الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 939/هل الأدب قد مات؟!

مجلة الرسالة/العدد 939/هل الأدب قد مات؟!

بتاريخ: 02 - 07 - 1951


لأستاذ سيد قطب

يقول لك الكثيرون: أن نعم! ويمصمصون شفاههم أسفا وحسرة، وهم يعدون لك شواهد الموت، ويصفون لك أعراض الوفاء، ويترحمون على الأيام القريبة التي كان للأدب قيها صولة وجولة، يوم أن كان حياة في ذاته، وكان مبعث حياة!

وما أريد أن أدفع عن الأب تهمة الموت، فقد تكون الحقيقة، ولكنني أريد أن أبحث عن القتلة! القتلة الذين فعلوا هذه الفعلة، والذين هم ماضون فيها للقضاء على الأنفس الأخيرة التي تتردد في تلك الجثة المسجاة!

انهم في نظرتي ثلاثة:

الأدباء أنفسهم بمعرفتهم الشخصية وعلى عهدتهم! والمدرسة المصرية بمعرفة وزارة المعارف العمومية!

والدولة كلها بمعرفة وزارة المالية ووزارة المواصلات!

هؤلاء هم المتهمون الثلاثة الذين خنقوا ذلك الأدب المسكين، حتى سقط جثة هامدة، والذين لا يزالون يخنقون ليلفظ الأنفاس الأخيرة التي ما تزال تتردد في فوت!

فكيف كان ذلك؟

فأما الأدباء فهم الذين انصرفوا كلهم أو معظمهم عن الإخلاص للأدب وللعمل الأدبي، لأن هذا الإخلاص يكلف جهدا ومشقه، ويكلف عزوفا عن شئ من الكسب المادي وعن فرقعه الشهيرة الكاذبة. انه يكلف صبرا على التجويد، وجهدا في الإخراج، ومعظم الأدباء - وبخاصة الذين يسمون الكبار - قد جرفتهم الحرب وما كان في إبانها من رواج في النشر، فانهالوا على السوق بإنتاج سريع (مسلوق) لأن هذا النتاج السريع يحقق لهم أرباح مادية عاجلة، ويعفيهم من جهد البحث وأمانة العمل، ويضخم في الوقت ذاته قائمة مطبوعاتهم في نظر الجماهير.

وقد أقبلت الجماهير عليهم في أول الأمر. ولكنهم شيئا فشيئا جعلوا يكررون أنفسهم، بل يهبطون عن مستواهم. . إنهم راحوا يجترون ما اختزنوه ولا يضيفون إليه شيئا، ولا يضيفون للحياة الأدبية والحياة الإنسانية جديدا.

وكان الكثير من أدباء الصف الثاني قد اتخذوا بيرق الشهرة التي ينالها المشهورون المكثرون، فركضوا كذلك في الطريق وباتت المطبعة وأصبحت فإذا هي تساقط على رؤوس القراء كتبا اقلها قيم ومعظمها هراء. . .

واستيقظت فطرة القراء القلائل بطبيعتهم في العربية، فإذا الإعراض والجفاء عن هذا المكرور المعاد من أعمال الأدباء، وعن الأدب كله عند كثرة القراء!

وصاب هذا ركود حركة النقد الأدبي، النقد الذي يزيف الزائف، ويستبقي الصحيح، والذي يخلق في الجو الأدبي حيوية ونشاطا وتطلعا وأخذا وردا ودفعة إلى الأمام.

والذي بقى من النقد انتهى إلى أن يكون أضحوكة ومهزلة فلقد تالفة شبه نقابات أو عصابات، كل نقابا منها أو عصابة موكلة بالدعاية (لمنتجات الشركة) التي تنتمي إليها بطريقة مفضوحة مكشوفة، ولا تخفى على ذوق القارئ، ولا تزيد على أن تقتل الثقة في نفسه بما يكتب وما يقال!

وامتدت هذه النقابات إلى دور الصحف والمجلات، فعسكرت كل منها في مجلة أو صحيفة، واصبح محرما على أي كتاب لا ينتمي صاحبة إلى (شلة) معينة أن يجد له من صفحات تلك المجلات والصحف نصيبا. وبهذا أتطبق البلاه على النقد وعلى الأدب سواء

واعجب العجب ما سمعته أخيرا من أن بعض المساهمين في المجلات أو الصحف من المؤلفين أو الناشرين، يرون أن هذه المجلات والصحف لا يجوز أن تنشر عن مؤلفاتهمإلا الحمد والثناء، وقد ذهب أحدهم غاضبا محتجا لان مجلة يساهم هو فيها ماليا قد نشرت نقدا لعمل مهلهل من أعماله!

