الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 94/فلسفة موسى بن ميمون

مجلة الرسالة/العدد 94/فلسفة موسى بن ميمون

مجلة الرسالة - العدد 94
فلسفة موسى بن ميمون
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 04 - 1935


ومصنفه دلالة الحائرين)

بقلم إسرائيل ولفنسون

إذا كانت مدونات موسى أبن ميمون التشريعية قد صنفت لأبناء الثقافات اليهودية قبل كل شيء، وإذا كانت البحوث التي وردت فيها لا تتجاوز حدود الدين وأدب الدين والتشريع الإسرائيلي فإن كتاب دلالة الحائرين يشغل ناحية أخرى من التفكير الإنساني، هي الناحية الفلسفية والمنطقية، أو الناحية الإنسانية العامة التي كانت تشغل بال المفكرين ورجال الفلسفة في ذلك العهد

وقد اعتمد بن ميمون في أثناء تأليفه كتابه (دلالة الحائرين) على المصادر العبرية التي كان له بها إلمام يندر أن يكون في شخص آخر من أحبار اليهود في القرون الوسطى، كما كانت له دراية تامة بمؤلفات اليهود باللغة العربية، ومع أنه لم يسرد أسماء المؤلفين إلا في أحوال نادرة فإن نظرياتهم تتكرر في كثير من فصوله في كتابه (دلالة الحائرين) إذ يسرد آراء سعديا الفيومي وبخيا وسليمان بن جبيرول ويهودا هالوي وإبراهيم بن حيا وإبراهيم بن عزرا

وكذلك كانت له دراية بآداب اليهود القرائين

أما الفلسفة اليونانية فكان يعرفها من التراجم العربية شأن غيره من الفلاسفة في البلدان الإسلامية وهو متأثر قبل كل شيء بأرسطاطاليس الذي يراه رئيس الفلاسفة، يجله إجلالا عظيما إذ يقول: (وكل ما قاله أرسطاطاليس في جميع الوجود الذي من لدن فلك القمر إلى مركز الأرض هو صحيح بلا ريب، ولا يعدل عنه إلا من لم يفهمه، أو من تقدمت له آراء يريد الذب عنها، أو تقوده تلك الآراء إنكار أمر مشاهد. . .)

وكان قد درس كتاب الأخلاق لأرسطاطاليس من ترجمة إسحق بن حنين كما علم نظرياته من شروح يونانية مترجمة إلى العربية مثل إسكندر الأفروديسي وتامستيدس ويحيى النحوي

وكذلك وصلت إليه نظريات أرسطاطاليس بوساطة المصنفات العربية مثل الغزالي وابن باجة أبو بكر بن الصائغ وأبن الطفيل والفارابي وآراء المتكلمين، وكذلك أدمج في (دلا الحائرين) بعض النظريات لبطليموس وجلينوس اليونانيين

وكذلك ورد في دلالة الحائرين بحث في منزلة المعتزلة والأشعرية مما يدل على أنه درس المذاهب الإسلامية دراسة وافية

وكان السبب المباشر في نشر كتابه دلالة الحائرين إلحاح تلميذه يوسف بن عقنين عليه، ويقول موسى بن ميمون في مقدمته إلى تلميذه: أيها التلميذ العزيز، لما مثلت لدي وقصدت إلى عظم شأنك لشدة حرصك على الطلب، ولما رأيت في أشعارك التي وصلتني وأنت مقيم بالإسكندرية من شدة الاشتياق للأمور النظرية، وقبل أن أمتحن تصورك قلت لعل شوقه أقوى من إدراكه، فلما قرأت علي ما قرأته من علم الهيئة وما تقدم لك مما لا بد منه، زدت بك غبطة لجودة ذهنك، وسرعة تصورك، ورأيت شوقك للتعليم عظيما فتركتك للارتياض فيه لعلمي بمآلك ولما قرأت علي ما قرأته من صناعة المنطق تعلقت آمالي بك، ورأيتك أهلا لأن تكشف لك أسرار الكتب النبوية حتى تطلع منها على ما ينبغي أن يطلع عليه الكاملون، فأردت أن ألوح لك تلويحات وأشير لك بإشارات، فرأيتك تطلب مني الازدياد وأن أبين لك أشياء من الأمور الإلهية أن أخبرك بمقاصد المتكلمين وطرائقهم. . . وآمرك أن تأخذ الأشياء على ترتيب قصدا مني أن يصح لك الحق بطرقه لا أن يقع اليقين بالعرض؛ ولم أمتنع طول اجتماعك بي إذا ما ذكر نص من نصوص الحكماء فيه تنبيه على معنى غريب من تبيان ذلك لك، فلما قدر الله بالافتراق، وتوجهت إلى حيث توجهت أثارت مني تلك الاجتماعات عزيمة كانت فترت وحركتني غيبتك لوضع هذه المقالة التي وضعتها لك ولأمثالك، وقليل ما هم، وجعلتها فصولا منثورة وكل ما أكتب لك منها يصلك أولا فأولا ودمت وأنت سالم. . .

ولم يقصد موسى بمصنفه هذا الجمهور أو المبتدئين بالنظر، بل كان نصب أعينه (جماعة الذين أخذوا أنفسهم بالكمال الإنساني وإزالة هذه الأوهام السابقة من سن الطفولة) أو إنه (ما ألف الكتاب إلا لمن تفلسف وعرف ما قد بان من أمر النفس وجميع قواها. . . . .) أو (لمن هو كامل في خلقه ودينه ونظر في علوم الفلسفة وعلم معانيها. . . . .)

أما عن غرض تأليف دلالة الحائرين فيقول المؤلف: ما كان الغرض نقل كتب الفلاسفة. . . وما كان قصدي أن أؤلف شيئا في علم الطبيعة، أو أن ألخص معاني العالم الآلهي على بعض المذاهب، أو أبرهن على ما يبرهن منها، أو أن أقتضب هيئة الأفلاك، ولا أن أخبر بعددها إذ الكتب المؤلفة في جميع ذلك كافية، وإن لم تكن كافية في غرض من الأغراض فليس الذي أقوله أنا في ذلك الغرض أحسن من كل ما قيل، وإنما كان الغرض بهذه المقالة أن أبين مشكلة الشريعة وأظهر حقائق.

ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء، يشتمل كل جزء على فصول أو موضوعات، وعلى كبر حجم الكتاب وتنوع موضوعاته فإن ما ورد فيه من النظريات يتدرج تدرجا منطقيا محكما من قضية إلى أخرى، فكأن جميعها سلسلة واحدة مرتبطة ارتباطا وثيقا

والهدف الأسمى الذي يرمي إليه موسى بن ميمون هو أن يلقى أشعة من أنوار الفلسفة والمنطق والعقل على الأيمان والشعور (العقل الفائض علينا هو الصلة بيننا وبين الله تعالى. . .)

وهو يقصد التوفيق بين الدين والفلسفة (الحكمة المقولة بإطلاق في كل موضوع هي إدراكه تعالى)، كما يقصد التوفيق بين موسى كليم الله وأرسطاطاليس شيخ الفلاسفة حتى ينظر العالم إلى الدين عن طريق الفلسفة، وحتى يطلب الحق والعرفان لا في أفق الدين وحده، بل في ميدان العقل والمنطق أيضا، وقد رفع بذلك الفلسفة والفلاسفة إلى مصف واحد مع الدين وكبار مفكري الدين

ويبحث الجزء الأول من دلائل الحائرين في ماهية الله وكيفية إدراكه وتوحيده، كما يدخلنا في الكتاب المقدس عن طريق الفلسفة والمنطق، ويفتح الكتاب بمحاربة عنيفة كل ما يقصد من الأوصاف المادية المنسوبة لله، فيشرح الآية (نصنع إنسانا على صورتنا وشبهنا) إن الناس قد ظنوا أن لفظ صورة في اللسان العبري يدل على شكل الشيء وتخطيطه فيؤدي ذلك إلى التجسيم المحض، ورأوا أنهم أن فارقوا هذا الاعتقاد كذبوا النص. . . وأما صورة فتقع على الصورة الطبيعية، أعني على المعنى الذي يجوهر الشيء بما هو حقيقته من حيث هو ذلك الموجود المعنوي، هو الذي عنه يكون الإدراك الإنساني. . . فيكون المراد من الصورة النوعية التي هي الإدراك العقلي لا الشكل والتخطيط. . .

وإدراك الإله عنده على الطريقة السلبية لا الإيجابية، فإنه يقول: (اعلم أن وصف الله عز وجل بالسوالب هو الوصف الصحيح الذي لا يلحقه شيء من التسامح، ولا فيه نقص من حق الله تعالى جملة ولا على حال، أما وصفه بالإيجابيات ففيه من الشرك والنقص)

ويبحث الجزء الثاني في مشاكل وجود الله وتوحيده وروحانيته وما يرى الفلاسفة في الكون إذا كان قديما أو (محدثا)، ومع أن موسى بن ميمون من أشد أنصار أرسطاطاليس ففي مسألة قدم الكون يحاربه محاربة عنيفة، لأن الأخذ بقدم الكون ينفي ما ورد في التوراة من أن الكون محدث، ويقول موسى بن ميمون بعد بحث طويل في هذه المشكلة إن كل ما ذكره أرسطاطاليس وأتباعه من الاستدلال على قدم الكون ليس له براهين قطعية، بل لها حجج تلحقها الشكوك العظيمة. . .

ثم يبحث في النبوة وماهيتها ودرجاتها وتعريفها عند رجال الدين من الملل المختلفة وعند أصحاب المدارس من الفلاسفة

ويشغل البحث في النبوة أغلب فصول الجزء الثاني وهو من أرقى ما وصل إليه التفكير اليهودي الفلسفي في القرون الوسطى

أما الجزء الثالث فيتم موسى في فصوله السبعة الأولى بحثه عن النبوة بشرحه رؤيا النبي حزقيال الذي ورد في الفصل الأول والثالث من سفره من أسفار العهد القديم، وكل ما ورد فيها من الاصطلاحات العويصة والمعاني الغامضة

ثم ينتقل إلى البحث في الشر، وما يحل من المصائب بالعالم وهل الإنسان هو الذي يكون مسئولا عما يقع من الكوارث على المخلوقين أم الله سبحانه وتعالى، ثم ينتقل إلى مشكلة العناية الآلهية بالكون والمخلوقات، وما يقول الفلاسفة من اليونان والمسلمين واليهود فيها

ثم يتعرض لأمور دينية في الشريعة التي جاءت لصلاح النفس وصلاح البدن، كما يشرح واجبات وعبادات وردت في التوراة على الطريقة الفلسفية

وقد ورد في هذا الجزء معلومات كثيرة عن الأخلاق والعادات عند الصابئة وعبدة الأصنام من الآراميين من أهل حران بجزيرة العراق كما ذكرت بعض كتبهم

وكذلك ورد الذكر لكتاب الفلاحة النبطية لأبن وحشية ولم ينتبه العلماء المستشرقون إلى هذا الكتاب إلا بعد أن قرأوا ما كتبه عنه موسى بن ميمون

وفي الفصول الأربعة الأخيرة يبحث المؤلف في العناية بالعبادات والواجبات الدينية التي هي الغاية المثلى في حياة الإنسان حتى يدرك الحقائق الآلهية، وحتى يتقرب إلى الحق والعدل والحكمة وهي ألفاظ يعرفها موسى تعريفا منطقيا فلسفيا، وهذه الفصول من أدق ما وضع في مصنفه دلالة الحائرين وأكملها

إسرائيل ولفنسون

أستاذ اللغات السامية بدار العلوم