مجلة الرسالة/العدد 939/مولانا محمد علي
→ موقف لكفار بدر لعل زعمائها يتدبرونه! | مجلة الرسالة - العدد 939 مولانا محمد علي [[مؤلف:|]] |
بريطانيا العظمى ← |
بتاريخ: 02 - 07 - 1951 |
للأستاذ علي محمد سرطاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
صدر العدد الأول من مجلة (ريفيو أف رليلجن) في كانون الثاني 1902، وقد جاء في تحديد أهداف المجلة ما يأتي: (إننا نرمي من وراء إصدار هذه المجلة إلى غايتين واضحتين: الأولى، أن نقود البشر إلى السراط المستقيم حين نعلمهم المثل العليا ونحبب إليهم الصدق والإيمان، وحين ننشر بينهم المعرفة الحقة، وأخيرا أن تصدر أعمالهم في الحياة عن المبادئ السامية التي أنزلها الله على نبيه في الإسلام. والثانية: أن نجذبهم بمغناطيسية قوية من روعة الدين تجعلهم يسيرون مسحورين، في طريق الهدى، وتوقظ في نفوسهم القوة التي تدفعهم تحت تأثيرها للعمل بأوامر الدين واجتناب نواهيه)
ثم يمضي في شرح الرسالة السامية وينتهي عند قوله: (وستقوم هذه المجلة بالدفاع عن قضية الدين الحنيف، وتقاوم كل المعتقدات الفاسدة الممعنة في الضلال المبين، تلك المعتقدات التي ليست في حد ذاتها غير تجاوز على ما يجب نحو الخالق أو على ما يجب نحو المخلوق)
وكانت المقالة الأولى التي ترجمها مولانا محمد علي في هذه المجلة هي تلك التي كتبها مؤسس الحركة الأحمدية لهذه المناسبة، وكان عنوانها: (كيف نتخلص من الذنوب)
وأخذت المجلة تركز أبحاثها على ما كان يضطرم في عقول الناس في تلك الفترة الزمنية، من القلق، والشك، والحيرة، ولم يمض على ذلك العمل غير سنوات ثلاث، حتى كانت المجلة قد أخذت طريقها إلى أرقى الأوساط في إنجلترا وأمريكا. وكان من أبرز السمات التي امتازت بها، تركيزها المحكم الدقيق في عرض مبادئ الإسلام عرضا موفقا بديعا، على الرغم من استهدافها لحملات عنيفة قاسية، قام بها رجال الدين من الإكليروس النصراني، ولكنها صمدت لهم وهزمتهم في عقر دورهم وأخرست الباطل في ألسنتهم.
وكانت في نفس مؤسس الأحمدية رغبة قوية في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، وقد صرح بذلك في كتابه المسمى (إبتالا أو هام) غير أن المنية لم تمهله ليرى ذلك الحلم الجميل حقيقة ناصعة، فسار إلى لقاء ربه في السادس والعشرين من أيار 1908، تاركا رئاسة الحركة التي أسسها إلى المرحوم مولانا نور الدين الذي أشتهر بين الناس بعلمه ودينه.
ودعي مولانا محمد على عام 1909 ليقوم بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وراح في صمت المؤمن، وصبر المجاهد، يواصل العمل طيلة سنوات ثمان. ولم يكن هذا العمل بالشيء اليسير، وإنما كان شائكاً معقداً وعر المسالك، تغلب عليه بهمة أقوى من راسيات الجبال، إذ كان التعليق على الآيات وتفسيرها ونقل معانيها، يتطلب دراسة أمهات كتب الأحاديث ومراجعة جميع المعروف من المعاجم العربية لأمانة نقل المعنى الذي ينطوي عليه اللفظ العربي، إلى الإنجليزية نقلاً صادقاً دقيقاً، وكان يعمل في كل يوم من تلك السنوات الثمان اثنتي عشرة ساعة عملاً متواصلاً، حتى إذا ما أتعبه الجلوس، انتصب قائماً واستعان على عمله بمنضدة مرتفعة يعمل عليها وهو واقف في يسر وسهولة.
وتمت الترجمة بكل ما أضيف إليها من حواش وتعاليق وشروح ومقدمات وأضيف إليها النص العربي، فبلغت الآلاف من الصفحات عام 1917.
