قانصوه الغوري سلطان مصر الشهيد [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 16 - 07 - 1951 |
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الرابع
أقوال وأحاديث
قال التاجر: يبدو أن السلطان مولع كل الولوع بإقامة المباني الجميلة والمنازه الرائعة الممتازة
المستوفي زكي الدين: نعم إنه لكذلك. ولعلك تشير إلى ما أسسه في الميدان تحت القلعة، ذلك الميدان الذي كان فناء موحشا، وفضاء خاليا. لقد صيره قطعة من الجنة، وأصبح بما بناه فيه من القصور، وما أنشأه من البساتين وما غرسه من الأشجار، منزها ممتازا من منازه مصر. وقد أنفق في سبيل ذلك نحوا من ثمانين ألف دينار. . . لقد بدأ بتعلية حيطان سوره ودك أرضه وتسويتها. ثم بنى في وجهته الغربية مقعدا وقصرا فخما وحجرة خاصة وبركة جميلة كبرى يبلغ اتساعها نحوا من أربعين ذراعا، وبنى غير ذلك فيه من الأبنية
وقد جلب إلى بساتينه أشجار الفاكهة من مختلف الألوان وأعواد الأزهار والرياحين، وأجرى إليها المياه من النيل، برفعها السواقي في مجار خاصة
وأنشأ كذلك قصرا على باب الميدان، وطلا على الرميلة، ومهد الطريق بين القلعة والميدان بممشى جميل يتصل بالقصر بوساطة سلالم لطيفة. وأقام للميدان بابين أحدهما كبير ضخم، وهذا فضلا عما بناه من سبل وما جدده من أبنية. فقد جدد من قاعات القلعة الشهيرة، قاعة العواميد، والقاعة البيسرية. ولقد علمنا أنه أغلظ على القاضي شهال الدين أحمد ناظر الجيش هو وأخوته بأن ينزعوا الرخام النفيس من (نصف الدنيا) وهي قاعة والدهم المشهورة، ورخامها نادر المثال، أنفق أبوهم في سبيل اقتنائه مالا جزيلا، وجهدا وفيرا. وكانوا يعتبرون هذا الرخام أثرا عزيزا من آثار أبيهم. فانتزعه منهم السلطان قوة وقهرا، ليجمل به هاتين القاعتين وغيرهما. فأصبحت كل منهما زينة للناظرين، وفتنة للعيون؟ وبعد تجميلها انتقلت خوند زوجة السلطان إلى القلعة، بعد أن ظلت زمنا طويلا مقيمة ببيت الأمير ماماي بين القصرين؟ وكان يوم انتقالها حافلا. . . لقد بسطت على رأسها القبة والطير، ونشرت عليها خفائف الذهب ولفضة، وفرشت لها الشقق الحريرية من باب الستارة إلى قاعة العواميد
ولقد وردت إلى السلطان منذ أمد قريب هدايا من الشام حافلة، في عدادها عدة صناديق خشبية فيها أشجار صالحة للغرس لا يزال الطين عالقا بجذورها، وهي ما بين أشجار تفاح وكمثرى وسفرجل وقراصية وأعناب مختلفة. وما بين ورد أبيض وسوسن وزنبق. ومن بينها شجرة من أشجار جوز الهند. . فغرس كل ذلك في بستانه بالميدان. وزود البستان بالمقاعد الكثيرة والمناظر الوثيرة، حتى صار روضة كاملة وجنة حافلة، اعتاد السلطان أن ينفق أوقاته مرتاضا بين أحواضها وممراتها، وأن يقيم مواكبه فيها واستقبالاته، وأن يمد موائده على مقربة منها؛ وأصبحت هذه الروضة تضارع في جمالها وتنسيقها وطرافة ما فيها، ما يرويه التاريخ عن بساتين خمارويه. . .
وليس على السلطان من بأس في كل ما أنشأه، سوى هذه المصادرات الغرامات الفادحة، وسلب مقتنيات الناس بأبخس الأثمان. . .
قال الشاعر شهاب الدين: ألم تسمعوا قول الشاعر:
يا من بنيتم لخلق الله مدرسة ... أسستموها بعدل أم بطغيان
إذا بنيتم فلا تبنوا على سفه ... ولا تجوروا بسلب أو بحرمان
فكل شيء بناه الجور منهدم ... وليس يبقى سوى عقباه للباني
فقال علم الدين الخياط: صدقت. . . ولو أن السلطان نقل الرخام من (نصف الدنيا) إلى مسجده لقلنا سيئة أتبعتها حسنة؛ وقد قال علنه الصلاة والسلام ما معناه (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)؟ ولكنه نقلها إلى القاعة البيسرية وسواها، ظهورا وزينة ومتعة، فهي سيئة أتبعها سيئة. . .
التاجر غرس الدين: ليت السلطان يكتفي بعقوبة الأعيان والرؤساء، ومصادرة أموالهم ونفائسهم ولكنه يعاقبنا كذلك معشر التجار من آن لآخر، بفرض الضرائب، الباهظة، وبغيرها، كالأمر بتعلية الأرصفة أو تخفيضها. . . إن علينا نفقاتها، فوق ما نعانيه من دالة الفعلاء، وحاملي الأتربة. إذ يرفعون حينذاك الأجور، ويماطلون في العمل، فضلا عن عطلنا عن البيع والشراء، طالما ضاقت صدورنا وامتلأت بالحرج والحنق، ولكنها الأوامر السلطانية الشريفة يا سيدي. . . ويبدو أنها ترادف الجور في معناه في أيامنا. . . زد عليها ضريبة المشاهرة التي أبطلها السلطان حين تفشت الأوبئة في البلاد، كأنما كان يتقرب إلى الله بإبطالها. ثم سرعان ما عاد ففرضها علينا وزاد عليها. والأمر لله من قبل ومن بعد
المستوفي: إن ما يصيب التجار - يا صديقي - قليل من كثير مما يصيب أعيان الموظفين. وويل لكل موظف في الدولة من السلطان. . . لقد تعودنا أن نشتري الوظيفة بالمال، من السلطان أو من وسطائه - وهي مع أنها سلعة غالية، قليلة النفع سريعة النفاق. فمتى ساء ظن السلطان في أحد الموظفين لأقل شبهة أو نميمة، قبض عليه وصادره، وأحاط بماله، وفرض عليه غرما ماليا فادحا، وعاقبه عقابا شديدا بالضرب بالمقارع، أو التشهير في الأسواق، أو عصر الأيدي والأرجل بالعصارات. أو إحراق الأصابع بالقصب، أو لي الأصداغ بحبال القنب، وغير ذلك. وقبل هذا كله تطير الوظيفة من يديه. . .
الخياط: مسكين - والله - الشيخ بدر الدين بن مزهر. كان من خيرة زبائننا. وكان معدودا من الرؤساء والعلماء. لقد ولي عدة وظائف سنية من بينها كتابة السر وقد أخبرني أحد أقاربه أن السلطان قبض عليه وسجنه. ثم وكل أمره إلى الحاج بركات ابن موسى الذي صار محتسبا للقاهرة. وإلى معين الدين بن شمس، وكيل بيت المال، وغيرهما، فعصروا أكعابه. وركبه. وأحاطوا أصابعه بالقصب وأوقدوا النار فيه، حتى تساقطت سلامياته. واختطفوا أثداءه بكماشات الحديد المحمى، ثم وضعوها في فمه. . . ولووا أصداغه بحبال من قنب حتى نفرت عيناه. . . ثم مات. . . وقانا الله وإياكم شر العذاب
المستوفي: ولم يكتف السلطان بذلك، بل سطا بعد حين على قاعات أبيه فاقتلع رخامها وزين به الدهيشة. . .
الشيخ ولي الدين: يقال - والله أعلم - إن أبا بكر ابن مزهر يستحق هذا العذاب ن فإنه كان نكبة على الناس وآذى كثيرا منهم إيذاء شديدا. . . هذا إلى أنه كان يأتمر بالسلطنة، ويغري الأنابكي قيت بالوثوب عليها. . . ووضع أمواله تحت تصرف قيت وعصابته. . .
ونحن - وإن كنا لا ندري بواطن الأمور - نستسيغ كل خبر إلا الرشوة التي تقدم للسلطان ووسطائه في سبيل المناصب ثمنا لها، ولا أدري كيف يشتري الموظفون وظائفهم من السلطان؟ ومن المؤلم أنهم درجوا على ذلك زمنا طويلا، حتى كاد شراء الوظائف يكون في عداد التقاليد. وإذا استسيغ شراء بعض الوظائف فليس بمستساغ أن يشتري قضاة القضاة مناصبهم. . . وهم القوامون على الشريعة، المهيمنون على العدالة، فكيف يؤتمنون بعد ذلك على رعايتها؟ ألا رحم الله السلف الصالح. . . كان كثير منهم يعف عن ولاية القضاء جملة، ولو ضرب في سبيل ذلك أو سجن. وقد عزل بعضهم نفسه من هذه الولاية، وكلما ولوه عزل نفسه. ومنهم من أنف أن ينال من وراء ولايته درهما واحدا. . .
