الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 94/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

مجلة الرسالة/العدد 94/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

مجلة الرسالة - العدد 94
شاعرنا العالمي أبو العتاهية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 04 - 1935


للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

تمهيد:

الشعراء العالميون في شعراء العربية قليلون، وإنهم ليبلغون من القلة بحيث إنك لا تكاد تبلغ بهم عدد أصابع اليد الواحدة، وهذا بينما ترانا الآن نعرف من أسماء شعراء أوربا في هذا العصر أكثر مما نعرف من شعرائنا الأقدمين، وندرس من شعرهم وأدبهم أكثر مما ندرس من الشعر والأدب العربيين، حتى أصبح الشعر والأدب الأوربيان فتنة شبابنا الناشئين، يكلفون بهما أكثر مما يكلفون بشعرنا وأدبنا، ويصرفون جل أوقاتهم في دراستهما، وتعرف طرائقهما حتى أثر هذا في شعرهم، وصرنا نرى بهذا الشعر العربي أساليب كثيرة ما كان يعرفها من قبل، ومعاني جديدة تغزوه كما يغزونا أصحابها برجالهم وأسلحتهم، وأموالهم ومصنوعاتهم

وربما يكون أبو العتاهية أول شاعر عربي بلغ هذه المنزلة الشعرية العالية، وكان له شعر عالمي تتسابق الأمم المختلفة اللغات إلى روايته ودرسه، وترجمته إلى لغاتها وإذاعته في بلادها. قال أبو الفرج: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي إجازة قال: حدثني الرياشي قال: قدم رسول لملك الروم إلى الرشيد، فسأل عن أبي العتاهية وأنشده شيئا من شعره، وكان يحسن العربية، فمضى إلى ملك الروم وذكره له، فكتب ملك الروم إليه، ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية، ويأخذ فيه رهائن من أراد، وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في ذلك، فاستعفى منه وأباه، وأتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته وهما:

ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجومُ السماء في الفَلك

إلا لنقل السلطان عن مَلِك ... قد انقضى مُلكَه إلى مَلِك

وهما في الحق بيتان جديران بأن ينالا مثل هذه العناية من ملك الروم، فما أحسنهما عظة بالغة، وما أصدقهما حكمة نافعة، وما أجمل أسلوبهما في سهولته وامتناعه، ولكن علماءنا جازاهم الله لا يقدرون من هذا ما قدره ملك الروم لأبي العتاهية، وقد ينظرون إلى هذين البيتين إذا قرأهما إلى صناعتهما اللفظية، ولا يعنيهم منها هذا المعنى الجليل الذي عنى ملك الروم، وربما يعيبونهما بما يسمونه التضمين الذي عابا به بيتي النابغة الذبياني:

وهُمْ وردوا الجِفارَ على تَمِيم ... وهم أصحاب يوم عُكاظَ إنِّي

شهدتُ لهم مَوَاطِنَ صادقات ... شَهِدْنَ لهم بحسن الظن مني

والتضمين عندهم هو تعليق قافية بيت بما بعده بحيث لا يتم الكلام إلا به، وهذا بأن يكون جواب شرط أو خبراً أو نحوهما لا نعتا أو نحوه من التوابع والفضلات، فلا يرضيهم إلا أن يكون لكل بيت من القصيدة وحدة مستقلة عن البيت الذي قبله، والبيت الذي بعده، ولا يكفيهم أن تكون القصيدة كلها وحدة يصح أن تتصل أبياتها بمثل هذا التضمين الذي يعدونه من عيوب القافية، ويصح ألا تتصل به إذا اتصلت بأمر آخر غيره، وربما يكون اتصال أبياتها بمثل هذا خيرا من تقاطعها وتباعدها، والاكتفاء في الربط بينهما إذا عني به بمثل قولهم (دع ذا أوعد عن ذا)

