مجلة الرسالة/العدد 940/الشعر المطعم
→ في الحديث المحمدي | مجلة الرسالة - العدد 940 الشعر المطعم [[مؤلف:|]] |
عقيدتي ← |
بتاريخ: 09 - 07 - 1951 |
للأستاذ كامل السيد شاهين
نريد بالشعر المطعم ذلك الشعر المعرب الذي اختلطت فيه العامية بالعربية، ونهض مع ذلك شعراً سوياً، يصور الحياة في كل ناحية، فتجده في السياسة، كما تجده في الأخلاق، وتجده في الغزل، كما تجده في الحكم، وهو أبداً خفيف الروح، حلو، حلو عذب، يطربك بهذا الأسلوب اللذيذ، الذي تجتمع فيه المفارقات الحلوة. فبينما تأخذ سمعتك الكلمة العربية الجزلة، تفجؤك بعدها الكلمة العامية المأنوسة، فتجد لها ما تجد للنكتة الحارة من وقع، إذ كانت الكلمة العامية بالغة سمعتك وهو متهيئ للكلمة العربية، فتجد النفس من ذلك ما تجد لرؤية الطويل المفرط مع القصير الدحداح، أو كما تجد لرؤية المرأة متربعة في كرسي القاضي الشرعي، من حيث الفجاءة وعدم التوقع.
وتمام الحلاوة في أنك لا تجد بين العربي والعامي في البيت الواحد خللا أو اضطراباً، ذلك بأن الكلمة العامية تجيء مصقولة صقلاً عربياً، معربة إعراباً صحيحاً، كأنما تحدرت إليك من أعرابي سليقي.
وميزة الشعر المطعم عن الشعر العام أنه عصري متواضع. يمس الاجتماع الراقي كما يمس الاجتماع الشعبي، وبذلك يصور لنا ناحية يترفع عنها الشعر العام - ونحن نجني في كثير من الأحيان على التاريخ، عندما نعتمد على الشعر العام في تصوير حياة المجتمع، لأنه في برج عال رفيع لا ينحط إلى المستوى الشعبي. فكما كانت الأمثال في القديم أصدق تصويراً للاجتماع العربي من الشعر، كذلك الشعر المطعم اليوم أصدق تصويراً للاجتماع الحاضر من الشعر العام. ولذا يكون من الخطر إهدار هذا النوع من الشعر المطعم لأنه أمس بالحياة العامة. فهو يصور المجتمع وينقده نقدا لاذعاً في خفة وفكاهة.
فنحن - مثلا - تجد الفضول والتطفل داء قديماً، ولكن الشعر العام إذا تناوله لم يبلغ فيه من الصدق وتصوير الواقع ما يبلغ الشعر المطعم فهذا شاعر يقول في وصف ثقيل: -
بارد لو يخش في النار تلقى الناس في النار كلها بردانه
كلما شاف صاحبين يقولا ... ن كلاماً غري يمد ودانه
ويطيل الحديث آه يانا يا غلبي ويا وعدي من لته آه يانه وتراه قدامنا مادحا فينا وياما يذمنا من ورانه
يدعى أنه أبن ناس ذوات ... أورثوه في زعمه أطيافه
وهو والله يا عزيزي أيوه ... عربجي وأمه بلانه!
ثم أسمع هذا الختام المحكم القوي:
أيها الناس بعضكم عسل صا ... ف لذيذ، وبعضكم دبانه!
فكم من الأدباء عرض لوصف الثقلاء ولكنهم لم يصورا هذا التصوير البديع الصداق الذي يستمد قوته من صدقه وإبرازه الوقائع كما هي.
والناس يصرخون اليوم من أجرة الأطباء، ولكن الشعراء لا يتناولون هذه الناحية من اجتماع الأمة، ويتناولها الشعر المطعم فيقول الشاعر معارضا قصيدة أبي فراس: -
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعم أنا بردان، وعندي كحة ... ولكن مثلي لا يطيب له صدر
فهل علم الدكتور أني بكحتي ... أمزق أحشائي الغداة ولا فخر
وقال التمرجي هل معاك فزينة ... تخش بها، أو ما معاكشي فتنجر
وقال أصيحابي الدخول أو الردى ... فقلت هما أمران: أحلاهما مر
ألم تعلموا أني فقير وأنه ... إذا شافني خمسون قرشاً له أجر
بنصف جنيه نظرة فابتسامة ... فقصقوصة من دفتر فوقها حبراً
ولكن إذا حم الفضاء على امرئ ... فليس له بر بقية ولا بحر
فاضطرار المريض، وغلظة الممرض، وجشع الطيب، مصورة ههنا أروع التصوير وأبرعه.