المستوفي: بلغني أن قاضي القضاة محي الدين بن النقيب سعى إلى قضاء الشافعية بنحو سبعة آلاف دينار، دفع منها للسلطان خمسة آلاف، وللوسطاء نحو ألفين، ومن هؤلاء الوسطاء الأمير أزدمر الدوادار. . . ومع ذلك عزل هذا القاضي بعد مدة يسيرة لم يستطع خلالها - فيما أظن - أن يستعيض عن دنانيره
الشاعر: لقد أصبح ابن النقيب هذا، والقاضي جمال الدين القلقشندي، وأضرابهما من قضاتنا الأماثل، مثلة للناس وأضحوكة لتكالبهم على مناصبهم، وأصبحوا مثاراً للقيل والقال محلا للهزء والسخرية. وقد داعب أحد أصدقائنا قاضينا ابن النقيب، فقال فيه:
قاض إذا انفصل الخصمان ردهما ... إلى جدال بحكم غير منفصل
يبدي الزهادة في الدنيا وزخرفها ... جهرا ويقبل سرا بعرة الجمل
الخياط: أما القاضي عبد البر بن الشحنة فقد هجاه صاحبنا جمال الدين السلموني بقصيدة مرة، ولكني نسيتها. . . وأصابه بسببها مكروه شديد
الشاعر: أما حادثة السلموني فقد بدأت عندما هجا هذا الشاعر، القاضي معين الدين بن شمس، وكيل بيت المال، هجاه فاحشا. ومعين الدين - كما تعرفون - كثير الشر والأذى. وكان في عداد ما هجاه به هذا البيت
وحرفته فاقت على كل حرفة ... يركب ياقوتا على فص خاتمه
وفي هذا البيت ما فيه من التورية والإقذاع. فشكاه إلى السلطان. فقال له السلطان: إن وجب عليه شيء شرعا، فأدبه. . . فاتخذ ذلك وسيلة إلى القبض على السلموني، ووضعه في القيد، وسوقه إلى بيت القاضي عبد البر، ورافعه أمامه، وادعى عليه. . . فضربه القاضي ووبخه، وأمر بإشهاره على حمار، وهو مكشوف الرأس. . .
بلغ هذا الحكم مسامع السلطان، فحنق على معين الدين، لأنه ادعى زورا أن السلطان أمره بإشهار السلموني، فقبض على معين الدين، وسجنه، وكاد يقطع لسانه، لولا أنه أرضى السلطان ببعض المال فعفا عنه. . . .
أما السلموني فقد سخط أشد السخط على القاضي عبد البر بسبب ما ألحقه به من الأذى، وهجاه بقصيدة طويلة هجاء فاحشا، نسب إليه فيه كل كبيرة وصغيرة. وقد شاعت هذه القصيدة وذاعت وحفظها كثير مت الناس، من محبي السلموني وغيرهم. وأخذوا يرددونها في مجالسهم تفكها بابن الشحنة. . ومنها هذه الأبيات:
فشا الزور في مصر وفي جنباتها ... ولم لا وعبد البر قاضي قضاتها
أينكر في الأحكام زور وباطل ... وأحكامه فيها بمختلفاتها
إذا جاءه الدينار من وجه رشوة ... يرى أنه حل على شبهاتها
فإسلام عبد البر ليس يرى سوى ... بعمته والكفر في سنماتها. . الخ
فشكاه عبد البر إلى السلطان. فأحضر السلطان الشيخ جمال الدين السلموني ووبخه، فأنكر أنه نظم هذه القصيدة كلها ولكن أقيمت عليه البينة، وشهد الشهود. . . فأمر السلطان بقيده وسجنه بالمدرسة الصالحية. . . ثم أراد القضاة - انتصارا لزميلهم - أن يضربوا هذا الشاعر بالسياط، ويشهروه في القاهرة، ثانيا. . . فعلم جماعة من العوام بذلك، وهم من محبي السلمونيز فتعرضوا للقضاة وهددوهم بالأذى. وجمعوا الحجارة في أكمامهم، وهموا برجم القاضي عبد البر، وهو في طريقه. . . فاضطر إلى العفو عن الشاعر دون أن يعزره أو يشهره، ولكنه تركه في سجنه زمنا. . ولهج العامة بأن السلطان على هذا الشاعر ويعني بأمره. . .
فقال الشيخ ولي الدين: ويحكم أليس لكم الليلة حديث إلا الغيبة. إنكم لكالغربان لا تسقط إلا على الجيف
للكلام بقية
محمد رزق سليم