وبذلك تحولت الصحف الأدبية - في هذا المجال - إلى مكاتب إعلان ودعاية لأصحابها والمساهمين فيها. ولم يكن بد للقراء أن يدركوا هذا فنفروا من المجلات الأدبية من الأدب والأدباء!

وأخيرا فقد تخلى معظم الأدباء عن هذه الأمة في كفاحها للحياة والبقاء. بل خانوها خيانة علنية واضحة.

إنني لا أؤمن بتجنيد الأدب والأدباء لخدمة الأغراض القريبة، والصراع الاجتماعي، في فترة محدودة؛ ولكني أؤمن بأن الأديب الذي لا يحس آلام أمته القريبة أو البعيدة هو أديب ميت لا يتجاوب معه الأحياء.

فإذا لم يستطيع الأدب أو لم يرد أن يشارك في المعركة الحاضرة فله هذا، ولكن على أن يهتف للإنسانية بأشواقها البعيدة وأهدافها الكبرى التي قد تجاوز هذا الجيل، وتتخطاه إلى أفاق أعلى من الصراع في فترة من الفترات.

وأعتقد - من تجاربي الخاصة - أن الجماهير قد أقبلت وما تزال تقبل على نوعين من الإنتاج:

نوع يشاركها، في كفاحها الحاضر، ويستمد منها ويمدها، ويتجاوب مع حاجاتها الموقوتة بهذا الصراع.

ونوع يحدو لها بآمال المستقبل، ويهتف بها إلى مدارج البشرية العليا، ويفتح لها كوى من النور في الظلام.

وإني لأعتقد أن هذا الإقبال دلالة على سلامة وعي هذه الأمة وفطرتها - على قلة القراء فيها وندرتهم - وأنها محقة في إهمال ذلك الركام المكرور التافه الذي تخرجه لها كثرة الكتاب والمؤلفين. وبخاصة أولئك الذين كانوا يوما ما يلقبون بكبار الأدباء!

ولست غافلا عن إقبال الجماهير في جانب الآخر على غثاء القصص والروايات والأفلام والصحافة؛ فلذلك اللون يغذي الجانب الهابط في نفس البشرية. وللإنسانية جانبها؛ وجذبها بخيط الصعود ممكن كجذبها بخيط الهبوط.

وحين لا تجد الأمم من أدبائها الجادين من يلبي حاجة روحها، أو حاجة عصرها، فهي معذورة حين تنكب على المخدرات التي تقدمها تلك القصص والروايات والأفلام!

ونسيت الشعر المسكين، وما رزأتنا به المطبعة في هذه السنوات الأخيرة من ركام يتفاخر أصحابه بضخامة الحجم وكثافة الوزن، ويستعينون بصداقاتهم وبوسائلهم الخفية على الخروج به على الناس في غيره ما خجل ولا حياء!

لقد نظر أحد أصدقائنا إلى ديوان من هذه الدواوين، وقد أكتنز شحما ولحما، وهزل معنى وروحا، ثم قلبه في يديه وقال: قديما كان يقال: حمار شغل. فيها نحن أولاء قد عشنا لنرى: حمار شعر!

وفي هذا الجو تختنق روح الشعر، أو الأنفاس المترددة في جوه الكظيم. ويكره الناس الشعر والشعراء، وينفرون من مجرد رؤية الدواوين، فضلا عما تحتويه من نظيم!

وما من شك أن القلة من البحوث وقلة من الروايات والقصص، وقلة من الدواوين والقصائد، قد أخرجت للناس في هذه الفترة وهي تستحق الاستجابة، وتستحق الانتباه.

ولقد لقي معظمها ما يستحقه في نفوس الناس من تقدير وإقبال. والذي خانه الحظ فلم يعرف طريقه إلى الناس، إنما جنت عليه غفلة النقد في هذا البلد، ومؤامرات النقابات والعصابات، وسوء ظن القارئ بالمطبعة والمجلة والنقد في هذه الأيام.

ولو نهض المخلصون من النقاد، ووجدوا من الصحافة الأدبية مشجعا لتطهير الجو من هذه الميكروبات السالبة فيه، لاستطاعوا أن يستعيدوا ثقة القارئ بالنقد الأدبي، تلك الثقة التي قضت عليها العصابات والأوكار!

وإني لأعتقد أن صفحات (الرسالة) لن تضيق بالنقد الحر المخلص، إذا أقبل به أهله في جرأة وفي إخلاص.

ذلك نصيب الأدباء في جريمة قتل الأدب. فأما نصيب المدرسة ووزارة المعارف، ونصيب الدولة كلها ممثلة في وزارة المالية ووزارة المواصلات، فموعدي بها قريب أشاء الله.

سيد قطب