الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 940/في دنيا الشعراء

مجلة الرسالة/العدد 940/في دنيا الشعراء

بتاريخ: 09 - 07 - 1951


من وحي العيد

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

من الناس فئة وهبها الله خيالاً خصباً وقادا، وعاطفة مشبوبة، وحسا مرهفا دقيقا، وشعورا فياضا رقيقاً، وهؤلاء هم الشعراء المطبوعون الذي مازهم الله عن غيرهم بالقدرة على رسم الصور وتصوير ما يجول بخاطرهم وما يعتمل في قرارة نفوسهم من مشاعر وأحاسيس، بخلاف الإنسان العادي الذي يحس الألم ويجد الحزن، ويشعر بالسرور ويتذوق اللذة، ولكنه يعجز عن التعبير عن شيء من ذلك.

بل إن الشاعر المطبوع يمتاز بالقدرة على النفاذ إلى أغوار النفس البشرية؛ وإلى قرارة ما في الكون من حقائق لا يستطيع إدراك أسرارها غيره ممن لم يوهبوا موهبته.

لذلك نراهم لا تمر بهم حادثة أو مناسبة إلا سجلوها في شعر يعبرون فيه عما لهذه أو تلك من أثر في نفوسهم، بل وفي نفوس الشعوب التي ينتسبون إليها.

ولما كان عيد الفطر من المناسبات الهامة، فقد اهتم به الشعراء منذ الإسلام، فاتخذوه وسيلة لإزجاء مدائحهم للخلفاء والأمراء وغيرهم ممن بيدهم السلطان، ولكنهم لم يهتموا بتصوير ما يعتلج في نفوسهم من خواطر، وما تجيش به عواطف شعوبهم وما يعتمل فيها من أحاسيس، بل كان همهم الأول التقرب من الممدوح للوصول إلى ما يريدون من إجزال العطاء وحلول المنزلة الأولى لديه.

فها هو ذا موكب الخليفة المتوكل قد انتظم في يوم عيد الفطر للخروج لصلاة العيد، فتأخذ البحتري الشاعر روعة المنظر وعظم المناسبة، فيقول مادحاً المتوكل، واصفاً الموكب في قصيدة عامرة بليغة تعد من غرر الشعر أو من عرائسه التي يفخر بها. فيقول:

بالبر صمت وأنت أفضل صائم ... وبسنة الله الرضيعة تفطر

فانعم يوم الفطر عيدا إنه ... يوم أغر من الزمان مشهر

أظهرت عز الملك فيه بجحفل ... لجب، يحاط الدين فيه وينصر

خلن الجبال تسير فيه وقد عدت ... عددا يسير بها العديد الأكثر

فالخيل تصهل، والفوارس تعدي ... والبيض تلمع، والأسنة تزه والأرض خاشعة تميد بثقلها ... والجو معتكر الجوانب أغبر

ذكروا بطلعتك النبي، فهللوا ... لما طلعت من الصفوف، وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لا سيما ... نور الهدى، يبدو عليك ويظهر

ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا يزهى، ولا يتكبر

فلو إن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر

وهذا هو أبن هانئ الأندلسي يمدح المعز لدين الله الفاطمي ويهنئه بشهر الصيام والعيد، وهو كعهدنا به قوة أسلوب ومبالغة في المدح تصل إلى حد الإسراف الذي يخرج عن حدود الاعتدال، فيقول:

جود كأن اليم فيه نفاشة ... وكأنما الدنيا عليه غثاء

ملك إذا نطقت علاه بمدحه ... خرس الوفود وأفحم الخطباء

هو علة الدنيا ومن خلقت له ... ولعلة ما كانت الأشياء

ليست سماء الله ما تروثها ... لكن أرضا تحتويه سماء

نزلت ملائكة السماء بنصره ... وأطاعه الإصباح والإمساء

أرأيت كيف يسمو الشاعر بالخليفة إلى مرتبة الألوهية وهو الذي يقول في غير هذا المكان:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار

ولا أظنك قائلاً إنه نظرية الفلسفة الإسلامية التي تعرف الله سبحانه وتعالى واجب الوجود بعلة العلل. ثم كيف يشبه بالنبي في وقعة بدر إذ نصره الله بالملائكة في قوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).

ثم يتابع الشاعر المدح فيقول:

يفديك شهر صيامنا وقيامنا ... ثم الشهور له بذاك فداء

فيه تنزل كل وحي منزل ... فلأهل بيت الوحي فيه ثناء

فتطول فيه أكف آل محمد ... وتغل فيه عن الندى الطلقاء ما زلت تقضي فرضه وأمامه ... ووراءه لك نائل وحباء

حسبي يمدحك فيه ذخراً أنه ... للنسك عند الناسكين كفاء

وهذا مهيار الديلمي يكتب إلى أبي الحسين أحمد بن عبد الله الكاتب مستوحشا لبعده متشوقاً للقائه، مهنئا بالصوم والعيد، من قصيدة طويلة بالغ فيها الشاعر في مدح صاحبها ولكنها على رغم ذلك فيها فن جميل وخيال بديع والتفاتات بارعة لطيفة فيقول:

فلله أنت أبن نفس سمت ... لغايتها قبل أن تولدا

إذا خير اختار إحدى اثنت ... ين إما العلاء وإما الردى

كأني أراك وقد زاحموا ... بك الشمس إذ عزلوا الفرقدا

وخاطوا النجوم قميصا عليك ... ولاثوا السحاب مكان الردا

فما أمكن اسمع أزدك ... قوافي بادئة عودا

لو استطاع سامع أبياتها ... إذا قام راويها منشدا

يصير أبياتها سبحة ... ومثل قرطاسها مسجدا

مهنئة أبداً من علاك ... بما استأنف الحظ أو جددا

وبالصوم والعيد حتى تكون ... آخر من صام أو عيدا

إنها قصيدة جيدة بديعة ولكن الشاعر يهتم فيها بممدوحه فيخصه بها كلها ولا يذكر العيد إلا ذكرا عابراً. وغير هؤلاء.

كثيرون يضيق المقام عن ذكرهم، ممن اتخذوا هذه المناسبة وسيلة لأغراضهم يرجون فيها مدائحهم للأمراء والخلفاء.

فإذا تركنا القدامى إلى المحدثين وجدنا الأمر يختلف اختلافا بينا، فقد تبدل الحال غير الحال، وسمت الأغراض، وقل مدح الشعراء للملوك والأمراء واستجداء عطاياهم، فقد أصبحوا يتأثرون بما تحسه شعوبهم من آلام وآمال، ويعبرون عما يجول في نفوسهم، مشاركين في كل حركة، مصورين ما يعتلج في قرارة نفوسهم من عواطف وأحاسيس فاعتبر شعرهم بحق سجلا لأيامهم وما يقع فيها من أحداث. . .

فهذا أمير الشعراء أحمد شوقي نراه عندما يستقبل عيد الفطر يستقبله بنفس يملأها الحزن والأسى، وتفيض بالحسرة والألم، لما يرى في مجتمعه من نفاق وغدر، ولانحلال الأخلاق وتفكك الروابط والصلات، فيتألم أشد الألم بعد ما يحتفل بالعيد الذي خلصه من القيود الثقيلة ليطلق نفسه على سجيتها، ويدعو كأسه ليعانقها فيقول:

رمضان ولى هاتها يا ساقي ... مشتاقة تسعى إلى مشتاق

ما كان أكثره على ألافها ... وأقله في طاعة الخلاق

الله غفار الذنوب جميعها ... إن كان ثم من الذنوب يواق

بالأمس قد كنا سجيني طاعة ... واليوم من العيد بالإطلاق

لا تسقني إلا دهاقا إنني ... أسقي بكأس في الهموم دهاق

فلعل سلطان المدامة مخرجي ... من عالم لم يحو غير نفاق

وطني أسفت عليك في عيد الملا ... وبكيت من وجد ومن إشفاق

لا عيد لي حتى أراك بأمة ... شماء راوية من الأخلاق

ذهب الكرام الجامعون لأمرهم ... وبقيت في خلف يغير خلاق

أيظل بعضهم لبعض خاذلا ... ويقال شعب في الحضارة راق

وإذا أراد الله أشقاء القرى ... جعل الهداة بها دعاة شقاق

الحق أننا ظلمنا الشاعر حين قلنا يطلب كأسه يعانقها، فهو لم يفعل هذا حبا في الكأس، ولكنه يريد أن يتخلص بها من همومه وأشجانه، وحتى لا يرى من فساد في الأخلاق كمن يقول (وادوني بالتي كانت هي الداء).

وأما الشاعر المعاصر (محمود أبو الوفا) فيلتفت إلى المجتمع المصري فيروع ما فيه من فروق ومتناقضات ومن سوء توزيع للثروة، فثراء فاحش بجانبه فقر مدقع، ويرى كيف يأكل الأغنياء حقوق الفقراء؛ فيزفر زفرات حري تخرج كأنها اللهب المحرق يلفح الوجوه فيشويها إذ يقول:

أرأيت مصر اليوم كيف أزينت ... أرأيت وجه العيد في أبنائها

الفقر في أقوامها غطى على ... آمالها وطغى على سرائها

كبراؤها والأغنياء بأرضها ... غفلوا حقوق الله في فقرائها

ويقول من قصيدة أخرى في نفس المناسبة:

عهد الصراحة ما بال الصريح به ... لا يملك النطق إلا بالكتابات أحب أضحك الدنيا فيمنعني ... أن عاقبتني على بعض ابتسامات

هاج الجواد فعضته شكيمته ... شلت أنامل صناع الشكيمات

أنها أنفاس محترقة، وعصارة نفس حساسة، تخر بالشعور النبيل، وتجيش بالعواطف السامية.

والشاعر الحجازي (أحمد العربي) ينظر فيرى الفقير في يوم العيد ذليلا حائراً لا يملك ما يشارك به القوم ليفرح كما يفرحون، فيتألم أشد الألم فيتمنى أن يصبح العيد وسيلة لعطف الأغنياء على الفقراء ليشيع السرور في الجميع فيقول:

ليت شعري متى يكون لنا عي ... د حقيق برمزه المكنون

فيشيع الهناء في كل نفس ... ويواسي فؤاد كل حزين

قد، لعمري، أنى لنا أن نرى ... العيد مشاها وقرة للعيون

هذه بعض نفثات قطفتها لك من شعر شعرائنا لتعرف كيف يحتفلون به كما يحتفل الأجانب بأعيادهم القومية، أعاد الله أمثال هذا العيد على الأمة الإسلامية بالخير وإقبال السعود.

أسيوط

عبد الموجود عبد الحافظ