وقال أبو الفرج: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق، وعمي الحسن بن محمد وحبيب نصر المهلبي، قالوا: حدثنا عمر بن شبة، قال: مر عابد براهب في صومعة فقال له: عظني، فقال: أعظك وعليكم نزل القرآن، ونبيكم محمد ﷺ قريب العهد بكم، ﷺ وعلى آله؟ قلت: نعم، قال: فاتعظ ببيت من شاعركم أبي العتاهية حين يقول:

تجرد من الدنيا فإنك إنما ... وقعت إلى الدنيا وأنت مجرد

وكلا هذا وذاك يثبت لنا من أبي العتاهية شاعرا عالميا نباهي به من يباهينا بشعرائه العالميين في القديم والحديث، على قلة هذا الصنف من الشعراء عندنا، وندرة الشعر العالمي في شعرنا، ويهمنا الآن أن ندرس العوامل التي كان لها أثرها في هذا الأمر إلى ظهور شاعرنا أبي العتاهية، لنعرف كيف ظهر في الشعر العربي بهذا المظهر، ونعرف حال العصر الذي نشأ فيه، وكيف كان أثره في شعره

يجري مؤرخو الآداب العربية على أن الصناعة البديعية لم تظهر في الشعر العربي، ولم يكلف بها شعراء العرب إلا في العصر العباسي، بعد ظهور أبي تمام وأضرابه من الشعراء الذين حذوا في ذلك حذوه، واستنوا فيه سنته، ثم زادوا عليه فيه حتى جعلوا من الشعر صناعة لفظية، لا تنطوي على معنى جليل، أو غرض نبيل، وإنما هي ألفاظ جوفاء لا طائل تحتها، ولا تهم الناس في أمر دينهم أو دنياهم

أما أنا فأرى في هذا ما يخالف رأيهم فيه كل المخالفة، أرى أن الصناعة البديعية كانت موجودة في الشعر قبل الإسلام، وأرى أن الشعراء قبله كانوا يقصدون إليها في شعرهم، ويتكلفونها فيه كما تكلفها أبو تمتم ومن أتى بعده، وإن أربوا في ذلك عليهم، وقصدوا إليه أكثر منهم، وأرى أن أبا تمام لم يفعل إلا أن جدد هذه السنة، ونهج في شعره على منوالها، بعد أن كاد الشعراء العباسيون قبله يسلكون بالشعر مسلكا جديدا يخالف هذا المسلك، ويتلائم مع العصر الذي ظهروا فيه كل الملاءمة

وكان أمرؤ القيس أول من عني بالصناعة البديعية في الشعر العربي، فتكلف منها ما لم يتكلفه أحد من قبل، وتزاحمت في شعره الكنايات والتشبيهات والاستعارات وما إليها، فكل هذا من الصناعة البديعية، وأسم البديع يشمل عند القدماء التشبيه مثلا، كما يشمل المقابلة والجناس ونحوهما

وقد ضاع أكثر شعر القدماء قبل امرؤ القيس، فلا نعرف مقدار ما كان فيه من تلك الصناعة؛ والذي نرجحه أنه كان لا يخلو منها، ولكن الذي كان يغلب عليه العناية بالمعاني الأصيلة، فكانت تظهر فيه على فطرتها في غير تصنع ولا تكلف ولا اجتهاد في تحسين، يأتيها بتصرف الخيال فيها بتشبيه أو كناية أو نحوهما

وغاية ما ذكره علماء الأدب في ذلك أن القدماء قبل امرئ القيس كانوا يقولون في المرأة الحسناء: (أسيلة الخد، تامة القامة أو طويلتها، جيداء أو طويلة العنق،) فقال أمرؤ القيس في هذا: أسيلة مجرى المع، بعيدة مهوى القرط، وكانوا يقولون في الفرس: يلحق الغزال، ويسبق الظليم. فقال أمرؤ القيس فيه: (بمنجرد قيد الأوابد هيكل)، ولا يكادون يجاوزون هذا في بيان الفرق بين حال الشعر العربي قبل امرئ القيس وحاله بعده

