مجلة الرسالة/العدد 94/عصر الخفاء في مصر الإسلامية
→ ربيع الغوطة | مجلة الرسالة - العدد 94 عصر الخفاء في مصر الإسلامية [[مؤلف:|]] |
روح المدرسة الإنجليزي ← |
بتاريخ: 22 - 04 - 1935 |
الحاكم بأمر الله
- 3 -
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان الحاكم بأمر الله صبيا في نحو السادسة عشرة حينما بدأ يضطلع بمهام الدولة على هذا النحو؛ بيد أن هذا الفتى القوي النفس، كان حاكما حقيقيا يقبض على السلطة بيديه القويتين؛ ويشرف بنفسه على مصاير هذه الدولة العظيمة، ويبدي في تدبير شئونها مدهشا، فيباشر الأمور في معظم الأحيان بنفسه، ويتولى النظر والتدبير مع وزرائه؛ وهكذا كان الأمير اليافع يؤثر العمل المضني على مجالي اللهو واللعب التي يغمر تيارها من كان في سنه، وفي مركزه وظروفه؛ وقد لزم الحاكم هذا النشاط المضني طوال حياته. وكان الحاكم ذا بنية قوية متينة؛ وكان منذ حداثته يتمتع بمظهر الجبابرة: مبسوط الجسم، مهيب الطلعة، له عينان كبيرتان سوداوان تمازجهما زرقة، ونظرات حادة مروعة كنظرات الأسد لا يستطيع الإنسان صبرا عليها؛ وله صوت قوي مرعب يحمل الروع إلى سامعيه؛ وقد كان في الواقع سليل نسل من الجبابرة الصحراويين الأقوياء، الذين يذهبون في زهرة العمر والقوة؛ وكان أبوه العزيز بالأخص عظيم القامة عريض المنكبين قوي التكوين، فورث عنه ولده هذه الخواص الطبيعية البديعة، ولم يبددها في شهوات النفس التي ينغمس فيها أبناء القصور
وهنا يبدأ عصر الحاكم بأمر الله حقا، وهو أغرب عصر في تاريخ مصر الإسلامية، وربما كان أغرب عصر في تاريخ الإسلام كله؛ عصر يمازجه الخفاء والروع، وتطبعه ألوان من الإغراق والتناقض مدهشة مثيرة معا؛ ولكن هذه الألوان الخفية المغرقة، وهذه النواحي المتباينة هي التي تسبغ على العصر أهميته وطرافته، وهي التي تحيط شخصية الحاكم بحجب كثيفة من الظلمات يعب اختراقها. ويحسن قبل أن نعرض إلى درس هذه الشخصية العجيبة وقبل أن نحاول استجلاء غوامضها، واستقراء حقيقتها، أن نستعرض أولا أعمال الحاكم وتصرفاته، وحوادث العصر وظروفه؛ ثم نحاول على ضوئها أن نتفهم روح العصر، ونفسية تلك الشخصية الفريدة التي أفاضت عليه من خفائها وروعتها، وملأته بنشاطها ونزعاتها وأهوائها، وتبوأت فيه المقام الأسمى
- 5 -
تقدم الرواية الإسلامية إلينا الحاكم في صور مروعة مثيرة؛ فتقدمه إلينا أولا في صورة جبار منتقم، وسفاك لا يخبو ظمؤه إلى الدماء؛ ثم تقدمه إلينا في صورة طاغية مضطرم الأهواء والنزعات، متناقض الرأي والتصرفات، لا تكاد تلمس لأعماله باعثا أو حكمة؛ شرسا جموحان ميالا إلى الشر، خؤونا وافر الغدر، لا يستقر على ثقة أو صداقة؛ وتقدمه إلينا على العموم في ثوب شخصية بغيضة خطرة، فاقدة الرشاد والتعقل، يغلب عليها الجانب الأسود، ولكنها مع ذلك لا تنكر عليه بعض نواحي الخير والخلال الحسنة، فتصفه لنا بالجود والتقشف والزهد في كثير من متاع الحياة الدنيا
(كانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء؛ وكان الغالب عليه الصلاح، وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط). (وكان جوادا، سمحا، خبيثا ماكرا، رديء الاعتقاد، سفاكا للدماء، قتل عددا كبيرا من كبراء دولته صبرا؛ وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورا وأحكاما يحمل الرعية عليها). (وكان حاله مضطربا في الجور والعدل، والإخافة والأمن، والنسك والبداعة). في هذه الصور وأمثالها تقدم الرواية الإسلامية إلينا الحاكم؛ ولا ريب أن في حياة الحاكم وفي أعماله وتصرفاته ما يبرر كثيرا من هذه الأوصاف المثيرة؛ غير أنها ليست كل شيء في هذه الحياة العجيبة الغامضة؛ ومن الخطأ أن نقف عندها في تصوير الحاكم والحكم عليه، ومن الواجب أن نتقصى في حياة الحاكم جوانب أخرى، وأن نحاول تفهم شخصيته ونفسيته على أضواء أخرى