وفي هذا الوقت بدأت الخلافات في الحركة الأحمدية وانشقت على نفسها، وهو أمر يستوجب الأسف والحزن، ولكنه أمر لم يكن منه بد، ذلك أن أصدقاء مؤسسي الأحمدية وأعداءه على السواء قد نالوا منه وشوهوا أهدافه وافتروا الضلال المبين عليه، لأن فئة قليلة من أتباعه، دفعتهم العاطفة، وحملهم الوهم على اعتباره نبياً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، واعتقدوا أن جميع الذين لا ينظرون إليه على هذا الشكل إنما هم كفرة خارجون عن حظيرة الدين الإسلامي.
وبعد وفاة مولانا نور الدين عام 1914، ترك مولانا محمد علي قاديان في شهر نيسان من تلك السنة، مبتعدا بنفسه عن تلك الفتنة التي أثارت هذا النزاع في قاديان، وأستقر في لاهور، وأسس الجمعية الأحمدية لإشاعة الإسلام فيها، وانقطعت صلته بالجماعة الأحمدية في قاديان منذ ذلك التاريخ. ولكن على الرغم من الواجبات العملية الشاقة التي تتطلبها رئاسته لتلك الجمعية الإسلامية، فإن أعماله الأدبية ونشاطه الفكري لا يزالان على روعتهما وشمولهما.
وأتم ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الأوردية بعد ظهور الطبعة الإنجليزية بسبع سنوات.
وهو كاتب من الطراز الأول، غزير الإنتاج، ألف عدداً كبيراً من الكتب عن التاريخ والدين الإسلامي باللغة الإنجليزية. ولقد كتب ما يقرب من عشرة آلاف صفحة باللغة الإنجليزية، وعشرة آلاف صفحة أخرى باللغة الأردية عن المواضيع الإسلامية.
قال المستر ماردوك باكتال وهو من الإنجليز الذين هداهم الله إلى الدين الإسلامي، من الذين تصدوا لترجمة معاني القرآن إلى الإنجليزية، عن كتاب مولانا محمد علي (دين الإسلام) الذي ألفه في اللغة الإنجليزية عام 1936 ما يأتي: (لم يستطع إنسان من المعاصرين أن يخدم الإسلام، بأوسع ما في الخدمة من معنى، كما استطاع مولانا محمد علي).
ويعتبر مولانا محمد علي من القلائل من بين بني الإنسان الذين يطيقون العمل المعقد المضني ويصبرون السنوات على احتماله بجلد عظيم. وليس ذلك كل ما يمتاز به، إنما يضاف إليه الترتيب في العمل، والاستفادة من الوقت على أحسن الوجوه بصورة لا يقدر أن يجاريه أي أوربي في مضمار من هذا النوع. وهو في عاداته شديد الاتزان شأنه في ذلك شأن دقته في الحكم على الأشياء والناس والمشاكل في عظائم الأمور. وعلى الرغم من عدم احترافه المحاماة، فإن دراسته العميقة للقانون جعلت أحكامه مبنية على الحقائق لا على العواطف المتغيرة. ولقد تركزت هذه الصفات الرائعة في الحركة الأحمدية التي رأسها في لاهور، وابتعد بذلك عن أتباع الحركة نفسها من المتطرفين في قاديان.
ومنذ موت مؤسس الأحمدية، تعرضت الحركة التي أسسها إلى عوامل مختلفة، داخلية وخارجية عنيفة، غير أن مولانا محمد علي وقف كالصخرة الراسية أمام هذه العواصف خشية أن تعصف بالناحية الروحية المثالية الرائعة التي هي رسالة هذه الحكمة في توجيه مبادئ الإسلام لخدمة الإنسانية.