وقد شغف الشعراء بد امرئ القيس بصناعة البديع في شعرهم، وكانت حياتهم البدوية تضيق بهم، وتضيق بعقولهم وأفكارهم، فوقفوا بالشعر العربي عند معان محدودة، متأثرة في ضيقها وعدم اتساعها، وقلة أثر العقل المثقف فيها بضيق تلك الحياة، وقلة أثر الثقافة فيها، وأخذوا يدورون حول تلك المعاني كما تدور الرحى حول محورها، لا يتصرفون فيها إلا بتشبيه أو استعارة، أو مجاز أو كناية، أو نحو هذا من تلك الصناعة التي تنافسوا فيها، حتى وصلوا بها في سجع كهانهم إلى آخر حدودها، فكان لهم فيه سجع متكلف مرذول، لا يقل قبحا في تكلفه عن السجع الذي تكلف بعد الإسلام في آخر العصر العباسي، إلى أن ظهرت هذه النهضة الحاضرة

ثم جاء المتأخرون من شعراء هذا العصر، فزادوا الطين بلة، واتخذوا الشعر تجارة، وتكسبوا به في المدح والهجاء، وداروا به في تلك المعاني لا يكادون يتجاوزونها، أو يحسنون شيئا سواها، فساء أثر هذا الشعر في الأمة العربية، وصار شعراؤه معاول هدم في بنائها، وقد جمدوا على ما ألفوه من هذا جمود أمتهم على أوثانها وأصنامها

وفي وسط هذا الجمود الأدبي، وذلك الضيق الفكري، ظهر الإسلام يدعوا العرب إلى دين جديد يأخذ بهم من عزلتهم، في هذا الضيق وذلك الجمود، إلى معترك الحياة التي تتلاقى فيه الشعوب، وتجتمع متنافسة في وسائل الرقي والنهوض، فحاربه أولئك الشعراء وحاربهم، لأنهم رأوا فيه خطرا على ما جمدوا عليه في صناعتهم، ورآهم هو من الجمود وضيق الفكر بحيث لا يصلحون ولا يتفق شعرهم مع دعوة هذا الدين الجديد، ورأى أنه لا يتفق معه إلا أدب مثقف يعنى فيه بالمعاني الأصيلة السامية، أكثر مما يعنى بتلك الصناعة التي تضيع فيها تلك المعاني، ويتلاعب فيها بما يسمونه المعاني الثانوية التي لا يصح أن تؤثر في حال من الأحوال على المعاني الأصيلة، ولا شك أنه كلما أوغل الشعر والأدب في إيثار تلك الصناعة بعدا عن هذه الغاية السامية التي يراد لهما فيها أن يتفقا مع هذا الدين، فيكونا للبشر كافة، لا للعرب خاصة، ولا تقف تلك الصناعة حائلا دون فهم الناس لهما، أو العناية فيهما بما يعنيهم منهما

فإذا أردت أن تعرف نظر الإسلام إلى ما كان عليه الشعر والأدب العربي من هذا كله إبان ظهوره، فانظر إلى النبي ﷺ وقد قال له بعضهم يتشادق في كلامه تشادقهم: (يا رسول الله، أرأيت من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس مثل ذلك بطل؟ فقال رسول الله ﷺ منكرا لهذا منه: أسجع كسجع الجاهلية؟) وانظر إليه ﷺ يفتخر بنشأته على بغض هذا الشعر فيقول: (لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ول أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله. الحديث). وانظر إلى قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)، وقوله أيضا في سورة الشعراء: (والشعراء يتبعه الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)