افتتح الحاكم عهد حكمه بقتل برجوان وصيه ومدبر دولته؛ وكان للجريمة باعث سياسي قوي؛ فلم تك يومئذ دليلا على حبه للسفك أو ظمئه إلى الدم، غير أن الحاكم ما لبث أن أتبع ضربته بضربة دموية أخرى هي مقتل ابن عمار زعيم كتامة وأمين الدولة السابق؛ وكان الحاكم قد حماه من برجوان وأطلق له رسومه وجراياته، وأذن له بالركوب إلى القصر؛ ففي ذات مساء، حين انصرافه من القصرن انقض عليه جماعة من الغلمان الترك كانت قد هيئت للفتك به، فقتلوه وحملوا رأسه إلى الحاكم (شوال سنة 390) ولم تكن للجريمة بواعث ظاهرة، ولكنا نستطيع أن نعللها برغبة الحاكم في سحق الزعماء ذوي البأس والعصبية، وهي رغبة يدلل عليها كما سنرى في مواطن كثيرة؛ وكانت كتامة أقوى القبائل المغربية كما قدمنا، وكان ابن عمار أقوى زعماء الدولة. ولكن سنرى من جهة أخرى أن الحاكم يسرف في القتل، فيقتل وزراءه وغلمانه تباعا، دون حكمة ظاهرة إلى ما كان من نزعة مؤقتة أو سخط فجائي
وفي سنة 393هـ قتل الحكم وزيره فهد بن إبراهيم بعد أن قضى في منصبه زهاء ستة أعوام، وأقام مكانه علي بن عمر العداس، ولكن لم تمض أشهر قلائل حتى سخط عليه وقتله، وقتل معه الخادم زيدان الصقلي حامل المظلة، ثم قتل عددا كبيرا من الغلمان والخاصة (سنة 394)، ثم تبع ذلك بمقتلة أخرى كان من ضحاياها الحسين بن النعمان الذي شغل منصب القضاء منذ سنة 89، وعدد كبير من الخاصة والعامة، قتلوا أو أحرقوا؛ وقتل جماعة من الأعيان صبرا؛ ولم يك ريب في أن هذه المذابح المتوالية كانت عنوان نزعة خطيرة إلى البطش والفتك واحتقار الحياة البشرية؛ وكان أشد الناس تعرضا لهذه النزعات الخطرة، أقرب الناس إلى الحاكم من الوزراء والكتاب والغلمان والخاصة، ولم يك الكافة أيضا بمنجاة منها، فكثيرا ما عرضوا للقتل الذريع لأقل الريب والذنوب، أو لاتهامهم بمخالفة المراسيم والأحكام الغربية الصارمة التي توالى صدورها في تلك الفترة. وكان رجال الدولة ورجال القصر وسائر العمال والمتصرفين يرتجفون رعبا وروعا أمام هذه الفورات الدموية؛ وكان المجتمع القاهري، ولا سيما التجار وأرباب المصالح والمعاملات يشاطرونهم ذلك الروع؛ ويروي لنا المسبحي صديق الحاكم ومؤرخه فيما بعد، أن الحاكم أمر في سنة 395 بعمل شولة كبيرة مما يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفا، فارتاع الناس وظن كل من له صلة بخدمة الحاكم من رجال القصر أو الدواوين أنها أعدت لإعدامهم، وسرت في ذلك إشاعات مخيفة، فاجتمع سائر الكتاب وأصحاب الدواوين والمتصرفين من المسلمين والنصارى في أحد ميادين القاهرة، ولم يزالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا إلى القصر، فوقفوا على بابه يضجون ويتضرعون، ويسألون العفو عنهم؛ ثم دخلوا القصر، ورفعوا إلى أمير المؤمنين عن يد قائد القواد الحسين بن جوهر رقعة يلتمسون فيها العفو والأمان فأجابهم الحاكم على لسان الحسين إلى ما طلبوا؛ وأمروا بالانصراف والبكور لتلقي سجل العفو. واشتد الذعر بالغلمان والخاصة على اختلاف طوائفهم، فضجوا واستغاثوا وطلبوا العفو والأمان فأجيبوا إلى ما طلبوا؛ وتبعهم في الاستغاثة التجار وأرباب المهن والحرف؛ وتوالى صدور الأمانات لمختلف الطوائف؛ وقد أورد لنا المسبحي صورة أحد هذه الأمانات ونصها: (هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين لأهل مسجد عبد الله: إنكم من الآمنين بأمان الله الملك الحق المبين، وأمان جدنا محمد خاتم النبيين، وأبينا على خير الوصيين، وآبائنا الذرية النبوية المهديين صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين؛ وأمان أمير المؤمنين على النفس والحال والدم والمال، لا خوف عليكم ولا تمد يد بسوء إليكم، إلا في حد يقام بواجبه، وحق يؤخذ بمستوجبه فيوثق بذلك، وليعول عليه إن شاء الله تعالى؛ وكتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة. . . الخ)