لقد بلغ مولانا محمد علي من النجاح شأوا بعيدا قلما بلغة إنسان مثله، بسبب إيمانه العميق بالله، ذلك الأيمان الذي لم تكن لتقوى أعاصير الحياة على زعزعته، والذي كان يزيد في رسوخه ومتانته إدمانه قراءة القرآن، والأحاديث المأثورة عن الرسول، والذكريات القوية العميقة الجذور في عواطفه عن مؤسس الحركة الأحمدية، وخشوعه في صلواته التي لا تنقطع لله تعالى. وهو حين يصلي، كثيرا ما ينفصل عما يحيط به من عالم مادي، وينطلق بروحة إلى آفاق الغيب البعيدة عن حدود الدنيا، فتمر الدقائق وهو لا يشعر بما يدور حوله من حركة وما ينبعث عن الحياة من ضوضاء وتشويش.
ومن عادة مولانا محمد علي أن يستيقظ في الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، ولقد مرت عليه سبعون سنة وهو يستيقظ في هذا الموعد ليغتسل في مثل هذه الساعة المبكرة التي هي أحلى الساعات النوم عند الذين يعيشون بلا أهداف إنسانية عظيمة في الحياة، وما اضطربت هذه المواعيد مره في هذه السنين الطويلة، حتى إذا ما انتهى من الاستحمام، انهمك في صلاة التهجد حتى يطلع الفجر، ويؤذن لصلاة الصبح. ومن عادته أن يأخذ بعد ذلك قسطا من الرياضة البدنية بعد صلاة الصبح مباشرة، فيسير على قدميه مسافة تتراوح بين ثلاث أميال وخمسة أميال. ولم يقطع فريضة واحدة من الصلوات الخمس منذ أن كان طالبا في المدرسة وعمره لا يزيد على عشر سنين، ولم ينقطع عن صلاة التهجد الذي كان يشارك أستاذه ميرزا غلام أحمد منذ أن كان في الخامسة والعشرين من عمره السعيد.
ولعل بساطته، التي نسبته إلى حد بعيد، إلى بساطة الأطفال، ترجع إلى عمق اتصاله بالأبد وعالم الروح وهو على الأرض، وعلى الرغم من أن مولانا محمد علي يعيش في عالم يضطرب بالخداع والنفاق والغدر والنميمة والأذى، فإنه في أخلاقه كالكتاب المفتوح، يستطيع كل إنسان أن يقرأ فيه من النظر إلى قسمات وجهه كل ما يجيش في عواطفه من شعور السخط أو الغبطة؛ وهو كالمرأة الصافية الأديم، يرى الناظر فيها كل ما في تلك النفس العظيمة من استحسان أو استنكار، تلك النفس التي لا تعرف الخداع والتضليل والأباطيل.
والذين يعرفون مولانا محمد علي معرفة دقيقة من طول عهد الصحبة في مواكب الحياة، لا يذكرون مرة أنه مدح نفسه، أو أشار إلى ذلك من بعيد أو قريب، مهما حملت تلك الإشارة في طياتها.
وإنما يذكرون أنه دائما، يحصي على نفسه ذنوبها وهفواتها ويحاسبها حسابا عسيرا.
وبعد فهذه شخصية إسلامية جليلة القدر، بعيدة الأثر في خدمة الدين، تعمل أعمال الجبابرة وراء صمت التواضع ليكون العمل خالصا لوجه الله العظيم.
وسيمر الزمن وتتلفت الأجيال المقبلة من أبناء المسلمين إلى التراث الخالد الذي صنعه مولانا محمد علي لنشر الدين فتعطيه ما يستحقه من تقدير، وتنصفه من الحياة التي لا تسدد النظر في مواكبها إلا إلى الدجالين والمشعوذين، فيخلد مع الخالدين.
والآن وبعد مرور نصف قرن من جهاد مولانا محمد علي، ذلك الجهاد الذي فتح الآفاق الموصدة في وجه رسالة الإسلام الخالدة، يقف فوق الحياة بعد أن أشاع في ظلامها النور الإلهي الذي يبعث الرحمة إلى القلوب المعذبة فيها.
والعبيد المعذبون في أميركا، والمنبوذون المضطهدون في الهند، والشعوب التي تئن تحت المبادئ المزيفة التي صنعها الإنسان، ينتظرون الفجر الذي يبدد الظلام الذي يعيشون فيه، من عدالة الإسلام ومبادئه الإنسانية الخالدة.
أمد الله في عمر مولانا محمد علي، ونفع به، وأعز به الإسلام، وجزاه خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين.
بغداد
علي محمد سرطاوي