وكثير من الأغنياء لا يسهم في المنافع العامة للشعب، ولذا تجد المجالس الشعبية تلدغهم بقارص نقدها، ويسجل ذلك الشعر المطعم:
نعم لك مال، غير انك جلدة ... فلست بمودود ولا متودد
إذا لم تكن - يا باشا - صاحب نخوة ... فخمسون طظا فيك من اليوم للغد
وتجد المجالس الشعبية تتناول عباد المظاهر هازئة ساخرة محقرة، وترى هذا في الشعر المطعم: وكم من فتى تلقاه تحسب أنه ... أمير لتزويق به وتبغدد
مرتبه في الشهر ليس يزيد عن ... جنيهين، وأبن الكلب عامل أفنددي
ولا يقف الشعر المطعم عند تصوير حياة الشعب واجتماعه الخاص، بل يدس أنفه في السياسة العامة، ولكن بروحه الشعبية الجمهورية العاطفية. فيهيب بالأغنياء لإمداد فلسطين قبل طغيان اليهود فيقول:
ومن يعلم بما هم فيه يصعق ... بخضته، ومنه يطق عرق
فأين الراحمون، الم تشوفوا ... ألستم تسمعون وذاك زعق
أنأكل كستليتاه بصلصا ... ونسكر ثم يعد السكر عشق
وبيت الجار مهدوم عليه ... ومعدته بها للجوع حرق
أغيثوهم وإلا قيل عنا ... مجانين رءوسهم تلقى
متبقوشي كدا، عيب عليكم ... إذا ما كنتموش غجرا حتبقوا!
كما يدس أنفه في أمر التعليم، فالمذهب الشعبي في التربية يوجب التأديب بالعصا، وقد علمنا أن بعض المعاهد في إنجلترا تحبذ الضرب في التعليم، وإن كان المربون لا يزالون ينفرون منه. ولما كان الشعر المطعم تعبيراً عن رأي الشعب، فقد جاء منتصراً محبذا للضرب.
وأنا امرؤ قد جئت مصراً ولم أكن ... إلا غلاما حافيا فلاحا
فدخلت مدرسة وكنت معفرطاً ... متنططاً متشعبطاً قراحاً
متشابطاً متلابطاً متخانقا ... متصارعاً متشاتماً رداحا
وإذا اهتديت رأيتني متمألتا ... متمسخراً، متفلسحاً مزاحا
ولا شك أن هذه (الحيثيات) لابد أن تسوق إليه العصا سوقاء، ولذا يقول: _
لكن خوجاتي على توزوزوا ... وعلى نفوخي وهات حتى راحا
فعلمت أن اللعب ليس وراءه ... إلا دمي، تحت العصابة ساحا
فجعلت أقضي الوقت بين قراءة ... وكتابة متألما وحواحا
ونجحت ثم صبحت فيكم راجلاً ... ذا شغلة، لا عاطلاً مشكاحا
أخص علي زمن يحرم أهله ... ضرب الصبي ويشربون الراحا والله لولا الضرب في التعليم ما ... نفع البليد ولا أصاب نجاحا
وليس من شك أن المجالس الشعبية كثيراً ما تدور حول لذائذ الأطعمة وطيباتها، والشعر
المطعم يتكلم بلسان هذه المجالس فيقول:
أرحل عن الدار التي أصحابها ... لا يطعمونك من لذيذ المأكل
بئس الطعام الفول وهو مدمس ... مهما تحاول بلعه لا ينزل!
زرنا تجد في بيتنا ما تشتهي ... من كل مطبوخ وكل مخلل
عملت لنا بالأمس عبلة كفتة ... طباخ باشا مثلها لم يعمل
وكباب عبلة، لا تقل حاتي ولا ... ماتي، وكل منه ثلاثة أرطل
إن الكنافة لو تمثل شخصها ... بين الصنوف ونتشتها في الأولى
وإذا سلاطين الخشاف تجهزت ... فاشمر لها الأكمام واشرب وانجل
والشاعر لا ينسى نفسه في زحمة الكباب والكنافة والخشاف، ولكن يذكر أنه من العزة والكرامة حتى يطيب الطعام فيقول:
لا تسقني مرق الفراغ بذلة ... بل فاسقني بالعز ماء الفلفل
مرق الفراخ بذلة لا أشتهي ... والطرشي في عز أراه يلذ لي!
ولكن. كيف الشعر المطعم فن الغزل، والحب يهز قلوب العلية والدهماء على السواء! إذا بحثنا نجد الغزل في هذا الشعر غزلا يناسب الطبقة الدنيا، ويمثلها أروع التمثيل، فلكل طبقة أسلوبها في طريق المغازلة، عملية وكلامية. وفي الطبقة الشعبية نجد من النساء من تحب من زوجها أن يضربها منذ الليالي الأولى، وإلا لم يكن شهما، فهي تشتم زوجها وتعربد عليه، ولتستثيره، وتخبر مبلغ رجولته.
بكرت تبستفني وتلعن لي أبي ... فأجبتها حالا بضرب الشبشب
مهبولة وتريد مني طبلة ... يا موت خذها من أمامي، والنبي
يا بنت الكلب، ما دخلي أنا ... البيت عندك عمري أو خربي
وبينما نجد هذا النوع من النساء في الطبقة الدنيا، نجد نوعا آخر يحب الدلال، ويحب المحاسنة، ولكن ما دلال العامة وكيف يكون هذا شاعر يصور ضربا منه فيقول:
قلت - يا منية الفؤاد أركبيني ... وامسكي شال عمتي كالعنان!! وتجد أسلوب الشعر العامي في الغزل مأخوذا من الحي الشعبي لا يتطفل على الأحياء الراقية، فهذا شاعر يشبه قلبه بالقبقاب، يوما في رجل هذه، ويوما في رجل تلك:
يا قلب كالقبقاب حيره الجما ... ل، فتارة تدنى، وأخرى تزجر
صبحاً برجل فهيمة وعشية ... في رجل سلمى والزمان تجرجر
وهذا آخر يسمى محبوبته بأسماء بلدية مثل ستيتة، وهنومة وكعب الخير فيقول:
ستيتة لا تكن نجواك عذلي ... فإن بمهجتي حللا بتغلي
وبين أضالعي وابور جاز ... وإبرته جفاك لمشمعل
حرام أن أعيش بلا وبور ... وفي جنبي (بريمس) منه أصلي
ثم يذكر الشاعر دلال محبوبته فيزعم أنها لجهلها بالغزل والدل، لا تميل كما يميل البان، ولكن تميل كما تميل الحائط، ولا ترنوا كما يرنو الغزال، ولكن كما يرنوا الأعمى، ولا تتلفت تلفت الظبي، ولكن تجفل إجفال البغل - وأن غزلها أن تصفعه على قفاه بكف كالرحا كما تشد شعره (جزة الخروف) ثم تمضي في تفليته، واستخراج هوامه، فيقول: -
فمالت حائطا، ورنت كأعمى ... إلى، وأجفلت إجفال بغلي
وصافح كفها الرحوي قفايا ... وشدت جزتي ومضت تفلي
فلا والله ما حرب البسوس ... بأهول من تصيدها لقملي
ولو تتبعنا ذلك لعيبنا، ولأعيينا القراء، وفي ذلك لمن شاء بلاغ.
وبعد: فإننا إذا كنا نبكي اليوم لضياع الأزجال الأندلسية الذي فوت علينا معرفة عامية الأندلس، ولو كشفت الآن لكانت أثرا تاريخيا جليلا - إذا كنا نبكي لضياع هذا التراث، فإننا أجدر بالبكاء إذا ما ضيعت هذه الثروة التي لم يعن يجمعها أحد، ولم يسرع لتقعيد قواعدها أحد، إلا شيئاً يسيراً ذكره المرحوم حسين شفيق المصري لا يشفي ظمأ ولم يعن أحد باستخراج ما تحويه من أساليب وكنايات تعد من أبرع وأروع ما تحوي بلاغات الأمم مما يصلح أن يكون رسالة شائقة فريدة، وحسبنا أننا فتحنا الباب لمن شاء أن يسلك أو يدرس.
كامل السيد شاهين
مبعوث الأزهر للسودان