الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 940/القصص

مجلة الرسالة/العدد 940/القصص

بتاريخ: 09 - 07 - 1951


أعاصير

للأستاذ أحمد القادر الصاوي

خرجت إلى الطريق وفي رأسي معركة، ومشيت ومشيت، ولكنني كنت أمشي داخل نفسي، وطالت الطريق. . ترامت أمامي وامتدت. . ترامت كما يترامى الزمن ويمتد، وصعدت فيها وهبطت. وحين تطلعت بعيني لأرى ما بقى، رأيت أنه على مسافات. ومشيت ومشيت.

وكان يخيل إلي أحيانا أنني لا أمشي، بل أسبح.

وصلت، وقدامي تتخاذلان. وتواريت في حجرتي وتهالكت إلى سرير نبت على جوانبه الشوك. وتلتفت نحو نفسي المنهوكة أسالها العون. وقادتني إلى مستقبل عبوس. قطعة من ظلام دامس خضتها حائراً.

وطاف بي أمسي نقلني باردة. وانسكب وجداني في أودية من الذهول. . عميقة مظلمة.

ودققت في أمري. واكتشفت أني مريض برضاي. وفرحت جداً. . سأتخلص من الداء بيد أنني فشلت تماما واستلقيت في أحضان أوهامي، وسريعا شملت كل أفكاري.

وأغمضت العينين. وإذا بي أتهادى وسط مواكب ومشاهد، الذكريات مواكب، والأحداث مشاهد وتتابعت سلسلة من الصور طويلة جداً وما برح الذهن يجذبها إليه، فتطوي فيه طيا. وراح - وهو يستعرضها - ينمقها. . يشيد هذا الماضي الوارف. إن للماضي رونقا.

واستيقظ على صوت يناديه إلى الطعام. قام مرتبكا. وألقى جسده على أقرب كرسي. ومد يدا فاترة. وسأله:

- مالك! - وأجاب - لا شيء.

واستجمع همته ليسترد نشاطه المسلوب، فتضاحك: - تعجلتم.

- بل تأخرنا كثيراً.

وعلته دهشة، لأنه ما كان يحتج على تأخر الغذاء. وقيل له: - تعزمك؟

وأكل أثقل طعام. وأوهم من حوله أنه امتلأ. تنهدت والدته وتعجبت أخته.

وأقبل الأصيل. وهبت الريح شديدة عاتية. وسمع لها هواء رهيبا. وتمضي فترة تتكشف نسيما رقيقا. وتنفست بسمات خفيفة على كبدي. . أفرجت عنها قليلا أن دفعات ناعمة أهدت إليها أريج البنفسج. وتذوب فيه.

وتفتحت نافذة أمام روحي. وأطلت منها على عالم جديد.

وتنبهت. . وعت وأرهفت لتستمع بنظرة أو بضحكة أو بكلمة. وأني لها على البعد والنوى!

وعادت العاصفة

وتتابعت أفكار كثيرة مزعجة. وجرفته بين طياتها أمواج عالية ورسب واختنق.

وكانت وساوسه كزوبعة تهب فلا تبقى

وأظلته سحابة داكنة. ولا يملك فؤاده، فتمتصه مجاهل ملتوية. . أشجانه وآماله.

وظل يرقب نفسه حزينا تتحلل وتتساقط. ورثى لها!

أشعة ساخنة تدفق في جوانحه. . تشيع في أنفاسه اللهب ما احبه إليه يحيط قلبه بالدفء.

وصورة أمام عينيه لا تنحرف عنهما ما أكرمها عليه برغم حجابها الرؤية والمرئيات.

أصبحت لا أرى. . أرى فقط جمالها وأنوثتها وفتنتها

أصبحت عجولا. . أود ان أثب من فوق الحوادث. . أسبقها ولا أطيق مكثاً. . .

وأقود نفسي إلى منزلها وأشواقي تحثني وادعوا قلبي إلى الصبر، فلا يستجيب.

وتشابكت السحب، وراحت تزرف. وأحار تحت الدموع الغرزية. وحولت خطاي إلى مسكني. . . .

وفجأة صفت السماء. وانثنيت مرة أخرى إليها وتألقت النجمة في نافذتها كالماسة الكريمة. ونظرت ذاهلاً ونظرت هي ي حزينة وخفق قلبي خفقته أحسست بعدها أنه يتصدع ويتداعى

رباه، أيلقى بعض الناس ما ألقى؟!

وانتزعت رجلي العودة. انتزعها نزعا

وتجمع الظلام على الدنيا. وتراكم على قلبي جبل حالك من الترهات.

لو تستتر المرئيات. وتظهر صورتها وأشعر أن مخدرا يسري في جسدي. . أخيلة وخيمة تنثال إلى رأسي كأخيلة رجل تناول قدا كبيرا من المخدر. . . وتضيق أنفاسي.

وفتحت النوافذ والأبواب، ولكها تتعقد في صدري واستقبلت السماء.

وتراءى القمر وحيداً حزينا. . تراءى كفجوة تخترق حائط الظلام الهائل. وجذبت نفسا طويلا. . لو استطعت كان أطول من الليل. ودخل الهواء الأسود رئتي.

وبقيت في النافذة، والليل أمواج ساكنة. . .

وسمعت صوت أقدام ثقيلة وقورة. كان رجل الدولة يتولى حراستها، ومر حوذي خاطب خيله مدللا إياها ربما أفاد كثيرا ذلك المساء. وأدار عربته ليأوي.

ويعبر أحد السكارى. . يطلق مزعجاته. . أغان مخنوقة مبتورة وفاجأه الجندي. كف! ومشى مستخذيا.

أولئك جماعة ما بعد الساعة الواحدة بعد نصف الليل. . . كلهم مرح. . كلهم سعيد. . .

والليل يزحف فوق صدري كغمامة سوداء، ليس لها نواح تدركها العين. وتحولت إلى البدر كالغريق. أنني غريق لجة قاتمة.

ويلاه! اختفى، وترك الدنيا. كانت متعلقة بأشعته، فلما قبضها هوت في بحر من الظلام.

وأنظر من قاعه، فيشاهد خيالي قمرا آخر. إنه يشرق من قلبي فيضئ حناياه. ويهتز الظلام. . يرتجف ومولي.

وأشاهد نفسي طافيا في بحيرة من الضوء. وأشاهد فتاة تسبح في ذهني، وكلها مفاتن.

. . . وجه كالزهرة الناضرة، وقوام كالرمح الممشوق، وأنوثة تتألق وتزهو. وصوت كأصوات الملائكة. . ترتيل ونغم.

تلك فتاة جمعت في نفسها حشدا من الحسن. . وستركع أمنع القلاع أمامه. . ستخر مويل قلب غزاه. . ستزلزل. . سيهوى

ويل عين رأت لن تغفى ستسهد.

وأفتك ما في الوجه عينان تثبتان على قلبي. . تصبان عليه الوهج ناعما رقيقا ما أبهجه!

وينصهر القلب تحت النظرات. . يترقرق ويسيل في مسارب ضيقة معقدة. وبحثت عنه فأخفقت. . تشربته المسارب الضيقة. غرق في أحزانه! ويلي. ويله!

أيتها العينان، ما بال ذبولكما يسري إلى قلبي؟ حسبت العين المريضة لا تمرض الأعين.

أيتها العينان، إذا تأملتكما أشرفت على قلب من النور أيتها العينان، أي صفاء بعتماه في روحي؟

أية مرآة أنتما أية صورة تعكسانها أية صورة ترعرعت فيكما

يا روحها، أنت أنضر صورة وأجملها وفمها؟!

إذا ما ارتسم في ذهني، تخيلته عليه قبلة، أشعر بعدها ببرودة رافية. وتقدمت بفمي أقتطعها. ولم أصل!

إنني أفيد الخيال بالواقع، فأنشئ قبلا، لا تلبث فتنتها - يا طالما تعلقت في حبال من الخيال. ويا طالما تراخت الحبال، وما أسرع أن تتراخى!

فمها وردة متوهجة. إذا تكلمت تفتحت. كثيرا ما تفتحت الوردة فعطرت الحياة حواليها.

وأتصورها الآن تتفتح، فأسمع تغريدة وترددها الوردة. . . أسمع نبرات كلها موسيقى. كلمات موشاة منمقة مختصرة كخفقة الضوء، ولكنها بليغة في أوج البلاغة وذروتها.

لو سمعتها وحدها حياتي كلها، لعمر الله، ما قنعت ولا مللت!

والجبين الوضاح. والشعر اللين. والقوام المعتدل؟

أسنة مشرعة نحو صدري

والليل متمدد على الدنيا كوحش خرافي لا يقف البصر على زواياه. . والسكون لا صور له. . موحش رهيب. .

وماتت الضوضاء

وتجمعت الحركات الساخنة في رأسي. وتحولت في تيار ساحق. وازدحمت فيه بضعة أسباب مائعة للغز الذي أقاسي من أجل حله.

ويشب الجوي، فيثير في قلبي أحزانا. ويتحامل على، فيجرد لي فيلقا من الشجن.

ويتنقل اليأس في نواحي الروح، فيهوي بها إلى قرارة الجسد، وتغيب في ظلمات وأعاصير.

ويتداعى الأمل. هل من بعث يعيد ما هلك في الأركان العتمة؟ أحاوله. . ألتمس ثغرة يتنفس منها، فأمشي نحوها. أو خيطا من نور يؤدي إليه، فأتعلق به! وعجزت جد العجز. .

وبثق في قلبي الضيق واستقر في بدني الملل. رحماك!

وتفتحت آذان السماء، فرفرفت على عيني سنة قصيرة، وانتهيت بعدها.

تقضي الليل، وآذن الفجر أن يولد، واستهل صراخ الوليد عن ضجيج الناس وحركتهم.

واستيقظت الدنيا. واتسع الأفق وأضاء. وطلى الضوء كل شيء. . صبغه بلون الحياة والرضى والأمل. اللون البهيج.

وآن لقلبي أن يتنهد بعد امتداد بكائه

وألقى إلى صاحبه خطاب. وفضضته. وتسلسلت أمام عيني كتاباتها. واتسعت حدقتهما والتهمتا الكلمات حرفا حرفا.

كل جملة تكون معنى قائما.

كل كلمة تبرز تعبيرات شتى. . تمثل ضميرها ثم تطبعه على الورق، فيكاد المداد الأسود يضئ.

كل لفظ يستشف معه ضراوة البعد وصرامة الشوق، واستبداد الألم.

ويزدحم صدري بالمعاني الواردة ويصيغ مادة التأويل والمفكك.

والكتاب، أوله حتى آخره صورة خلجات نفس هالعة، والهلع موزع في معانيه كلمة كلمة، مرتسم عليها جملة جملة. وأول نظرة ألقيتها عليه أكدت أنه عمل روح جازع.

ليس به تاريخ ليس به عنوان ليس به إشارة إلى لقاء فأستند وأضع لهذه البلبلة حداً.

وزاد الغموض، أن بعض الكلمات أزيلت. لم يكتب شيء مكانها، فارتبك بناء الجمل والمعاني. وتكبدت في حل تلك الرموز البالية العناء.

قالت: سأحضر، انتظرني!

وانتظرت حتى أودي الصبر. وانسلخت أربعة أسابيع وأيام. . هل بررت؟!

وأصحب قلبي بعد طول المهلة إلى نافذتها. وأظل تحتها ساعة أو ما يعادلها، فلا أرى الطلعة السمحة.

ضللت معها وأبعدت

أقدمت أسير في صحراء قفراء. . أقطع الفيافي والمسافات، فإذا تركتها، وحللت من ذكراها في واحة نارية.

أقدمت على النار، وأنا أعلم أنها ليست النور ولا الدفء وأقدمت!!

أحمد عبد القادر الصاوي