وقد انقضى عهد النبوة وعهد الخلافة في محاولة إصلاح الأدب العربي، والوصول بالشعر إلى تلك الغاية النبيلة. ثم جاء بعد هذين العهدين عهد بني مروان، وهم من بني أمية الذين كانت تغلب عليهم النعرة العربية، لما كان لهم قبل الإسلام من الزعامة في قريش، وهذه النعرة هي التي وقفت بهم على رأس المناوئين للدعوة التي أتى بها الإسلام، حتى أنهم لم يسلموا إلا بعد فتح مكة والسيف مصلت على رؤوسهم، وهي التي تأثروا بها في سياستهم حينما آل أمر المسلمين إليهم، فرجعوا بالشعر إلى نعرته العربية، وحولوه عن وجهته الإنسانية التي أخذ يسير عليها في عهد النبي وخلفائه الراشدين

فوقف لهم بنوا عمهم من بني هاشم، قوم النبي وعشيرته الأقربين، وهم الذين كانوا أول من بادر إلى الإيمان بدعوته، وفهموا حقيقة ما يدعوا إليه، وعرفوا أن هذا الدين للبشر عامة، لا للعرب خاصة، وأنه لا يصح أن يكون فيه فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)

وعلى هذا قامت الدعوة العباسية الهاشمية، فنشأت دولة إسلامية محضة، وكانت للعرب كما كانت للفرس وللقبط وللبربر وللترك ولغيرهم من الشعوب التي دانت للإسلام، وقليل من الناس من يفهم كما نفهم كيف قامت هذه الدعوة، وأنها كانت ثورة دينية سياسية أدبية، قام بها العباسيون ومن ناصرهم من الفرس وغيرهم، وأن غايتها كانت إقامة دولة للمسلمين لا للعرب خاصة، وانتهاج خطة جديدة تأخذ فيها بيد كل الشعوب التي دانت للإسلام، لتشترك في بناء الوحدة الإسلامية، وقد كان لهذا أثره العظيم في الدين والعلم والأدب والشعر، إذ أخذ العلماء من كل الشعوب يشتركون في بناء هذه الوحدة، وأخذ الأدباء والشعراء يقضون في الأدب والشعر على تلك النعرة العربية، ويعملون على تسهيل الشعر للناس، وتقيبه لتلك الشعوب الأعجمية التي رفعت رؤوسها في تلك الدولة، وكان أكثر أولئك الشعراء من أصل غير عربي، فانتهزوا فرصة قيام دولة العباسيين وإنصافها لهم، وقاموا بثورتهم الأدبية في عنف وشدة، حتى صاروا في الشعر أعلام هذه المدة من العصر العباسي، وضعف شأن الشعراء الذين كانوا من أصل عربي، إذ جمدوا في شعرهم على نعرتهم العربية، وعنايتهم بتفخيم لفظ الشعر وتجويد صناته أكثر من عنايتهم بتثقيفه وتهذيبه، والتفنن في معانيه وأغراضه، وقد عاد شأن هؤلاء الشعراء إلى الظهور حينما ظهر أبو تمام والبحتري وأضرابهما من الشعراء الذين تأثروا بأصلهم العربي، وأخذوا يعودون بالشعر إلى سنته القديمة

ولعل هذا الاسم (عصر الثورة العباسية) هو الاسم الذي يجدر أن تسمى به تلك المدة من ذلك العصر، فهو خير مما يسمونها به (صدر الدولة العباسية) وكثير منهم لا يراعي ما يمتاز الأدب به في هذه المدة عما بعدها من هذا العصر، فيجعل العصر العباسي كله عصرا واحدا، ويجري في هذا على ما كانوا يعتادونه من تقسيم عصور الأدب العربي إلى أقسام سياسية محظة، تتبع قيام الدول العربية وسقوطها، ولا تتأثر بغيرهما في بدئها ونهايتها، وقد كان أعلام الشعر في هذه المدة هؤلاء الشعراء الثلاثة - بشار - أبو نواس - أبو العتاهية - فلنوازن بينهم فيها.

عبد المتعال الصعيدي