وهكذا هبت على المجتمع القاهري ريح من الرهبة والخشوع، وأصبح اسم هذا الخليفة الفتى الذي لم يجاوز يومئذ العشرين من عمره، وأصبحت نزعاته وتصرفاته مثار الرعب والروع. ولم يك ثمة ريب في أن القتل كان في نظر الحاكم خطة مقررة، ولم يكن فورة أهواء فقط؛ وقد لزم الحاكم هذه الخطة الدموية طول حياته؛ ووقعت في الأعوام التالية حوادث ومناظر من القتل الذريع لا نهاية لها، وكانت تقترن أحيانا بضروب مروعة من القسوة، وقلما كان يغادر وزير أو كبير من كبراء الدولة إلا مسفوك الدم، وفي الأحوال النادرة التي كان ينجو المعزول فيها بحياته، كانت تلازمه نقمة الحاكم حتى يهلك. ففي شعبان سنة 398هـ عزل قائد القواد الحسين بن جوهر، وعين مكانه صالح بن علي الروذبادي ولقب بثقة ثقات السيف والقلم؛ وبعد أسابيع قلائل أمر الحاكم الحسين وصهره قاضي القضاة عبد العزيز ابن النعمان بلزوم دارهما؛ ثم أمر بالقبض عليهما، ففر الحسين وقبض على عبد العزيز؛ واضطربت القاهرة لمكانة الحسين، ثم عفا عنهما وأعيد عبد العزيز إلى منصبه، ولكنهما لم يطمئنا إلى هذا العفو المريب، ففرا بأسرتيهما، فأمر الحاكم بمصادرة أموالهما، وسير الخيل في طلبهما، وأنفذ إليهما كتب الأمان؛ فعادا إلى القاهرة بعد أن استوثقا من الخليفة بالأمان والعفو، واستمرا يركبان إلى القصر مدى حين؛ وفي ذات يوم استبقيا بالقصر (لأمر تريده الحضرة) ثم قتلا فجأة (12 جمادى الآخرة سنة 401، وصودرت أموالهما، وعاد الحاكم بعد ذلك فأمن أولاد القتيلين وخلع عليهم
وإليك طائفة أخرى من حوادث القتل والسفك التي أمعن فيها الحاكم: في سنة 399، قبض الحاكم على جماعة كبيرة من الغلمان والكتاب والخدم الصقالبة بالقصر، وقطعت أيديهم من وسط الذراع ثم قتلوا، وقتل فضل بن صالح من أعظم قواد الجيش وفي العام التالي وقعت مقتلة أخرى بين الغلمان والخدم، وقتل جماعة من العلماء السنية؛ وقبض على صالح بن علي الروذبادي لأسابيع قلائل من عزله، وقتل؛ وعين مكانه ابن عبدون النصراني، ثم صرف وقتل لأشهر قلائل؛ وخلفه أحمد بن محمد القشوري في الوساطة والسفارة، ثم صرف لأيام قلائل من تعيينه وضربت عنقه (سنة 401). وللحاكم قصة دموية مروعة مع خادمه غين وكاتبه أبي القاسم الجرجرائي، وكان غين من الخدم الصقالبة الذين يؤثرهم الحاكم بعطفه وثقته، فعينه في سنة 402 للشرطة والحسبة ولقبه بقائد القواد، وعهد إليه بتنفيذ المراسيم الدينية والاجتماعية، وعهد بالكتابة عنه إلى أبي القاسم الجرجرائي وكان الحاكم قد سخط على غين قبل ذلك ببضعة أعوام وأمر بقطع يده فصار أقطع اليد؛ ثم سخط عليه كرة أخرى وأمر بقطع يده الثانية وحملت إلى الحاكم في طبق، فبعث إليه الأطباء للعناية به ووصله بمال وتحف كثيرة؛ ولكن لم تمض أيام قلائل على ذلك حتى أمر بقطع لسانه، فقطع وحمل إلى الحاكم أيضا، ومات غين من جراحه (جمادى الأولى 404). وأما أبو القاسم الجرجرائي فقد أمر الحاكم بقطع يديه لوشاية صدرت في حقه، ولكنه أبقى على حياته، وعاش أقطع اليدين
وفي سنة 405هـ قتل الحاكم قاضي القضاة مالك بن سعيد الفاروقي، وقتل الوزير الحسين بن طاهر الوزان، وعبد الرحيم ابن أبي السيد الكاتب، وأخاه الحسين متولي الوساطة والسفارة؛ وقلد فضل بن جعفر بن الفرات، ثم قتله لأيام قلائل من تعيينه. وهكذا استمر في الفتك بالزعماء ورجال الدولة والكتاب والعلماء حتى أباد معظهم؛ هذا عدا من قتل من الكافة، خلال هذه الأعوام الرهيبة، وهم ألوف عديدة.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي